ما ليس تشريعاً من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله

هذه مقالة من مقالات العلامة الأصولي الفقيه الشيخ عبد الوهاب خلاف حول السنة التشريعية وغير التشريعية، وهي مما بحثه المحدثون والفقهاء والأصوليون ، وأفردت فيه كتب وبحوث كثيرة بين مؤيد ومعارض، ونحن في موقع رابطة العلماء السوريين نقدم هذا البحث في جملة ما نشرناه من مقالات كثيرة للعلامة خلاف رحمه الله تعالى في محاولة لجمع أعماله العلمية الكاملة بعون الله تعالى. ومجال الرد والمناقشة لهذا البحث وغيره متاح لمن أحب النقد والتعليق والنشر.

الرسول صلى الله عليه وسلم له صفتان:

صفةُ أنه فرد من الناس، وأنه بشر تقتضي طبيعته كل ما تقتضيه البشرية.

وصفة أنه رسول الله يوحى إليه من ربه، ويبلغ الناس ما أوحي إليه، ويبين لهم ما يحتاج إلى تبيين مما أنزل إليه.

وهاتان الصفتان واضحتان في قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ] {الكهف:110}. وفي قوله سبحانه له:[ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا] {الإسراء:93}.وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أم سلمة زوج رضي الله عنها: (إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه).

وفي قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه عن رافع بن خديج رضي الله عنه: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر).

وعن كل صفة من هاتين الصفتين صدرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أفعال وأقوال. فما صدر عنه بوصف أنه من البشر، وأنه إنسان تقتضيه إنسانيته أن يأكل ويشرب ويلبس وينام، ويفعل مالا يستغني عنه إنسان، وتقتضيه مدنيته وعضويته في مجتمعه أن يتعامل ويتبادل، ويفكر ويستنتج، ويشير ويستشير، كل هذا لم يصدر عنه تبليغاً عن ربه بوصف أنه رسول الله، فلا يكون تشريعاً عاماً، ولا يجب الاقتداء به فيه.

وما صدر عنه بوصف أنه رسول الله، من تشريع كلي، أو تشريع جزئي لم يقم برهان على أنه زمني، فهو تشريع عام، وعلى المكلفين اتباعه في كل حال.

ويتفرع عن هاتين المقدمتين التفصيلات الآتية:

1 – ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، في أكله وشربه، ولبسه ونومه، وركوبه وقعوده، ونحو هذا مما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية، ليس تشريعاً عاماً، ولا يفرض على المسلم أن يأكل كما كان يأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يشرب، أو يلبس أو يمشي أو ينام كما كان يفعل رسول الله، لأن هذا ما صدر عنه بوصف أنه رسول الله يقتدى به ويتّبع فيه.

فما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه كان أحب الثياب إليه أن يلبسها الحِبَرة، وكان أحب الطعام إليه الدُّبَّاء، وأنه كره لحم الضب، وأنه كان يمشي هوناً ونظره إلى الأرض ملياً، كل هذا وأمثاله ليس تشريعاً، ولا يجب الاقتداء به فيه، ولا تعد مخالفته عصياناً للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تابع الرسول في شيء من هذا فهو من باب التقدير والحب، لا من واجبات الدين.

قال الإمام الشوكاني في كتابه (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول): (ما لا يتعلق بالعبادات من أفعال الرسول، ووضح فيه أمر الجبلة كالقيام والقعود ونحوهما فليس فيه تأسٍّ ولا به اقتداء، ولكنه يدل على الإباحة، نعم إذا واظب الرسول صلى الله عليه وسلم على أداء حاجة من هذه الحاجات على وجه خاص، و صدر منه إرشاد أو استحسان لهذا الوجه الخاص في أدائه، دل هذا عند كثير من العلماء على ندبه، وبعضهم قال : لا يكون بهذا مندوباً أيضاً، ولا يدل هذا على غير إباحته).

2 – ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفعال وأقوال صدرت عنه بناء على رأيه وتفكيره في أمر زراعيّ أو تجاريّ أو حربيّ أو نحو هذا من الشئون الدنيوية التي يبدي العاقل المفكر فيها رأيه عن تجاريبه وتقديره ليس تشريعاً عاماً، ولا يجب على كل مسلم الاتباع فيه. 

وإلى هذا أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه مسلم في صحيحه: (إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من أمر دنياكم فإنما أنا بشر) .

وروى رواة السيرة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر رأى أن ينزل المسلمون عند أدنى ماء من بدر، فقال له الحُباب بن المنذر رضي الله عنه: أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة) قال الحُباب: ليس هذا لك بمنزل، وأشار بأن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون عند أدنى ماء من الأعداء، وبيَّن وجهة نظره، واستحسنها الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع مشورته.

وروى مسلم في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها يؤبرون النخل، فأشار عليهم بأن يتركوا تأبير نخلهم فتركوه، فسقط ثمر النخل لما أصابه من الآفات، فذكروا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر).

وعلى هذا فليس من التشريع العام ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم في كيفية زراعة أو تجارة أو خطة حربية، أو وصف دواء لمرض، لأن هذا صدر عنه صلى الله عليه وسلم بوصف أنه مفكر، لا بوصف أنه رسول. ولا يقال: إن الشريعة الإسلامية تقضي بأن شرب العسل علاج لشكاية البطن، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيمن ذكر له أنه يشتكي بطنه: (اسقه عسلاً) لأن علاج المعدة والأمعاء وأعضاء الجسم ليس وظيفة الرسول بوصف أنه رسول، وإنما صدر هذا منه بوصف أنه مجرب ومفكر، لا بوصف أنه مشرّع.

3 – ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أفعال وأقوال ودلت الأدلة الشرعية على أنه خاص برسول الله، لا يكون تشريعاً عاماً للمسلمين.

فالذي روي من تزوجه صلى الله عليه وسلم أكثر من أربع زوجات ليس تشريعاً عاماً لإباحة الزواج بأكثر من أربع، لأن الأدلة الشرعية دلت على أنه لا يباح للمسلم أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات، ودلت على أن هذا كان من خصائص الرسول.

والذي روي من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتفى في الإثبات بشهادة خزيمة وحده ليس تشريعاً عاماً، لأن الأدلة الشرعية دلت على أن الإثبات بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين.

فكل ما قام الدليل الشرعي على أنه من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون تشريعاً عاماً للمسلمين.

4 – أما ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أفعال وأقوال بوصف أنه رسول يبلغ ما أنزل إليه من ربه، ويبين للناس ما نزل إليهم، فهو تشريع عام للمسلمين بلا ريب، لأن تبليغه وتبيينه هو عن ربه، وأما ما صدر عنه من أفعال وأقوال تشريعية عن اجتهاده، فإذا أقره الله تعالى عليه، فهو بإقرار الله له تشريع إلهيّ، وواجب على المكلفين اتباعه في كل زمان وكل مكان.

والذي ينبغي أن يراعى وأن يفكر فيه بإمعان هو أن بعض الأحكام التشريعية الجزئية التي صدرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في غير العبادات، من المعاملات الدنيوية، والشؤون السياسية، قد يكون راعى فيها عرف قومه وأحوالهم الخاصة ومصالحهم وحاجاتهم، ولا شك أن العرف يتغير، والأحوال والمصالح تتبدل، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أراد بما شرعه إلا تحقيق المصلحة، وجلب النفع ودفع الضرر، و إقامة العدل بين الناس، فهل يظل مثل هذا الحكم الجزئي تشريعاً عاماً لكافة المسلمين في كل زمان مهما تبدلت المصالح وتغيرت الأحوال؟

خذ مثالاً: كان السعر الغالب للذهب والفضة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: الدينار من الذهب يعادل عشرة دراهم من الفضة، وعلى هذه النسبة شرع أن نصاب الزكاة من الذهب عشرون ديناراً، ومن الفضة مائتا درهم، وشرع أن دية القتيل خطأ ألف دينار من الذهب، ومن الفضة عشرة آلاف درهم، ولا شك أن سعر الذهب والفضة يختلفان، وقد يعادل الدينار من الذهب عشرين درهماً من الفضة لا عشرة دراهم، فهل يظل الحكم أن نصاب الزكاة من الذهب عشرون ديناراً، ومن الفضة مائتا درهم، مهما تغيرت الأحوال والأسعار، أو يجعل النصاب عشرين ديناراً من الذهب، وما يعادلها من الفضة ومن أي نقد؟

وخذ مثالاً آخر: وورد في الحديث: (من اشترى شاة مُصرَّاة فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها: إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر لا سَمراء)

الشاة المصراة: هي التي يربط صاحبها ضرعها قبل بيعها زمناً ليختزن اللبن فيه فيوهم عند عرضها للبيع أنها حلوب كثيرة اللبن، وهذا نوع من الغش، فمن اشترى شاة وتبين له بعد أن حلبها أنها كانت مصرّاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم خيّره بين أن يمسكها بعينها إن شاء، وبين أن يردها إلى بائعها ويعوضه عما احتلبه من لبنها صاعاً من تمر لا من قمح، فلابد أن تكون قيمة الصاع من التمر في ذلك الحين تعادل ما يحتلب غالباً من لبن الشاة المصراة، وهذا أمر يختلف باختلاف الأزمان والأحوال، فهل يظل الحكم أن يكون التعويض بصاع من التمر، أو يكون الحكم أن التعويض بقيمة اللبن من أي مال.

وخذ مثالاً آخر: روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خالفوا المشركين: وفِّروا اللحى واحفوا الشوارب) ومعنى توفير اللحى: تركها موفورة، ومعنى إحفاء الشوارب: قصها لتكون محاذية حافة الشفة، وعبارة الحديث تشعر بأن طلب توفير اللحى وإحفاء الشوارب ليس تديناً ولا تعبداً، وإنما هو لمخالفة المشركين، فهو أمر زمني دعا إليه الرغبة في أن يكون المسلمون على غير زي المشركين، ولو تبدلت الحال لتبدل الأمر، فمثل هذا ليس أمراً دينياً، ولا هو تشريع عام للمسلمين في كل زمان.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد التاسع من السنة الثامنة: جمادى الأولى 1374، يناير 1955

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين