التربية الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين -4-

 

تحديد المفهوم:

لو أن متحدثاً ذكر أنه يقوم ببحث في (التاريخ)، وآخر أعلن أنه يقرأ في (الجغرافيا)، وثالث أنه يدرس في (الاقتصاد) ... وهكذا لما وجدنا مشقة في معرفة المجال الذي يتحدث عنه كل واحد من هؤلاء وأمثالهم؛ إذ ليس هناك اختلاف كبير في تحديد مفهوم كل من (التاريخ) أو (الجغرافيا) (الاقتصاد) أو غير هذا أو ذاك من علوم إنسانية وغير إنسانية، لكننا لا نجد نفس السهولة واليسر إذا كنا بصدد (التربية الإسلامية) فكيف يمكن لنا أن نتصور قدرة علم على مواجهة تحديات مستقبلية إذا افتقد التحديد اللازم لمفهومه واتسعت الأرض أمامه بحيث تداخلت مع أنسقة معرفية أخرى، وبرزت مسألة (الحدود الأمنية والمعترف بها) بينه وبين هذه الأنسقة المعرفية؟

إن الأمر قد يبدو غير ذلك لأول وهلة، ولكن إشكاليته تبرز إذا أبرزنا للقارئ كيف أن مئات الألوف من طلاب التعليم العام في بلدان عربية كثيرة يحملون بين أيديهم كتباً عنوانها هو (التربية الإسلامية) تشير إلى مقرر يدرسونه في مختلف الصفوف، فهل هذا هو ما نتحدث عنه اليوم؟

إن ما يدرسه طلاب التعليم العام هو (التربية الدينية) وليست التربية الإسلامية، ففي التربية الدينية نسعى أن يدرس الطلاب (حفظاً) و(فهما) آيات وسوراً من القرآن الكريم وأحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم وتعليماً للصلاة، وتعريفاً بأركان الإسلام الأخرى مثل الصوم والحج والزكاة، وكذلك جوانب مختلفة عن العقائد الإسلامية، ومعلومات عن صحابة رسول الله... وهكذا.

أما في التربية الإسلامية كما نقصدها فهي أن ندرس الموقف الديني الإسلامي من القضايا والمشكلات والمفاهيم التي تواجهنا في حياتنا التربوية المعاصرة من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية.

وعلى سبيل المثال، نحن نواجه الآن قضية تتعلق بالعام والخاص في مؤسسات التعليم، فهل تكون الدولة هي المسئولة عن إقامة المؤسسات التعليمية وتشرف عليها وتوجهها أو أن هذا الأمر متروك للجهود الخاصة، أو هو شركة بين الاثنين؟ وإذا كان الأمر شركة بين الاثنين فما حدود هذا وذاك؟

وترتبط بهذا كذلك مشكلة تمويل التعليم، هل تتكفل الدولة بالتمويل؟ أو أن ذلك يُلقى على عاتق طلاب التعليم ؟ أو هو شركة أيضاً بين الاثنين؟ وإلى أي مدى؟

ونحن نتعامل في التربية مع مفاهيم (نظرية) و (تطبيق) و(خبرة) و(نشاط) و(تعليم) و(تربية)و (لعب) و(ثواب) و(عقاب) .... وهكذا.

وهناك بحوث ودراسات لعلماء تربية وفلاسفة من أجل تجلية هذه المفاهيم وبيان أبعادها وعناصرها وعلاقاتها بغيرها وآثارها ووظيفتها، فما الرأي الديني الإسلامي في كل منها؟

إن الأمر هنا شبيه بعدد من القضايا التي تحفل بها حياة المسلم المعاصر والتي درسها علماء متخصصون، ويريد أن يطمئن إلى الموقف الديني منها مثل: فوائد البنوك، ونقل الأعضاء في الجسم الإنساني، و(التأمين) وآخر المشكلات هي ما أثير مؤخراً عن (الاستنساخ). ذلك هو (الجسم) الأساسي للتربية الإسلامية، لكن هناك فروعاً لها تتصل بالجهد البشري سواء كان ذلك بدراسة آراء المفكرين أم بدراسة (المؤسسات التربوية) التي شهدناها عبر العصور الإسلامية.

ونحن لا نزعم أن مفهومنا هذا للتربية الإسلامية هو القول الفصل، ولكنا ندعو إلى ضرورة أن يحظى برضى غالبية المهتمين بدراسة التربية الإسلامية.

إن هناك كثيراً من الأمثلة التي يمكن أن تساق بياناً (للبس) الحادث حول المفهوم، فلقد دعيت – مثلاً – عام 1986 إلى ملتقى فكري إسلامي بالجزائر، وكان تجمعاً كبيراً من (علماء المسلمين)، وكان المحور الأساسي للملتقى هو (الحياة الروحية في الإسلام)؛ حيث استأثرت دراسة التصوف بالمساحة الأساسية، وكان جهدي في الملتقى منصباً حول تتبع جهود (المتصوفة) التربوية في الحضارة الإسلامية. حضرت باعتباري (عالماً في التربية) ولست عالماً دينياً، وكان من تقاليد الملتقى أن يستثمر يوم الجمعة في ترشيح العلماء الضيوف في مساجد القرى المحيطة لإلقاء خطبة الجمعة وإمامة الناس لصلاتها، وفوجئت بأنني ضمن هؤلاء، وعانيت مشقة كبيرة كي أشرح للمنظمين أنني لست مؤهلاً لذلك، ولم أشعر بأن من يسمعني قد اقتنع، ألست عالما في التربية الإسلامية؟

وفي نفس الملتقى أحيانا ما كان يجيء لي بعض أفراد جمهور الحاضرين يسألني في فتوى دينية، عندما أجيبه بأنني لست عالماً دينياً كان ينظر لي باندهاش واضح، وكل ذلك انطلاقاً من مفهوم أن التربية الإسلامية هي التربية الدينية.

لقد كنت في أوائل الثمانينيات مشرفاً على قسم التربية الإسلامية بكلية التربية بجامعة الأزهر، ثم إذا ببعض المسئولين يثيرون اعتراضاً بأنني لست من علماء الدين، وأن مثل هذا التخصص لابد أن يشرف عليه أحد علماء الأزهر بغض النظر عما إذا كان قد درس العلوم التربوية والنفسية، أم لا؟!

ويشير هذا إلى مشكلة لابد من مواجهتها، ذلك أن عدداً ممن يتناولون التربية الإسلامية قد يكونون قد حصلوا الكثير من الثقافات الدينية، لكنهم لم يحصلوا شيئاً من العلوم التربوية والنفسية فيجئ حديثهم وكأنه خطاب وعظ وإرشاد، وهناك فريق آخر ممن يتناولونها قد يكونون قد حصلوا الكثير من الثقافة التربوية والنفسية، لكن حظهم من الثقافة الدينية ضعيف فيجيء حديثهم مشبعاً بلغة خطاب غربي حديث، وإن تلبس بزي إسلامي مما قد يلجئهم في كثير من الأحيان إلى الافتعال والتأويل ولي ذراع النصوص كي تتفق مع السياق الذى يسيرونها فيه.

وإذا كانت ظروف العقود الماضية قد فرضت أن يكون هؤلاء وهؤلاء هم أصحاب الجهد البحثي، إلا أننا الأن بحاجة إلى فئة ثالثة يتوافر لديها حد أدنى من الثقافات الإسلامية يمكنهم من الوعي والفهم والاختيار لما يقتضيه البحث التربوي الإسلامي من نصوص دينية وآراء اجتهادية ووقائع حضارية، كما يتوافر لديهم وعي كاف بكمٍّ من العلوم التربوية والنفسية.

إن الفئة المرشحة لذلك هي من الذين تخصصوا في علوم دينية سواء في أقسام الدرجة الجامعية الأولى، أو خريجو كليات الدراسات والعلوم الإسلامية، ثم درسوا علوما تربوية ونفسية، وإن كان يمكن للفئات الأخرى أن تطرق الميدان، فلابد من بذل الجهد في التثقف الذاتي من علوم الدين ودراساته، فبمثل هذا  يمكن أن يتوافر لدينا عدد من الباحثين الذين يملكون اللغة العلمية المتكاملة للبحث في التربية الإسلامية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين