ذكر جميل لأيام في القدس والخليل (19)

قرية العيزرية:

أممت مع أهلي وبناتي قرية العيزرية في الساعة الحادية عشرة راكبي سيارة أجرة، منجدين ومتهمين بين جبال ووديان، في طرق ملتوية خضراء محدقة بالبيت الذي بارك الله حوله، متلاصقة أجسادنا بزماننا ومكاننا، ومسافرة مُهَجنا مع صفوة من خلق الله سكنوا هذه الديار أو مروا بها مرورا، ووصلنا إلى القرية في نصف ساعة قاطعي مسافة آلاف السنين، وكأن المعراج رزق قد قُسم لكل من عشق أرض الإسراء والمعراج هائمة بها نفسه هيمانا.

تقع العيزرية في سفح جبل الزيتون على بعد كلومترين شرقي القدس، يحدها من الجنوب بلدة أبوديس، ومن الغرب رأس العامود والمسجد الاقصى، ومن معالمها مسجد سيدنا العزير، ودير قديم، والقناطر، ومغارة العيزر، وخان الحوض وقد بناه عبد الملك بن مروان على طريق العيزرية إلى أريحا.

وحول القرية مستعمرات لليهود منفصلة عما حولها انفصالا، محرومة من بركات هذه البقعة الميمونة حرمانا، زاهدا سكانها في عبادة الله تعالى، مقطوعي الصلة عن سنن الأنبياء والمرسلين، وغارقين في حب الدنيا وشهواتها مستكبرين مستهترين.

مسجد العزير:

ليس لدي عنوان منزل الشيخ الأزبكي فأوينا إلى مسجد العزير في القرية ننتظره، ويعتبر ثاني أقدم مسجد بعد الأقصى، ولا يزال المسجد عامراً تصلى فيه كل الصلوات والجمع، مكتوب على المسجد: أسس مسجد العزير في عهد الفاتح صلاح الدين الأيوبي لدى تحريره بيت المقدس عام 583/1187، وجددت عمارته زمن الظاهر بيبرس عام 670/1271، وجرى ترميمه وعمارته زمن العثمانيين من قبل السلطان الغازي عبد الحميد الثاني عام 1316/1899، رمم على فترات متلاحقة وشيدت له مئذنة عام 1373/1953، وبجانب المسجد كنيسة مكتوب عليها قبر النبي عزير.

وأكرمنا أهل المسجد، وفيه جناح خاص بالنساء، التجأت إليه أهلي وبناتي، واتصلت بالشيخ يوسف وأخبرته بكوننا في المسجد، فرحب بنا ساعيا إلينا.

وفي المسجد مكان لتوفير الماء البارد، فيتردد إليه الأولاد لشربه، ولقد حزَّت قلبي هيئتهم يقزعون رؤوسهم تقليدا لليهود ويسمعون أغانيهم متشبهين بهم.

ولحق بنا الأخ يوسف الأزبكي غير مؤخر عنا، وتجول بنا في المسجد ساردا لنا تاريخه وواصفا ما مرَّ به وما حواه، وقال: من الناس من يرى أن هنا قبر عزير عليه السلام، وأن هذه هي القرية التي مر بها فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ ومنهم من يقول: إن عازر كان من أصحاب عيسى عليه السلام، فمر عيسى عليه السلام بهذه القرية فأراد أن يزوره فقيل: إنه مات فأحياه بإذن الله وكلَّمه تكليما.

جامعة القدس:

وركبنا سيارة الشيخ الأزبكي إلى با ديس، ومررنا بالحائط الكبير العازل المنصوب حاجزا بين سكانها وبين القدس، ويسمى الجدار العنصري، والمسجد الأقصى منها على مسافة عشر دقائق مشيا على الأقدام، تتراءى منها منها قبة الصخرة المشرفة، ويسمع أذان المسجد الأقصى، وقد حرم أهالي البلدة من الصلاة فيه، بل إن الجدار اخترقها وقسم العائلات إلى قسمين بين جانبي الجدار.

ثم تجولنا في جامعة القدس وصلينا الظهر والعصر جمعا في مسجد الجامعة، أسست الجامعة سنة 1984، يقع مبناها الرئيسي في مدينة أبو ديس، وتحتوي على كليات موزعة على أربعة مواقع، منها: كلية الآداب، والعلوم والتكنولوجيا، والطب والصيدلة، والفقه والقانون، والقرآن والدراسات الإسلامية، وكلية الدعوة وأصول الدين، والتعليم، والإدارة والاقتصاد.

قرية بو ديس:

وتجولنا في قرية بوديس، والتي تقع شرق القدس ملاصقة لها، ولعل إنشاءها يرجع إلى العهد الروماني، وقد عسكر فيها الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، وفيها مسجد ينسب إليه. 

الشيخ حسام الدين:

وزرنا في القرية العلامة الكبير الشيخ حسام الدين موسى عفانة، وهو عالم فقيه ومفت وكاتب معروف، وأستاذ الفقه والأصول في جامعة القدس، وصاحب سلسلة يسألونك الفقهية، والمشرف العام على شبكة يسألونك، ولد في بلدة أبوديس سنة 1374هـ الموافق1955م، وتخرج من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة وجامعة أم القرى.

ومن مؤلفاته: بيان معاني البديع في أصول الفقه (رسالة الدكتوراه)، ويسألونك (أجزاء كثيرة)، وشرح الورقات في أصول الفقه لجلال الدين المحلي (دراسة وتعليق وتحقيق)، والفتاوى الشرعية، وأحاديث الطائفة الظاهرة وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

استقبلني الشيخ في منزله مرحِّبا بي محتفيا، وحدثني عن دراسته في المدينة المنورة ومكة المكرمة، وسألني عن أبحاثي ودراساتي ومؤلفاتي بالعربية والإنكليزية، وأثنى على علماء الهند مشيدا بفضلهم ومنوها بشأنهم، ولا سيما العلامة أبا الحسنات عبد الحي اللكنوي، وعرَّفته بالعلامة عبد الحميد الفراهي ومؤلفاته القرآنية، شارحا نظريته في نظام كتاب الله تعالى.

وسلط الضوء على صلة المجاهد الكبير أمين الحسيني مفتي فلسطين مع شيخنا أبي الحسن علي الندوي رحمهما الله تعالى، وأكد أنه يريد إنشاء قسم في جامعة القدس حول الدراسة عن المسجد الأقصى وبناء مكتبة خاصة عنه، وهذا المشروع يكلف نحو نصف مليون دولار، وأن بعض الجهات التركية وعدت بتوفير هذا المبلغ، وأهدى الشيخ إلي بعض مطبوعاته.

الرجوع إلى الفندق:

ورجعنا بالحافلة إلى الفندق الساعة الرابعة إلا الربع، وفي الطريق مررنا بالحاجز ونقطة التنفتيش، وتوثب جنديان في الحافلة مصوِّبين إلينا بندقيتيهما وتحدثا مع الركاب الفلسطينيين في لهجة عنيفة جدا، وأنزلا بعضهم عن الحافلة، وأنزلا بنتي فاطمة وعائشة، فاحتججت على ذلك، فغضبا عليَّ وأنزلاني وأهلي، وأقامانا في طابور نمر فيه بغطاء مغلق تماما كأنه سرداب، مفتشين كل واحد منا تفتيشا، فتأسفت جدا على مبالغتهم في استخدام القوة واستغربت ما يعيشه هؤلاء القوم من ذعر ورعب، لا أمَّنهم الله تعالى.

باب لد:

خرجنا من الفندق حوالي الساعة السادسة مساءا لزيارة باب لد مجتازين طرقا وشوارع محفوفة بأشجار الغرقد، والغرقد شجيرة جاثية على الأرض لا ساق لها، متشابكة العروق والأطراف، لها شوك صلبة ذات تأثير سام، ولها رائحة نتنة، لا تؤكل ثمارها، وأوراقها ملعقية ضيقة خضراء شبه صفراء، وورد في الحديث أنها من شجر اليهود، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود.

وصلنا إلى باب لد في الساعة السادسة والنصف، ولُد بالقرب من الرملة على نحو ميلين منها، وتحدثت هنا عن الدجال، راويا أحاديث مختلفة، منها أن عيسى ابن مريم عليهما السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيأتي الدجال وقد حصر المسلمون على عقبة أفيق، فيهرب منه فيقتله عند باب لد الشرقي، وأن الدجال إذا رأى عيسى ذاب كما يذوب الملح في الماء، لو تركه لمات، لكنه يقتله عند باب لد.

الزاوية الهندية:

رجعنا إلى الفندق حوالي الساعة السابعة والنصف، ثم تعشينا، وخرجنا إلى المسجد لصلاة العشاء، وفي الطريق إلى المسجد زرنا الزاوية الهندية عند باب الساهرة، وأسست الزاوية ذكرى لزيارة العالم الصوفي الهندي الشهير بابا فريد الدين مسعود كنج شكر الأجودهني من كبار مشايخ الطريقة الجشتية (ت 664هـ) لمدينة القدس، فيها فناء واسع تحيط به الأشجار، وغرف، ومطبخ، ومسجد، وغرفة تنسب إلى بابا فريد، ومكتبة ومعرض للصور يحتضن صورا تاريخية وحديثة لشخصيات فلسطينية وهندية بارزة حضرت الزاوية.

الشيخ أبو سنينة:

وبعد العشاء لقينا الشيخ يوسف أبا سنينة، ثم صعدنا إلى شارع صلاح الدين للتسوق فيها، فإذا المحلات كلها مغلقة من أجل العيد فرجعنا إلى المنزل، وصادفنا الإمام أبا سنينة مرة أخرى في الفندق وأهدى إلينا هدايا، ثم ارتقينا سطح الفندق وسجلت كلمات لمطبعة البروج عن انطباعاتي حول هذه الرحلة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين