ذكر جميل لأيام في القدس والخليل (18)

 

اجتماع صلاتي العيد والجمعة:

صليت الفجر في المسجد، ومكثت أتحين صلاة العيد، وأثناء قعودي سألني بعضهم عن اجتماع العيد والجمعة، هل تجزئ إحدى الصلاتين عن الأخرى، فقلت: ذهب الحنفية وجماعة معهم من الفقهاء أنه لا بد من أداء الصلاتين، وأن إحداهما لا تجزئ عن الأخرى، بينما ذهب آخرون إلى الترخص في الاقتصار على إحداهما، وقد ناقش كثير من الفقهاء المسألة نقاشا مفصلا، ولعل أروع بيان لها ما كتبه ابن تيمية رحمه الله تعالى: إذا اجتمع الجمعة والعيد في يوم واحد فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تجب الجمعة على من شهد العيد، كما تجب سائر الجمع للعمومات الدالة على وجوب الجمعة . الثاني: تسقط عن أهل البر، مثل أهل العوالي والشواذ، لأن عثمان بن عفان أرخص لهم في ترك الجمعة لما صلى بهم العيد. والقول الثالث: وهو الصحيح: أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها، ومن لم يشهد العيد، وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: كعمر، وعثمان، و ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير وغيرهم .ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف، وأصحاب القولين المتقدمين لم يبلغهم ما في ذلك من السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمع في يومه عيدان صلى العيد ثم رخص في الجمعة، وفي لفظ أنه قال: أيها الناس إنكم قد أصبتم خيرا، فمن شاء أن يشهد الجمعة فليشهد، فإنا مجمعون"، وأيضاً فإنه إذا شهد العيد حصل مقصود الاجتماع، ثم إنه يصلي الظهر إذا لم يشهد الجمعة، فتكون الظهر في وقتها، والعيد يحصل مقصود الجمعة .وفي إيجابها على الناس تضييق عليهم، وتكدير لمقصود عيدهم، وما سن لهم من السرور فيه، والانبساط، فإذا حبسوا عن ذلك عاد العيد على مقصوده بالإبطال، ولأن يوم الجمعة عيد، ويوم الفطر والنحر عيد، ومن شأن الشارع إذا اجتمع عبادتان من جنس واحد أدخل إحداهما في الأخرى، كما يدخل الوضوء في الغسل، وأحد الغسلين في الآخر. والله أعلم.

صلاة العيد:

صلى الإمام العيد بالناس وكبر في الركعة الأولى قبل الفاتحة سبع تكبيرات، وفي الركعة الثانية قبل الفاتحة خمس تكبيرات لما روي عن النّبي أنه قال: "التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما"، واختلف العلماء في التكبير اختلافا ليس هذا بموضع لبيانه.

وخطب الإمام بعد الصلاة خطبتين يكبر في أثنائهما تكبيرا، والتكبير هنا كثير، ما زالت ترتفع أصوات الناس به منذ صلاة الفجر وتدوي تدوية، دعا المسلمين في الخطبة الأولى إلى البر بالوالدين، وصلة الأرحام والإحسان إلى ذوي القربى، واستلفت في الخطبة الثانية الأنظار إلى سوء الوضع في فلسطين ناعيا على الحصار المفروض على أهل غزة والمحبوسين في السجون، ودعا الله لفك الحصار وتنجية الناس من الظلم والاضطهاد، ووقع في قلبي أن هذه الدعوات لو دعا بها الكفار لأجابهم ربهم فكيف لا يجيب دعوة المؤمنين به والمسلمين له إسلاما، وهو رؤوف بهم رحيم.

وخلال رجوعي رأيت أتباع الحركات الإسلامية ومن والاهم يهتفون هتافات سياسية ونعرات يجددون فيها عهودهم باسترداد المقدسات وأراضي فلسطين من مغتصبيها وينددون الظالمين المفسدين في الأرض.

الفطور في الفندق:

ورجعنا إلى الفندق وأفطرنا في مطعمه وتبادلنا التهانئ، وسألوني عن الكلمات والآثار الواردة في تبادل التهانئ والمعانقة والمصافحة، وسنة تبادل الهدايا، فأجبت بما صح لدي، وفقنا الله تعالى التأسي بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعصمنا من الابتداع والتشبه بالكفار والمشركين.

صلاة الجمعة:

ودخلنا المسجد لصلاة الجمعة الساعة الواحدة إلا الربع، والمسجد شاغر لم يحضره إلا عدد قليل من الناس مستغنين بأولى الصلاتين عن الثانية آخذين بالرخصة، فصلينا في وسط المسجد القبلي قريبا من موقف الإمام.

وخطب الشيخ أبو سنينة: لقد عشتم أياما مباركة في شهر رمضان، وإنما يتقبل الله من المتقين المخلصين، والمخلص من يعمل لله، وفقكم الله للصلاة في هذا المسجد المقدس فهنيئا لكم. وتلا قوله تعالى: "قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى"، ودعا الناس إلى التوبة والاستغفار، وحثهم على قلة الكلام وقلة المنام وقلة الطعام، وقال: إياكم والعصيان، اتقوا واصبروا وصابروا ورابطوا، وأكثروا من الاستغفار في الليل وبالأسحار.

وقام للخطبة الثانية وقال: ليس العيد لمن لبس الجديد، وذكر وطأة الحصار على الناس، ودعا بدعوات، سمعها الله وأجابها، إنه سميع مجيب قريب.

درس:

فئنا إلى المسجد الأقصى في الساعة الثالثة، ولي درس في داخل المسجد القبلي حول وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام، "ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون".

وذكرت أن المطلوب هو الإسلام التام لله تعالى، وهو إسلام القلب والجوارح له، وإذا أسلمت الجوارح دون القلب ظهر الفسق والنفاق والفساد، نسأل الله إيمانا صادقا وعملا صالحا متقبلا في قنوت تام وإنابة وإخبات. 

رحلة إلى يافا:

ركبنا بعد صلاة العصر حافلة إلى مدينة يافا مارين في الطريق بباب لد والرملة، تقع يافا على ساحل البحر، وتبعد عن القدس حوالي 55 كم من جهة الغرب، وهو اسم كنعاني يعني الجميل أو المنظر الجميل، ويعتبر ميناؤها من أقدم موانيء العالم، والذي يعود تاريخه إلى أكثر من أربعة الآف عام، استولت اليهود عليها وطردوا سكانها في نكبة سنة 1948م، فعدد الفلسطينين المسلمين والمسيحيين فيها قليل.

العشاء في مطعم:

وتعشينا في مطعم أبو العافية المطل على ساحل البحر في يافا، المتميز بالعراقة والأصالة والتمسك بالعادات والتقاليد للضيافة العربية، ويجذب إليه الزبائن والوافدين من مختلف أنحاء البلاد، والسياح الأجانب مقدما إليهم المأكولات اللذيذة والأطعمة الشهية، لعل أبرزها أكلات السمك التي تحضر بالطريقة القديمة والتي يتم وضعها في الطابون، والمطعم كبير وغال ومزدحم بالناس، ورأينا مشاهد من اختلاط الرجال والنساء المحتفلين بيوم العيد في ملابس بعيدة عن الحياء والحشمة وحركات قريبة من التهتك والخلاعة ما تأسفنا له، ونهضنا من هنا مستعجلين وصلينا المغرب في مسجد كبير مشينا إليه على أقدامنا.

تل أبيب:

وصعدنا الحافلة والتي أقلتنا إلى مسجد تركي قديم بقرب تل أبيب، يسمى مسجد حسن بيك، ويقع بارتفاعه الشاهق على ساحل البحر الأبيض المتوسط على الطريق السريع المؤدي إلى يافا، ويعتبر من المساجد التاريخية والمعروفة في المنطقة، ويتميز بالطراز المعماري العثماني الفريد، وتعود تسميته إلى حسن بك الحاكم العربي لبلدة يافا خلال الحكم العثماني.

ثم تنزهنا على الساحل أكثر من ساعة، وكان الهواء لطيفا والمنظر جميلا، ومررنا بخمارة محرقة، قيل: إن انتحاريا فجر فيها نفسه فأغلقت.

وعاينا أسرا فلسطينية تحتفل بالعيد على ساحل البحر، ولكن ملابسهم وملابس نسائهم مما يتندى له الجبين، فأين العلماء والمذكرون؟

رجوعنا إلى القدس:

واعتلينا الحافلة في الساعة العاشرة إلى القدس، وفي الطريق سألوني عن التصوف والبيعة والطرق والسلاسل، وعن صوم الست في شوال، وهل يقدم قضاء الفرض على النفل، وسألوني عن وضع المدارس الإسلامية في بريطانيا.

وسألوني عن شيخنا أبي الحسن الندوي وعن علاقتي به، فذكرت ترجمته، وسألوني عن القدر، وسألوني عن أفضل الكتَّاب المؤلفين بالأردية، فذكرت أسماء العلامة شبلي النعماني والعلامة السيد سليمان الندوي ومولانا أبي الكلام آزاد ومولانا أبي الأعلى المودودي.

في الفندق:

ووصلنا إلى الفندق بعد الحادية عشرة ليلا، فاتصلت بالشيخ يوسف الأوزبكي، واتفقنا أن نزور قريته غدا وقت الظهر.

وكانت النساء من رفاقنا قد طبخن طعاما للعيد فشكون أنا لم نتعش معهن، فتناولت معهن الشاي، وجرى الحديث عن تاريخ المسجد الأقصى والهيكل السليماني ومبنى هيرودس، ثم رجعنا إلى غرفنا واسترحنا في الليل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين