التربية الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين -9-

النهم المعرفي:

منهومان لا يشبعان: طالب مال وطالب علم...كلاهما يشبهان كذلك بالنار كلما أعطيتها، قالت: هل من مزيد؟

فهناك الكثير مما يمكن أن يقال عن أن جزءاً أساسياً من الفطرة التي خلق الله الإنسان عليها هي (حب الاستطلاع) وهو الذي يترجم عملياً إلى ميل فطري إلى الاستزادة من المعرفة، ذلك أن الإنسان كلما توافرت لديه معلومات عن جانب من جوانب الحياة، اعتبر ذلك امتداداً يستطيع أن يبسط عليها نفوذه، واعتبر ذلك أيضاً توسعة نطاق إرادة الإنسان.

لكننا أصبحنا خبراء بكل الأسف وبكل الأسى في بذور الجفوة بين الإنسان وطلب المعرفة بتلك الأساليب والنظم التي ابتكرناها في نظم التعليم، وفي مقدمتها نظام التعليم، وفي مقدمتها نظام الامتحان.

نظام الامتحان: 

لقد تحول إلى محكمة لإصدار حكم على الطالب بالنجاح أو الفشل، وارتبطت به نتائج ذات أثر كبير على مستقبل الطالب، وتطلُّع كل من يحيطون به، فأصبحت الامتحانات مقرونة بالخوف والقلق والتوتر.

ولما كان طلب المعرفة لابد أن ينتهي بامتحان، انسحبت هذه المشاعر المشار إليها إلى عمليتي التعلم والتعليم، وهكذا نرى الطالب بعد أن ينتهي من امتحاناته يعمد إلى الكتب وكأنها عدو له فيقذف بها بعيداً لا يريد أن تذكره بأيام سوداء.

ولأن الإنسان نهم إلى المعرفة، ويتطلع إلى الجديد، هرع الشباب إلى أن يطلبوه في أشياء أخرى: في أغان ورقصات وتقاليع وانحرافات وأفلام وغير هذا وذاك من مصادر أخرى الله أعلم بما تحويه من مدمرات وصور تخريب وأساليب تقويض.

إن الإنسان يبدأ طفلاً في ممارسة هذه الفطرة بأن يكثر التساؤل عما حوله مما يغمض عليه، ولو أننا انتهزناها فرصة لتنمية هذه الفطرة وتغذيتها بالجديد الدائم من المعرفة تماماً كما نحرص على تغذيته بالطعام لينمو جسمه، لساهمنا كثيراً في أن ينمو أبناؤنا وهم في طلب دائم للمعرفة وسعي مستمر في طلب العلم.

هل نسوق عشرات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تعلي من شأن العلم وتحث على طلبه وترفع من قدر العلماء؟

لا أظن أننا الآن بحاجة إلى ذلك سعياً للإقناع، فضلاً عن أن هناك مئات البحوث والدراسات التي عكفت على مثل هذه الأدلة النصية شرحاً وتحليلاً وتعليقاً وتعميقاً واستنباطاً.

ويكفي أن نشير إلى هذه النوعية من الآيات القرآنية التي تبين كيف سخر لنا سبحانه وتعالى هذا وذاك مما هو في الكون، ودعوته الإنسان إلى أن (يستثمر) و(يستخدم) هذا الذي سخر له. 

والسؤال هو: هل من الممكن أن نستثمر ونحن نستخدم هذا الذي سخر من أجلنا من غير أن نفهمه وندرسه ونعرفه؟

ويكفي أن نشير إلى نوعية أخرى من آيات القرآن الكريم تتصل بمظاهر في هذا الكون طالبة منا أن نفكر فيها وننظر ونتأمل حتى نتيقن من أن وراها خالقاً غير مخلوق، أحداً لا شريك له، فكيف يمكن أن يتأتى لنا هذا إلا بدرسٍ وفحص وبحث وتعلم وتعليم؟

العلم في التربية الإسلامية إذن لا يقتصر على ما اصطلح على تسميته بالعلم الديني، فدائرته تتسع باتساع نطاق ما وهبه الإنسان من حواس وقدرات عقلية، وبامتداداتهما بما يصل إليه من اختراعات ومبتكرات توسع من دائرة كل ما يمكن أن تقع عليه حاسة من الحواس. نستدعي إلى الذاكرة كل هذا – وهناك غيره كثير – ونحن نعيش عصراً يتميز بأنه يشهد (طوفاناً معرفياً) ما كان يخطر على خيال بشر من قبل، وأصبح مجتمع الحاضر المتقدم والمستقبل المقبل هو مجتمع المعلوماتية.

إن كتب تاريخ التربية الإسلامية تحدثنا عن (الرحلة في طلب العلم)، وكيف أن طالباً للعلم كان يركب دابته ليسير شهوراً إلى مدينة بعيدة متحملاً مشاق سفر يخلو تماماً من كل ما ينعم به إنسان اليوم من تسهيلات طرق وأجواء للطيران وأشكال لا حصر لها للتيسير والتزويد بالماء وبالمأكل بأبسط وأسرع الطرق، كل ذلك ربما من أجل الحصول على حديث نبوي، أو التحقق من حديث، أو الحصول على كتاب، وها نحن نرى إنسان اليوم يستطيع – وهو بملابس الراحة المنزلية – أن يحصل في دقائق، وربما ثوان على ما يريد من معلومات، بل وكتب!

إن التربية الإسلامية إزاء هذا تجد نفسها مطالبة بأن توسع من آفاقها وتثري من معلوماتها وتجعل منها ساحة للتشجيع على طرح التساؤلات والمشكلات والقضايا من أجل البحث والدرس والفحص والنقد. 

إن الشائع لدى كثيرين للأسف الشديد أن المعرفة ذات الطابع الديني تنفر من (الشك) وتنحو نحو (التسليم)، وتنزع إلى (النقل) وهذه كلها شبهات أفرزها ضعف الوعي بحقيقة التربية الإسلامية، فلا يقين لديها إلا ما يتصل بأركان العقيدة الأساسية، وهذا اليقين نفسه لا تتطلب التربية الإسلامية التسليم به إلا بعد فهم واقتناع، والفهم والاقتناع لا يأتيان إلا بعد حالة شك وإثارة التساؤلات، فهذا حق مشروع ومطلوب؛ لأنه طريق يوصل إلى اليقين المبني على الرضا والقبول والوعي الصحيح.

إن الإنسان كلما وقف على سر من أسرار الكون فإنما يضع يده بذلك على آية من آيات الله في خلقه فيزداد إيماناً وثقة بما يؤمن، ومن ثم فالتربية الإسلامية مفروض فيها أن تزرع هذا النهم إلى المعرفة وتجعل  طالبها لا يكاد يستقر على معلومة حتى يسرع إلى طلب غيرها، وفراءة المسلم قوله عز وجل:{وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}تصرف عنه تصوراً أنه بكل ما يعلم يمكن أن يكون قد حصَّل الكثير، فمهما حصَّل، فهو قطرة من بحر، ولذلك يظل طالباً للمعرفة طالما استمر قلبه يدق وأنفاسه تتردد ، داعياً المولى عز وجل:{وقل رب زدني علماً}.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين