التربية الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين -7-

الحوار ... فريضة:

الاختلاف بين البشر حقيقة إنسانية لا تستحق  أن نقدم الأدلة والبراهين على وجودها، فهي قد أصبحت من المسلَّمات التي نقيم حياتنا على أساسها، بل إن البعض منا قد يعجب أن يجئ ابنان لأب وأم واحدة وبيت واحد وظروف واحدة، ثم إذا بهما لا يتماثلان في التفكير أو في الأسلوب، وهي الظاهرة التي ليس من العسير تفسيرها (بيولوجياً) أو (نفسياً) و(اجتماعياً) و(ثقافياً).

وقديماً استند مفكر مثل ابن خلدون إلى هذه الحقيقة ليؤكد (فطرية) النزعة البشرية إلى (الاجتماع) والتآزر، فكل منا يملك من المواهب والاستعدادات ما قد لا يتوافر للآخر، والعكس صحيح، فنحتاج نحن إلى الآخر بقدر لا يقل عن حاجة هذا الآخر إلينا.

وقد استفاد علماء الأدلة الجنائية من هذه الحقيقة الإنسانية استناداً إلى أن لكل فرد منا بصمة خاصة به يحتفظ بها حتى إذا وقع مكروه يصبح فحص البصمات معيناً إلى حد كبير على كشف ما قد يكون غامضا من الأمر.

والحق أن (البصمة الخاصة) لا تقتصر على (الإصبع)، فلعقل الإنسان كذلك بصمة خاصة تجعل ما ينتجه غير متطابق دائما وكلياً مع ما ينتجه آخرون.

ومثلما أوجب اختلاف القدرات والاستعدادات على البشر أن يتعاونوا ويتآزروا فإن اختلاف العقول يوجب الحوار وتبادل الرأي والمناقشة.

ومن الأهمية بمكان أن نتساءل: الحوار مع من؟

إنَّ ما نود التأكيد عليه هنا هو أن التربية الإسلامية إزاء هذا الموج الزاخر المتلاطم من اتجاهات الفكر والذي يتزايد كلما صعدنا في مدارج التقدم الراقي يستحيل  معه أن تربي أبناءها على مخاصمة الآخر باعتبارها ممثلة للحق، ذلك أن هذا الآخر يعتقد نفس الشيء، أنه على حق، ومن ثم نكون نحن الذين قد انحرفنا عن الحق، ومع ذلك فإن هذا لا يوجب إقامة الأسوار بين عقول أبنائنا وعقول الآخرين.

إن أهمية الحوار مع الآخر هنا ضرورة من وجهتين:

الأول: أن الحوار معه يتيح لنا أن نعرِّفه بما نملك من فكر واتجاهات، ومن ثم فمن يدري؟ ألا يحتمل أن يقتنع بما نقول فنكسب واحداً، ويخسر الآخر هذا الواحد؟

والوجه الثاني: أن الحوار مع الآخر ينبهنا في كثير من الأحيان إلى جوانب ربما لم ننتبه إليها، وتاريخ الفكر الإسلامي زاخر بالأمثلة على هذا، وكيف أدى الحوار مع الآخر إلى أن يستعين فلاسفة المسلمين بالزاد الفلسفي الذي وجدوه في تراث اليونان ليطرقوا مجالات لم تكن مطروقة ويصطنعوا أساليب لم تكن معروفة.

إن البعض يتخوف ويقول: إننا إذا أتحنا هذا لأبنائنا فلربما أغواهم هذا الآخر فتتزعزع معتقداتهم، وقد يصل الأمر بهم إلى أن يخرجوا عن الملة ويرتموا كلية في أحضان الآخر.

والرد على ذلك: إننا نكون عادة في موقف يماثل المواقف الحربية، فلابدَّ من خسائر، ولكن الانتصار عادة ما يعوض المنتصر بالكثير. هذا جانب، ومن جانب آخر فإن هذا التخوف من شأنه أن يدفعنا إلى المزيد من تحسن وتعميق التعليم الإسلامي، فهذا هو سبيل أساسي لرفع القدرات الفكرية على المنازلة العقلية لنخرج منها كاسبين لا خاسرين.

وغنيٌّ عن البيان أن الحوار مع الآخر له أصوله وله قواعده وآدابه، وأبرز هذه الأصول والقواعد والآداب أن سلاحه الأساسي هو (الكلمة) و(الفكرة) مسوقة في سياق يتسم بالعقلانية والمنطقية ووضوح البيان وقوة الحجة وسلاسة العبارات. ومن ثم فإننا ننظر إلى التحاور بالسلاح على أنه (مرض اجتماعي) و(عاهة فكرية) تشير إلى تخلف وقصور وعجز.

ومن هذه الأصول والقواعد والآداب: أن ينحصر الحوار في دائرة (القضية) موضوع الحوار دون أن يتجاوزها إلى(شخص) يمثل طرفاً في حوار.

والحق أننا هنا نقف أمام آفة تشيع كثيراً فيما نراه من حوارات في عالمنا العربي، فغالباً ما ينحرف المتحاورون عن (القضية) ليتناولوا جوانب في شخص هذا الطرف أو ذاك، فيزداد التوتر ويشوب الحوار انفعال غاضب يعمي البصيرة، فإذا بالهوة تزداد بين المتحاورين وإذا بالموقف يزداد تعقداً.

والحوار يقتضي كذلك تحديداً لما يتم التعامل به من مفاهيم؛ إذ هناك العديد من الكلمات التي قد يعني بها متحدث أمراً غير ما يعنى به الآخر، فقد يعني طرف بالديمقراطية (نظاماً غربياً) للحكم يجعل الشعب مصدر السلطة مما قد يوقع في شبهة المخالفة الدينية على اعتبار أن الشريعة هي مصدر السلطة وليس الشعب. وقد يعني الآخر بالديمقراطية طريقة للحياة تجعل للإنسان الحق في الاستمتاع بفرص العمل والتعليم والسكن بغير تمييز بينه وبين الغير تمييزاً يقوم على (العرق) أو (المذهب) أو (الطبقة الاجتماعية) فإذا لم توضح هذه المعاني، فليس مستبعداً ان يقول الأول إن الديمقراطية تخالف الدين، وأن يصدم هذا الحكم الطرف الآخر فيسيئ الظن بالإسلام.

والحوار الذي نريد من التربية الإسلامية أن تربي أبناءنا عليه ليس دائما بيننا وبين الآخر؛ إذ مما لا يقل عن ذلك أهمية أن يكون بين (السلطة) والمحكومين، وبين أفراد المجتمع بعضهم وبعض.

إن علماء (البيولوجيا) يؤكدون لنا أن التلاقح كلما كان بين أطراف تتباعد في أصولهاـ كان ذلك أفضل لإنتاج حيوي أكثر صحة وعافية وسلامة، ويحذر الأطباء كثيراً من التزاوج بين شديدي القرابة...

هكذا الفكر... فالتلاقح بين الأفكار المتغايرة، يؤدي إلى تكاثر فكري صحيح البنية عافي القدرة.

إن سيادة الفكر الواحد يصيب العقول بالعقم، ويصيب الأمة بالجمود... وكل يوم يمر بأمة، فكرها لا ينمو ولا يتطور ويتقدم فهذا لا يعني فقط جموداً عن الحركة، إنما يعنى ذلك تراجعاً إلى الخلف.،

إن الحقيقة ليس لها إلا مالك واحد، هو الله، وما نحن جميعاً إلا مجموعة أفراد مهما كثروا لا نقف منها إلا من زاوية واحدة لا تتيح لنا أن نبصر إلا من خلال هذه الزاوية، وكلما اجتمعت آراء أكثر، وكلما تفاعلت، أتاح لنا هذا بصراً بمساحة أكبر بالحقيقة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين