التربية الإسلامية وتحديات القرن الحادي والعشرين -3-

 

تحدي الوجود:

منذ السبعينيات تصاعد المد الإسلامي بشكل واضح، وترافق مع هذا المد اتساع نطاق استخدام وصف (الإسلامي) على درجة جعلت أحد المراقبين يشعر بأن الأمر قد (تطرق) إلى درجة وصف ميناء بأنه إسلامي وتساءل: وأين هي (الإسلامية) في هذا الميناء ؟ إنه أرصفة ومياه وأجهزة ونظم مراقبة وأعمال بحر، الأمر الذي يتماثل مع ما يحدث في أي ميناء آخر في مختلف دول العالم شرقه وغربه، واندفع كثيرون على الطريق يريدون أن (يؤسلموا) أنساق المعرفة المختلفة، فهذا اقتصاد إسلامي، وذلك طب إسلامي، وهذه هندسة إسلامية، وتلك.... وتلك....

وأثار هذا آخرين رأوا أن العلم واحد وليس لنا أن نصفه بأنه إسلامي محذرين من أن هذا ربما يعنى أن الآخر (كافر) مادام ليس إسلامياً.

ومن هذا المنطلق هاجم أساتذة تربية أن يكون هناك تربية إسلامية على أساس أن التربية، علماً، ومجالاً، لها قوانينها وقواعدها وظواهرها، ومناهج بحثها مما لا يفترق الأمر فيه بيننا وبين غيرنا من الأمم الأخرى.

والحق إننا نريد أن ننبه إلى أن هناك أنساقا معرفية عرفت منذ عشرات السنين، وقبل السبعينيات، صفة الإسلامية من غير أن يرى أحد غضاضة في ذلك، إذا عرفت – على سبيل المثال – أقسام الفلسفة في كليات الآداب ما عرف باسم الفلسفة الإسلامية، وعرفت أقسام التاريخ كذلك ما يعرف باسم (التاريخ الإسلامي).

كذلك فإن التربية الإسلامية قد عرفت دراسات حملت هذا الاسم دون أن تثير جدلاً واعتراضاً مثلما رأينا في رسالة أحمد فؤاد الأهواني عن التعليم في رأي القابسي؛ حيث حملت عنوان (التربية في الإسلام) وكان ظهورها كتاباً في أواسط الخمسينيات، وكذلك بالنسبة لدراسة أسماء فهمي عن (مبادئ التربية الإسلامية).

ونحن نذكر أن التربية الإسلامية احتلت مكانها كمقرر دراسي فيما كان يسمى (معهد الإعداد والتوجيه) بجامعة الأزهر في أواسط الستينيات، حيث أنشئ على غرار معهد التربية العالي للمعلمين والذي تحول فيما بعد إلى كلية التربية بجامعة عين شمس، فكان معهد الإعداد والتوجيه يقوم بعملية تأهيل تربوي مهني لخريجي كليات جامعة الأزهر، وكان من مقرراته مقرر باسم (التربية الإسلامية) كان يقوم بتدريسه المرحوم د. أبو الفتوح رضوان وأحياناً ما كان ينيبني عنه لتدريسه عندما كنت معيداً أتتلمذ على يديه.

نقول هذا لنؤكد أن (التربية الإسلامية) لم تكتسب هذه الصفة كمظهر من مظاهر المد الذي شهدناه منذ السبعينيات؛ وإنما لأسباب سنذكرها بعد قليل.

ولعل ما يثيره البعض من أن وصفها (بالإسلامية) يحمل ضمناً اتهاماً للتربيات الأخرى بأنها غير إسلامية، إنما هو اتهام ساذج مع الأسف الشديد لا يصمد طويلاً أمام المناقشة المنطقية،

فوصفك لفرد من الأفراد بأنه (وطني) مثلاً لا يحمل ضمناً أن غيره (غير وطني)، لقد شهدت موقفاً حدث في اجتماع رأسه مسئول تعليمي كبير، حيث كان الأمر متعلقاً بإيجاد قسم للتربية الإسلامية بإحدى الكليات، وردد المسئول هذه الحجة، فقلت له: إننا نسمي أحد المقررات الدراسية (بالتربية الوطنية) ولا يعني هذا أن المقررات الأخرى غير وطنية، وأحيانا ما نسمي مقرراً باسم (التربية العلمية) قاصدين به الفيزياء والكيمياء والأحياء دون أن يعني هذا انتزاع (العلمية) عن العلوم الاجتماعية واللغوية، وكم من أحزاب نعرفها في عالمنا العربي، وفي العالم الغربي، تحمل صفات مثل (المسيحي) و(الوطني) و(التقدمي) ... إلخ.

أما القول بأن العلم لا جنسية له فهذا صحيح فيما يتصل بالعلوم التي تقع خارج نطاق العلوم الإنسانية والاجتماعية بصفة عامة، والتربية بصفة خاصة، إنَّ الفيزياء في روسيا لن تختلف عن الفيزياء في مصر أو في الولايات المتحدة إلا من حيث (الموضوعات) و(درجة التقدم) وهكذا الأمر بالنسبة للرياضيات والكيمياء وما شابه هذه العلوم.

لكن الأمر يختلف كثيراً عندما نكون بصدد تربية الإنسان، فلا يمكن لإنسان أن يقوم بالعمل التربوي من أجل تشكيل جانب من جوانب شخصية فرد آخر إلا إذا كان يعمل وفق (نموذج فكري) أو (تصور نظري)، فإذا أردنا أن نصمم منهجاً دراسياً على سبيل المثال، فإن مثل هذا العمل لا يتم إلا في ضوء خريطة عامة تجيب عن السؤال الشهير: ماذا نعلم؟ لكننا إزاء هذا السؤال نتردد في الإجابة عنه قبل أن نجيب عن سؤال يسبقه هو: لماذا نعلم؟ وإذا تساءلنا: لماذا نعلم؟ نجد أنفسنا أمام قضية (الهوية) و(النموذج الفكري) الذي يرشدنا إلى ما نعلِّمه.

إن الذين أخذوا على عاتقهم تصميم مناهج التعليم في دول المنظومة الاشتراكية لم يخطر على بال أحد منهم أن يضع في خريطة المناهج مقرراً عن (الدين)؛ لأن النموذج الفكري الذي كانوا يهتدون به، وهو (الماركسية) كان يسقط الدين من الاعتبار بل ينظر إليه وكأنه (عاهات فكرية) و(مرض اجتماعي) يجب التخلص منه؛ بل رأينا (الفلسفة) و(التاريخ) و(التربية) و(علم النفس) و(الاجتماع) و(الاقتصاد) وغيرها من المقررات تفسَّر تفسيراً ماركسيًّا.

وإذا يمَّمنا وجهنا شطر إسرائيل فسوف تجد التوجه إلى دراسة التراث اليهودي وكثير من الأفكار والتوجيهات التي تؤكد أسطورة شعب الله المختار وأسطورة الوعد الإلهي بأن تكون الأرض التي تقع بين النيل والفرات لبني إسرائيل كما نصت على ذلك بعض أسفار التوراة. كذلك فإن الإسلام يمثل نموذجاً فكرياً ومنهجاً حياتياً لابد أن يعرف طريقة إلى العمل التربوي ونحن نقوم بالتنشئة لأبناء هذه الأمة بحيث تجيء تربيتنا تربية إسلامية.

ولعل هذا هو مربط الفرس الحقيقي، فالذين ينكرون أن هناك (تربية إسلامية) ينظرون إلى الإسلام على أنه أمر (تعبدي) خالص بين الفرد وربه، أما هذه الحياة التي نعيشها بصخبها وإيقاعاتها ومجالاتها ومشكلاها، فإنما نحتكم فيها إلى اجتهادات العقل البشري وما يوصل إليه هذا الاجتهاد من أساليب ونظم.

أما نحن فنذهب إلى أن الدين الإسلامي بصفة خاصة إنما هو (منهج حياة)، يتخلل سلوكنا ويوجهه أياً كان المنشط الذي تنشطه، وهناك مساحات واسعة للاجتهاد العقلي الإنساني في مجال تربية الإنسان بصفة خاصة.

إن الدين ليس مجرَّد مجموعة عقائد أو شعائر أو أبنية. إنه يستهدف بناء الشخصية، ويسعى إلى توجيه الإنسان وإرشاده، ومن ثم تكون التربية قرينة له؛ لأنها الساحة التي تملك النظم المعرفية والوسائل والأساليب التي تعين على التشخيص السلوكي عملياً في واقع الحياة.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين