مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم 

كرم الأصل وطيب المنبت: 

محمد بن عبد الله: فرع من شجرة طيبة نبتت في منبت طيب كريم. وكرمُ الأصل وطيب المنبت لهما أثرهما المحمود في نفس المرء وخُلقه. ولهذا رأيت قبل أن أشرح صدور المؤمنين بالحديث في مولد الرسول الكريم أن أشرح صدورهم بكلمة موجزة في نسبه ومولده؛ ليزداد الذين آمنوا إيماناً بأن الله تعالى اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم من أكرم أسرة عربية في خير بلد عربي.

نسبه:

لما بنى خليل الله ورسوله إبراهيم صلى الله عليه وسلم الكعبة هو وابنه إسماعيل، أسكن إسماعيل صلى الله عليه وسلم مع أمه هاجر بمكة عند الكعبة، كما قال الله عز شأنه على لسان إبراهيم:[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ] {إبراهيم:37}. وقد أقام إسماعيل بمكة وتزوج وولد له، وتناسلت أولاده وذريته، وكان منهم عدنان، وقد تناسلت أولاد عدنان وذريته، وكان منهم فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وأولاد فِهر هم قريش.

وقد اتفق المؤرخون على أنَّ قريشاً كان لها السيادة والمكانة بمكة وما حولها في القرن السادس للميلاد، وكان كبير قريش وسيِّدها في ذلك الحين عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ولهذا لما وصل أبرهة قائد أصحاب الفيل إلى مكانه الذي عسكر به قريباً من مكة، وسأل عن سيد قريش وكبيرهم ليفاوضه قبل أن يهدم الكعبة، أخبروه عن عبد المطلب بن هاشم، وقد خرج عبد المطلب للقائه ومفاوضته باسم قريش والعرب.

وقد تزوج عبد المطلب بن هاشم بعدة زوجات، وأنجب منهن أشراف الرجال، وكانت من زوجاته فاطمة بنت عمرو المخزومية القرشية، وقد رزق بثلاثة أولاد أمجاد: هم أبو طالب، والزبير، وعبد الله. وقد اختار عبد المطلب لابنه عبد الله زوجة من أشرف بيوت قريش هي آمنة بنت وهب بن زهرة، ورزق عبد الله من زوجته آمنة بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من ذريِّة إسماعيل بن إبراهيم، ومن أشرف أسرة من أُسر قريش، وهي أسرة هاشم بن عبد مناف، وجده عبد المطلب سيد قريش وكبيرها، وأبوه عبد الله قرشي الأب والأم، وأمه آمنة من أشرف بيوت قريش فهو من أصل كريم، وذو نسب عظيم، ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان بن حرب عدة أسئلة بشأن محمد، كان أول ما سأل عنه أن قال له: كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب، قال هرقل: وكذلك الرسل في نسب قومها. وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من هاشم) فهو صلى الله عليه وسلم من أشرف قريش، ومن نخبة بني هاشم، ومن خيرة العرب من قبل أبيه وأمه.

بلده:

لم يولد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في بلدة عادية، بل ولد في بلدة ذات شأن في بلاد العرب هي مطمح أبصارهم، وفيها الكعبة التي وضعها الله تعالى للناس أول بيت لتعظيمه وعبادته، وفيها مقام إبراهيم، وحجر إسماعيل، وقد جعلها الله تعالى حرماً آمناً، ومقصد الحجاج والعبّاد والنسّاك، فبيئتها لها شرف جوار البيت الحرام، ولها كرامة الأمن والسلام، وشعائر العبادة، فهي أنسب البيئات لأن يشرق منها نور الدعوة إلى التوحيد، ولأن يسمع منها صوت الداعي إلى الحق كما سمع منها صوت خليل الله إبراهيم من قبل حيث أذن في الناس بالحج، ولأن تطهَّر من الأصنام والأوثان كما فعل خليل الله إبراهيم من قبل، امتثالاً لأمر ربه، [وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] {الحج:26} 

مولده:

ولد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بشعب بني هاشم بمكة، في شهر ربيع الأول، لأول عام من حادثة الفيل، ولأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنو شِروان، وكانت ولادته صلى الله عليه وسلم في صبيحة يوم الاثنين، وهذا التاريخ يوافق في التاريخ الميلادي إبريل سنة 571: ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب سيد قريش وكبيرها تبشره بحفيده، فجاء مستبشراً، واختار للمولود اسم (محمد) وكان هذا الاسم غريباً نادراً في البيئة العربية.

هذا الحادث الذي حدث بشعب بني هاشم بمكة، كان في مظهره حادثاً عادياً، وولادة مولود من أب عريق شريف، ولكنه ليس بملك ولا أمير، ولا ذي ثراء عظيم، فلم تضف أبهة الملك أو الإمارة أو جاه الثروة على ولادة هذا الوليد مظاهر الحفاوة البالغة، ولم تدق الطبول ولم ترفع الأعلام، ولكن ما كان يعلم إلا الله تعالى أن هذا الوليد الذي ما شعر بولادته ملك ولا أمير، ولا ابتهجت بمقدمه شعوب ولا دول، سيكون مبعث النور والهداية، وسيكون اسمه على المآذن والمنارات وأفواه الملايين من الناس، وسينشر دينه الحق في آفاق الأرض، وستخضع لدولته الملوك.

أخبار لم تثبت: 

وقد سار بعض رواة السيرة المحمدية على أن يثبتوا أن عظمة شأن هذا الوليد وعلو منزلته ظهرت آياتها في وقت ولادته، بل في شهور حمل أمه به، فمن ذلك ما رواه القاضي عياض في كتابه الشفاء: (أن من الآيات التي ظهرت حين ولادته صلى الله عليه وسلم أن أمه لما وضعته وجدته رافعاً رأسه شاخصاً ببصره إلى السماء، وأنها رأت نوراً خرج معه حين ولادته وما رأته إذ ذاك أم عثمان بن أبي العاص من تدلي النجوم وظهور النور حين ولادته حتى ما تنظر إلا النور، وما قالته الشفا أم عبد الرحمن ابن عوف: لما سقط محمد على يديها واستهل، سمعت قائلاً يقول: رحمك الله، وأضاء له ما بين المشرق والمغرب حتى نظرت إلى قصور الروم، وما جرى ليلة مولده من ارتجاج إيوان كسرى وسقوط شرفاته، وغيض بحيرة طبرية، و خمود نار فارس، وكان لها ألف عام لم تخمد.

وهذه العجائب التي رووا أنها وقعت في ليلة مولده وحين ولادته، لم تُرو بسند متواتر أو مشهور، مع أنها حوادث محسوسة غير عادية تلفت أنظار العامة والخاصة، ومنها حوادث عالمية كارتجاج إيوان كسرى وسقوط شرفته، وغيض بحيرة طبرية، وخمود نار فارس، فلو كان شيء من هذا وقع لاستفاض خبره على ألسنة العرب وغير العرب.

ومما ينبغي أن يلاحظ أن عبد الله توفي وابنه محمد صلى الله عليه وسلم حمل في بطن أمه بشهرين أو ثلاثة، فلم يحدِّث عبد الله عن ولادته ابنه بحديث، وأن آمنة توفيت وابنها محمد صلى الله عليه وسلم سنه خمس سنين أو ست سنين، فلم يكن قد ظهر له شأن خطير.

عظمة محمد صلى الله عليه وسلم:

وعظمة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ما قامت على خوارق غير عادية ظهرت في ليلة مولده وحين ولادته، وإنما قامت على خلق كريم تخلق به منذ نشأته، وعلى صدق وأمانة، وترفُّع عن الدنايا عُرف بها قبل بعثته صلى الله عليه وسلم حتى لقبوه الأمين، وارتضوه للحكم، واستودعوه الودائع، وعلى صبر واحتمال وجهاد وكفاح وحِلم وأناه في بثِّ دعوته وهداية قومه، وعلى تضحية ومغامرة، وجلد وعزيمة تجلت آياتها في هجرته، وعلى حسن سياسة ورشد في تصريف الأمور ساس بها دولته، ودبر بها شئون أمته في السلم وفي الحرب، وعلى ما جاء به من عند ربه وهو النبي الأمي من قرآن كريم، وتشريع حكيم، وقصص حق، وعظات بالغات، فهذه هي بعض آيات عظمته وهي آيات العظمة الحقيقية.

إن عظمة العظيم ليست في طوله، ولا سواد شعره، ولا جمال خلقته، ولا في عجائب ولادته، وإنما هي في أخلاقه وسيرته وأقواله، وأفعاله، وآثاره في إصلاح الأفراد والجماعات، وفي تغييره الفساد بالإصلاح، وإخراجه الناس من الظلمات إلى النور.

مما أكرم الله به نبيه قبل ولادته وحين مولده: 

وإن أردنا الإشارة إلى شيء مما كرم الله به رسوله قبل ولادته وحين مولده، فحسبنا أن نشير إلى حادثة الفيل وما فعل ربك بأصحاب الفيل: [أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ] {الفيل:2}.

إن هذا الحادث وقع ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل في شهره الأخير قبل ولادته بأيام، وإن انهزام هذا الجيش القوي بعد أن صار على أبواب مكة، وبعد أن فر أهلها من وجهه، لفت الأنظار إلى مكة ومن فيها وما فيها، وكان تكريماً من الله تعالى للكعبة وللوليد الذي ولد في فترة الفرح والابتهاج بهذا الفضل وهذا التكريم.

وحسبنا أن نشير إلى أن عبد المطلب اختار لابنه اسم عبد الله، ولم يختر له عبد شمس، أو عبد مناف، أو عبد اللات أو أبا لهب، أليس في هذا إلهام إلهي بأن هذا الابن سيكون له شأن في الدعوة إلى عبادة الله. واختار لحفيده اسم محمد، ولم يختر له اسماً من الأسماء الشائعة في العرب، أليس في هذا إلهام إلهي إلى أن هذا الوليد ستحمد أولاه وأخراه؟

وحسبنا أن نشير إلى أن عبد الله توفي ودفن بالمدينة، وآمنة توفيت وهي تزور قبر زوجها، ودفنت بالقرب من المدينة، أليس في هذا إلهام إلهي بأن ولد هذين الوالدين سيكون له شأن بالمدينة؟

وحسبنا أن نشير إلى ما أوقعه الله تعالى في قلب جده عبد المطلب من حبه وعنايته بتربيته، وكان من أثر هذه العناية أن وفق إلى أن يخرجه إلى البادية لينشأ رضيعاً فيها، وقد أرضعته حليمة السعدية، وأقام في بني سعد بن بكر من هوازن نحو أربع سنين، وكان لهذا أثره في فصاحة لسانه وخلوصه من عجمة الحضر، وفي وقايته من الأمراض التي تنتاب الأولاد في الحضر.

ومدة هذه السنين أكرم الله تعالى بني سعد وأخصب عيشهم، وعدوا هذا الخصب من آثار وجوده صلى الله عليه وسلم بينهم.

أيام ثلاثة خالدة: 

وبعد: فإن أحق من يبتهج المسلمون بذكراه هو محمد بن عبد الله، وكل يوم من أيامه جدير بأن يذكر بالفرح والابتهاج، ولكن أحق أيامه بأن يبتهج بها المسلمون، ويحيوا ذكراها أيام ثلاثة:

اليوم الأول: يوم ولادته صلى الله عليه وسلم، فهو اليوم الذي نبتت فيه الشجرة الطيبة المباركة، وبزغت فيه الشمس المشرقة.

واليوم الثاني: يوم بعثته صلى الله عليه وسلم، فهو اليوم الذي ظهرت فيه باكورة الثمرات الطيبة للشجرة المباركة، وابتدأ فيه إنزال القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان، وأخذ نور الشمس يسطع.

والثالث: يوم هجرته، فهو اليوم الذي آتت فيه الشجرة المباركة أطيب الثمرات، وأضاء نور الشمس المشرقة آفاق الكون، وتغذَّى الناس بهذا الثمر واهتدوا بهذا النور.

وأحق ما يعمله المسلمون ابتهاجاً بهذه الذكريات أن يذكروا نواحي عظمة هذا الرسول الكريم، وأن يأخذوا العظمات البالغة والدروس النافعة من أخلاقه وأفعاله وأقواله.

ولو درسنا حياته صلى الله عليه وسلم طفلاً وشاباً وزوجاً وصديقاً ورسولاً، وقائداً وقاضياً وأباً، لوجدناه في كل ناحية أسوة حسنة، ومَثلاً أعلى، ولقد صدق الله عز شأنه فيما أقسم عليه إذ قال: [وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)]. {القلم}..

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد السابع المجلد الثالث ربيع الأول 1369 ديسمبر 1949

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين