نحو تجديد الفكر التربوي في العالم الإسلامي-1-

 

هذا بحث مقدم للندوة الإسلامية في القيروان بتونس في 1 / 12 / 1984، نشر في مجلة المسلم المعاصر في العد 42 : ربيع الآخر، جمادى الأولى وجمادى الآخرة 1405 .للعالم الكبير محمد فاضل الجمالي العراقي المتوفى بتونس 1997 عن خمسة وتسعين عاما. 

وقد استحسن الأخ الكريم طارق قباوة ؛ المشرف الفني على موقع رابطة العلماء السوريين إعادة نشرها فقام برقمها. وقمت بمقابلتها وتصحيحها. 

ونرجو أن يكون إحياء هذا البحث تجديداً لبعض آثار هذا العالم التربوي الكبير الدكتور محمد فاضل الجمالي ، ومناقشة بعض ما دعا إليه في تجديد الفكر التربوي في العالم الإسلامي.

مجد مكي

 

كل ما في الخليقة يتجدد ويتغير باستمرار. تلك سنة الله تعالى في خلقة. والكائنات الحية تتجدد وتتغير وفق تغير الظروف الطبيعية من الخارج، ووفق فعالية الجسم والفكر من الداخل. ولما كان الفكر التربوي في العالم الإسلامي نتاجاً لحيوية الإنسان المسلم فانه يخضع بدوره للناموس العام، ناموس التطور والتجدد. والمجتمعات الإسلامية تتطور وتتجدد كلما دأبت على تجديد فكرها التربوي، وترقد وتتخلف كلما توقف وتخلف فكرها التربوي.

وتجديد الفكر التربوي لا يعني هدم أو مسخ ما هو قائم، بل يعني إدامته مع إصلاح ما انتابه من خلل، وإضافة ما تتطلبه الأحوال والحاجات الجديدة من إضافات، وحذف ما أصبح غير ملائم للظروف المستجدَّة. 

وإن الدعوة إلى التجديد ليست بدعة، بل هي جزء من تعاليم الإسلام الخالدة التي وردت في الحديث الشريف: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة ما يجدّ د لها أمر دينها
رواه أبوداود،وصححه الحاكم والسخاوي في المقاصد الحسنة،والألباني في السلسلة الصحيحة.

وتجديد الفكر التربوي الإسلامي ، يتطلب إعادة النظر في شئون التربية الإسلامية كما تمارس اليوم في البيت وفي المدرسة وفي البيئة الثالثة وما تحويه من مؤسسات دينية واجتماعية واقتصادية وسياسية. فقد تقدم المسلمون يوم كان الفكر التربوي الإسلامي حياً نامياً ومتجدداً، وتأخر المسلمون يوم ركد الفكر التربوي الإسلامي، وساد العالم الإسلامي الجمود الفكري والتعصب والتشرذم، فإذا شاء المسلمون اليوم تحقيق النهضة الشاملة والارتقاء لابدّ لهم أن يفكروا في تجديد التربية، ويتساءلوا: ما هو التجديد الذي نريده للفكر التربوي؟ وما هو مصدره؟

إن التجديد الذي نريده للفكر التربوي الإسلامي ينبع من درسنا:

(1) دراسة جديدة متعمقة وشاملة للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وتراثنا التربوي الإسلامي.

(2) مشاكلنا الإسلامية المعاصرة ، وآمالنا وطموحاتنا المستقبلية.

(3) درسنا للتطورات العلمية والتقنيات وما يرافقها من تنظيمات تربوية واقتصادية واجتماعية في البلاد المتقدمة.

وعلى ضوء هذه الدراسات نعيد النظر في أهدافنا التربوية ومحتويات برامجنا التربوية والتعليمية، والوسائل والأساليب المتبعة لتحقيق الأهداف فنصوغها من جديد، وها نحن فيما يلي نبدي بإيجاز كلّي اجتهادنا الشخصي في كلٍّ من هذه النواحي.

التجديد في تحديد الأهداف:

إن التربية السائدة في العالم الإسلامي اليوم قد يعوزها وحدة الأهداف التربوية ووضوحها أحياناً. 

فهناك تربية إسلامية تعد الفرد للحياة الإسلامية الحاضرة ، وإبقاء ما فيها من ضعف في العلاقات الإنسانية، وتخلف في الحياة العلمية والعملية. 

وهناك تربية إسلامية تحاول اقتباس نظم غربية وفلسفة تربوية غربية مع إضافة شيء من علوم الدين والحضارة الإسلامية، ولكنها لم تفلح في تحقيق وحدة الهدف، ووحدة الثقافة بعد.

فما هو الهدف الجديد الذي نريده لتربيتنا؟

الجواب يقودنا إلى استعراض بعض الأهداف الجديدة الشائعة أولاً ، ثم اقتراح الأهداف الموحّدة التي ندعو إليها.

من الأقوال المعروفة قديماً وحديثاً عند العديد من كبار المربين: إن هدف التربية الأول هو (تحقيق إنسانية الإنسان)، وهو هدف عام شامل ليس لأحدنا أن يعترض عليه بسهولة ولكن المشكل يظهر حين نتساءل :(وما هي إنسانية الإنسان) وما هو الإنسان؟ هل هو ما عبر عنه أبو العلاء حين قال: (والذي حارت البرّية فيه حيوان مستحدث من جماد) أم هو ما عبر عنه الإمام علي ابن أبي طالب رضي الله عنه حين قال:

أتزعم أنك جرم صغير=وفيك انطوى العالم الأكبر

وأنت الكتاب المبين الذي=بأحرفه يظهر المضمر

الكل يتفق على أن الإنسان حيوان يشارك الحيوانات العليا: في الحركة والنمو والتكاثر وإنه يسعى للبقاء عن طريق الغذاء والتناسل، ولكنه يمتاز بانتصاب قامته وكبر دماغه بالنسبة لحجم جسده. له إبهام يمكّنه من سهولة صنع الآلة، ثم إنه حيوان ناطق يستعمل اللغة ويعبر عن مقاصد وأفكار في حياته الاجتماعية. فهو اجتماعي ثم إنه يفكر، ويبدع، ويحب الجمال، وذو ضمير أخلاقي. وفوق كل ما مّر إنه صانع حضارة. وأعتقد أن ما قاله أبو العلاء يقف عند هذا الحدّ.

أما الإمام علي رضي الله عنه فإنه يضيف على كل ما مّر المسمَّى صفة يمتاز بها الإنسان ألا وهي الصفة الروحية الدينيّة التي تولد الإيمان في الإنسان. 

وهنا يختلف الفلاسفة الماديون مع المؤمنين، فالماديون لا يؤمنون بالله تعالى، والمؤمنون يعتقدون بأن الإنسان هو الحيوان الوحيد على وجه الكرة الأرضية الذي في وسعه أن يرتقي بفكره إلى ما فوق ذاته، فيرى الوحدة والترابط بين عناصر الوجود، فيرتقي إلى الإيمان بالله تعالى خالق الوجود. 

فالإيمان يصبح أسمى ميزة يمتاز بها الإنسان. إنّه القمة في إنسانية الإنسان. فإذا اتفقنا على أنَّ الهدف التربوي الإسلامي هو تحقيق إنسانية الإنسان فلابدَّ من تنشئة وتنمية هذه الإنسانية من كل جوانبها فلا يقتصر العمل التربوي على حشو الأدمغة بالمعلومات لغرض اجتياز الامتحانات والحصول على الشهادات. فكم من حامل شهادة عليا (وقد يكون عالماً حقاً) في موضوع اختصاصه ولكنه لم يستكمل خصائصه الإنسانية بعد.

هناك تعبير جديد معاصر عن هدف التربية ألا وهو اعتبار أبناء الشعب عموماً ثروة بشرية تملكها الأمة. ومهمة التربية تتلخص في تنمية هذه الثروة إلى أقصى حدّ، واستثمارها أحسن استثمار. 

إنه تعبير عن الهدف بلغة الاقتصاد وهو مقبول ولا شك بشرط أن تكون التنمية للثروة البشرية شاملة لإنسانية الإنسان من كل جوانبها وليس من جوانبها المادية فحسب. 

فإذا تحقق ذلك فيكون هذا التعبير عن الهدف مكمِّلاً للتعبير عن أن هدف التربية الأسمى هو تحقيق إنسانية الإنسان.

إن هذا التعريف فيه تحدّ للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فكم من ملايين المسلمين لم تستثمر مواهبهم وطاقاتهم كلها للخير ، بل بقيت مهملة أو أنّها وجهت للشر !!

وكم من مئات ألوف المسلمين أتلفت أرواحهم بالحروب والفتن دون أن تستثمر. 

وكم منا من لديه إمكانات وقابليات ثمينة لم تُعبَّأ للخدمة في حياة الأمة ونهضتها بعد. فمهمة التربية -حسب هذا الهداف- تبدأ باكتشاف مواهب أبناء الأمة باعتبارها رأس المال البشري، واستثمار رأس المال هذا أفضل استثمار.

وهناك من يجعل هدف التربية (إعداد الإنسان للحياة) ويعلق على هذا التعريف آخر فيقول: ( التربية" ينبغي أن تكون" هي الحياة ). فواجب التربية إذن أن تعد الفرد ليعيش عيشه هنيئة في الحاضر، وتعده لمستقبل زاهر.

هذا التعريف للهدف، فيه جاذبية، وفيه حيوية وواقعية، ولكنه يضعنا أمام مشكلتين: الأولى: ما هي الحياة التي نريدها ونعتبرها جيدة ؟ والثانية: من يضمن صحة تنبّئنا عن طريق المستقبل الذي نقوم بالإعداد له ؟ 

وفي هذا الهدف مزّية كبري تستحق أخدها بعين الاعتبار ألا وهي التخلص من مواد كثيرة في برامجنا التعليمية لا تفيد الطالب لا في حياته الحاضرة ولا في مستقبله، يمكن استبدالها بمواد أكثر ارتباطاً بالحياة.

نحن كمسلمين في وسعنا أن نستفيد من هذه التعاريف لأهداف التربية وللعديد من أمثالها ، وفي الوقت نفسه نقترح للتربية في العالم الإسلامي هدفاً جديداً ألا وهو (تنشئة المسلم الجديد) ففي العالم الإسلامي اليوم يقظة شاملة وصحو جديد. 

فعلى التربية الإسلامية أن تستهدف (تكوين المسلم الجديد) والمهمّ الآن أن نحدد ما الذي نعنيه بالمسلم الجديد؟ وما هي مزاياه وصفاته؟ 

المسلم الجديد في نظرنا هو من:

(1) ينشأ مؤمناً بالله تعالى، صادق العقيدة، محبّاً للحق والحقيقة، يؤدي فرائضه الدينية وواجباته المدنيّة على الوجه الأتم، يتحلى بالأخلاق الإسلامية الفاضلة، ويمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(2) يسعى جهده للتخلص من كل نواحي الضعف التي ورثها المسلمون من عصور التخلف والاستعمار كالفقر والجهل والمرض والغصب والفوضى والاستبداد والتحلل الأخلاقي والخرافات والتقاليد البالية.

(3) أن يعيش صحيح الجسم وسليم العقل ناشطاً ومتعاوناً ومنتجاً في حياته العائلية والاجتماعية.

(4) أن ينشأ صادقاً في ولائه لأمته ووطنه، مطيعاً لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر، مستعداً للتضحية بالنفس والنفيس دفاعاً عن الدين والأمة والوطن.

(5) أن يأخذ بتلابيب العالم والتقنيات الحديثة، ويبرع فيها فيصبح منتجاً أكثر منه مستهلكاً.

(6) أن يكون متفتحاً على العالم في كل حقول الحياة، مدركاً ضرورة الترابط والتعاون بين مختلف الأمم والشعوب على أساس الحق والكرامة. يلتقط المعرفة والحكمة أنّى وجدها، ويقدم للعالم مما عندنا من زاد مادّي ومعنوي.

أعتقد أن المزايا للمسلم الجديد الذي نريده هي الحد الأدنى للأهداف التربوية التي نقترحها للعالم الإسلامي.

إنها تحتفظ بكل ما هو غال وثمين في حياتنا الإسلامية. كما إنها تتخلص من كل ما هو سقيم وعقيم في حياتنا الحاضرة. مع السير قدماً إلى الأمام وإلى الأعلى!

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين