أضخم حادث وأعظم قصة

عبد الرحيم فودة

1 ـ منذ هبط الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم كانت الهجرة فكرة في خياله، لا يدري متى يؤمر بها أو يدعى إليها، ولا يعلم المكان الذي سيشرفه الله بالانتقال إليه والإقامة فيه.
ويظهر ذلك بوضوح، من حديث ورقة بن نوفل عندما ذهبت به خديجة إليه ليقص عليه نبأ ما تلقاه في غار حراء، فقد قال له ورقة - بعد أن سمع منه ما رآه-: هذا هو الناموس الذي أنزله الله على موسى، يا ليتني فيها جزعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك..، فقال صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟! قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يُدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. فإن ذلك يفهم منه أنه صلى الله عليه وسلم علم بالهجرة منذ علم بأنه نبي، وأن علمه بها دون درجة اليقين.
أما زمانها ومكانها، فلم يتحدث إليه أحد بواحد منهما، بل إن لنا أن نعتقد أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم متى ولا أين ستكون الهجرة، حتى رأى في المنام ما رواه الشيخان عنه عليه السلام، إذ قال صلى الله عليه وسلم: رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة: يثرب.
وروى البيهقي عن صهيب، قوله صلى الله عليه وسلم: أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين، فأما أن تكون هجر أو يثرب.
وأخرج الترمذي والحاكم، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله أوحى إلي: أي هؤلاء الثلاثة نزلت هي دار هجرتك: المدينة أو البحرين أو قنسرين. وقد زاد الحاكم على ذلك قوله: فاختار المدينة.
ويؤخذ من مجموع هذه الأحاديث مع ما أخذ على الأخير من ذكر قنسرين لبعدها في بلاد الشام - أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم بالمكان الذي سينتقل إليه إلا قبيل البدء في الهجرة.
2 ـ ونعود إلى الأحداث نستلهمها التوجيه في متابعة أنباء الهجرة. فنجد بيعات العقبة الأولى والثانية والثالثة، ترسم لنا الهدف وتكشف أمامنا الاتجاه.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب.ويتحين فرصة الموسم من كل عام، ليلتقي بالحجيج في منازلهم، بعكاظ ومجنة، وذي المجاز، ويعرض عليهم أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فكانوا يردون عليه بالأذى. ويقولون له: قومك أعلم بك منك.
ثم لقي من المدينة رهطاً من الخزرج عند العقبة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن فوجد فيهم استجابة له وإصغاء إليه، فأسلم منهم ستة، وعاهدوه على أن يمنعوا ظهره، ولكنهم ذكروا له ما بينهم وبين الأوس من الخلاف ومن الحرب يوم بغاث، وقالوا: إن تقدم ـ ونحن كذلك ـ لا يكون لنا عليك اجتماع فدعنا حتى نرجع إلى عشائرنا. لعل الله أن يصلح ذات بيننا، وندعوهم إلى ما دعوتنا، فعسى الله أن يجمعهم عليك، فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك، فلا أحد أعز منك. وموعدك الموسم العام المقبل.
ثم انصرفوا إلى المدينة وعادوا في الموعد المحدد، اثنى عشر رجلاً كان منهم رجلان من الأوس، فبايعهم النبي علية الصلاة والسلام بيعة العقبة الثانية، وبعث معهم مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة، ليقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، فكان ذلك سبباً في دخول أشراف أهل المدينة في الإسلام، وبذلك كثر عدد المسلمين في يثرب، بل لم تبق بها دار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات اللهم إلا بعض بطون قليلة من الأوس، أخرها عن الإسلام شاعر كانوا يتبعونه ويستمعون إليه ويطيعونه، وهو صيفي بن الأسلت المكنى بأبي قبيس.
ثم كان الموسم الأخير فقدم إلى مكة مصعب بن عمير ومعه عدد كبير من المسلمين، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يواعدونه على اللقاء عند العقبة في أوسط أيام التشريق، والتقى بهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلث الليل،  فكانوا ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين...وكان معه من قومه عمه
العباس بن عبد المطلب، وكان مما قاله العباس لهؤلاء قبل البيعة: إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا وممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزٍّ من قومه، ومَنَعة في بلده، وأنه قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج، فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده.
ثم قام رجل من الخزرج فقال: قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، فتكلم عليه الصلاة والسلام، وتلا عليهم القرآن ودعا إلى الله، ورغَّب فيه، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم..، فأخذ البراء بن معرور رضي الله عنه بيده ثم قال: نعم... والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فإنا والله أهل الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر.
وبذلك وغيره مما لا يتسع المجال لذكره، تمت بيعة العقبة الثالثة وأقام النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس ، وقال لهؤلاء النقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء.

3ـ كل هذه القرائن والظواهر تشير إلى أن المدينة كانت هي دار الهجرة المنتظرة، منذ كانت بيعة العقبة الأولى، وإن الأحاديث المروية عن الرؤيا المنامية في هذا الشأن، كانت قبل لقاء النبي عليه الصلاة والسلام بهؤلاء الذين شرح الله صدورهم للإسلام من أهل المدينة، وقد صدقت الرؤيا، واتفقت الأوصاف المرئية في المنام مع الواقع المشهود في اليقظة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان معه بالهجرة إلى يثرب. وظل في مكة ينتظر أن يؤذن له في الخروج، حتى كانت المؤامرة التي يشير إليها قول الله تعالى:[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] {الأنفال:30}. فقد هال قريشاً أن ترى لمحمد أنصاراً من غيرهم، وساورهم الخوف أن يتصل بهم ثم يعود لحربهم فاجتمعوا في دار الندوة ليدبروا بينهم الرأي فيما يصنعون به، فمن قائل: نحبسه في الحديد، ثم نعلق عليه باباً، ثم نتربص ما أصاب أشباهه.
ومن قائل: نخرجه من بين أظهرنا، وننفيه من بلادنا، ثم لا نبالي أين يذهب.
ثم اتفق الجميع على رأي أبي جهل، وهو: أن يؤخذ من كل قبيلة فتى شاب جلد، ثم يعطى كل منهم سيفاً صارماً، ثم يعمد هؤلاء إليه فيضربوه ضربة رجل واحد، وبذلك يقتل ويتفرق دمه في القبائل، فلا يقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعاً...

4 ـ كان هذا مكرهم وتدبيرهم، ولكن الله أفسد عليهم خطتهم. وأطلع نبيه على ما بيتوه له، فأمر صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه أن ينام في مكانه، ويتغطى ببرده، ثم خرج على المتربصين به أمام داره وهم نيام فنشر على رؤوسهم التراب، وقبل أن يغادر مكة، نظر إلى بيت الله وودعها بهذه الكلمات: والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت منك...
ومضى النبي صلى الله عليه وسلم حتى لجأ مع صاحبه أبي بكر في غار ثور، وبقي المتربصون به ينتظرون خروجه، حتى صاح فيهم واحد ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا؟ قالوا: محمداً قال: قد خيبكم الله، قد ـ والله ـ خرج محمد عليكم، ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وضع على رأسه تراباً، وانطلق لحاجته، فوضع كل واحد منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب.
وطار النبأ إلى جميع أرجاء مكة، واهتزت له جوانبها!! وقامت له قريش وقعدت! ثم أرسلت الرسل في طلبه واقتفاء أثره في كل جهة. وجعلت لمن يأتي به حياً أو ميتاً، مائة ناقة، واجتمع حول الغار عدد كبير من فتيان قريش ورجالها، ونظر إليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لرآنا تحت قدميه، ولكنه صلى الله عليه وسلم طمأنه بقوله:[ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا] {التوبة:40}.
وبهذه الكلمة المؤمنة المطمئنة، صور ـ صلى الله عليه وسلم ـ قلبه الكبير أدق تصوير، وعبر عما كان يشعر به من ثقة وإيمان أعظم تعبير.

5ـ لم تكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كما قلت في بعض ما كتبت استجابة لشعور بضعف أو خوف، فقد رأى الدنيا كلها تتحداه وتتألب عليه حتى أوشك عمه أن يتخلى عنه، ورأى في حديثه إليه ما كان يشعر به من قلق وإشفاق عليه وعلى أهله معه، قال له قولته المشهورة: يا عمر والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته.
ولم تكن هجرته صلى الله عليه وسلم ضيقاً بأرض تحمَّل فيها من ألوان البلاء والعناء ما تنوء بحمله الجبال. فقد أعلن عن حبه لها وتعلقه بها في هذه الكلمات التي ذكرها قبل أن يغادرها: والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت منك..
ولم تكن هجرته صلى الله عليه وسلم التماساً يجد فيها برد الراحة، فقد كان يعرف أنه يترك المشركين في مكة، ليواجههم مع اليهود والمنافقين والكافرين في المدينة وفيما حول المدينة ثم في كل مكان تشتعل فيه الحرب بين الكفر والإيمان.
وقد لمح بذلك أحد الذين بايعوه في العقبة حين قال: يا رسول الله إن بيننا وبين قوم حبالاً ونحن قاطعوها، فهل عسيت إن أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: أنتم مني وأنا منكم أسالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم.
وقد كان هؤلاء القوم الذين أشار إليهم القائل هم اليهود وكانت الحبال التي تشد أهل المدينة بهم هي العهود، ولا شك أن اليهود أشد الناس عداوة للمؤمنين، كما يقول الله فيهم:[لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا] {المائدة:82}.
لم تكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لشيء من الشعور بالخوف أو الضعف أو الضيق بمكة، والأمل في الراحة والدعة بالمدينة، وإنما كانت لحكمة كبرى تفسرها كل الأحداث التي وقعت بعدها، فكل ما أحرزه الإسلام من قوة وازدهار وانتشار بعد الهجرة ـ هو التفسير الكبير للحكمة من الهجرة.
وكل ما يقال من الأسباب المعقولة للهجرة لا يخرج عن معنى قول الله تعالى:[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] {الأنفال:30}.

6 ـ لقد كانت الهجرة في سبيل الله ولإعلاء كلمة دينه، فلم يشبها ما شاب غيرها من خوف أو ضعف أو طمع أو جشع.
ويكفي لبيان ذلك أن صهيباً لما أراد الهجرة قال له الكفار: أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت... ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك. فقال صهيب رضي الله عنه: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فتركوه حتى قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ربح بيعك.. ربح بيعك... ربح بيعك... وعندما همَّ عمر رضي الله عنه بالهجرة تقلد سيفه، وتنكب قوسه، وانفضَّ بدنه، واختصر عنزته، ومضى إلى الكعبة - والملأ من قريش بفنائها - فطاف بالبيت سبعاً، ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم وقف على هؤلاء حلقة ـ بعد أخرى ـ وقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس... من أراد أن تثكله أمه؟ أو ييتم ولده، أو ترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي.
هكذا كانت روح المهاجرين، وهكذا كانت عظمة نفوسهم، ومن ثم كانت الهجرة بدء التاريخ الإسلامي، وكان المحرم أول العام الهجري لأن العزم عليها وشروع المسلمين فيها وقع فيه...
وأي حدث في التاريخ أضخم من الهجرة... وأي قصة ترويها أحداث التاريخ أعظم من قصة الهجرة.


ــــــــــــــ

مجلة لواء الإسلام العدد السابع من السنة الثلاثون ربيع الأول 1396هـ=1976م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين