علماء الإسلام في الأندلس -5-

نظر علماء الأندلس في أحوال الأمة وغيرتهم على مصالحها:

نرى في علماء الأندلس من لا يقصرون أنظارهم على الوجهة العلمية البحتة، بل يمرون بها في كثير من الأوقات على أحوال الجماعة ليعرفوا ما يطرأ عليها من خلل، وما تحتاج إليه من إصلاح.

ينبئنا التاريخ أن كبار أهل العلم في القرى المجاورة لقرطبة يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة في قرطبة ويطالعونه بأحوال بلدهم، وينبئنا التاريخ بأن في علماء الأندلس طائفة لا يغضون أبصارهم عما يصنع ولاة الأمور، ثم لا يكتمون النصيحة إذا أبصروا عوجاً في السياسة أو حيفاً في الحكومة أو تبذيراً في الإنفاق.

عاد أبو الوليد الباجي من الشرق فوجد ملوك الطوائف بالأندلس أحزاباً متفرقة فأدرك سوء عاقبة هذا التفرق، ودفعته الغيرة أن قام يسعى بينهم بالصلح، ولكنه نفخ في عظام ناخرة، فكان كلما وفد على ملك منهم لقيه بالتقريب والترحيب، وهو في الباطن يستجهل نزعته، ويستقل طلعته فلم يبلغ أن يعقد بين أولئك الأحزاب وفاقاً، ومواقف منذر بن سعيد البلوطي في وجه عبد الرحمن الناصر منكراً عليه الإسراف في تشييد المباني والغلو في زخرفتها مبسوطة في كتب التاريخ دائرة على ألسنة الأدباء.

والعلماء الذين ينفقون شيئاً من أوقاتهم في البحث عن أحوال الاجتماع ومقتضيات السياسة، يتوفقون أكثر من غيرهم إلى أن يصوغوا فتاويهم على قدر المصالح المعتد بها في نظر الشريعة.

لما أراد سلطان المغرب الأقصى يوسف بن تاشفين، إنقاذ الأندلس من مخالب أعدائها المتحفزين للوثوب عليها، استفتى أهل العلم في أخذ معونة من الأمة يستعين بها على دفاع أولئك المتحفزين فأحجم بعض الفقهاء من غير أهل الأندلس أن يفتيه بجواز ذلك، ولكن قضاة الأندلس وفقهاءها ومنهم أبو الوليد الباجي كانوا يحسون العدو على مقربة من ديارهم ويذوقون مرارة وضعه الضرائب على أمرائهم، وينظرون إلى عاقبة استيلائه على أوطانهم كأنهم يرونهم رأي ا لعين، فأفتوه بأخذ المعونة من الأمة زيادة على ما هو المفروض عليهم من مقادير الزكاة.

وفي علماء الأندلس رجال كانوا يعملون لحماية البلاد بأنفسهم، ولم يودعوا هذه الحياة إلا وهم مرابطون في الثغور أو تحت ظلال السيوف، كان محمد بن عبد الله الليثي قاضي قرطبة يخرج إلى الثغور ويباشر إصلاح ما اختلَّ منها، حتى وافاه الموت وهو في بعض الحصون المجاورة لطليطلة.

وكان القاضي سليمان بن موسى الكلاعي من أولي البسالة والإقدام، يشهد مواقع القتال بنفسه إلى أن توفي في إحدى الغزوات شهيداً في سبيل الله.

ولكثر ما نجد في تراجم علماء الأندلس أن زيداً استشهد في غزوة كذا، وعمرا مات مُنصرَفه من غزوة كذا، وبكراً توفي مرابطاً في ثغر كذا، إلى من لا يحصيهم القلم حساباً.

هذه صحيفة من تاريخ علماء الأندلس تلوناها كالتذكرة لشبابنا الناهضين، وعسى هذه المعاهد والمدارس الإسلامية أن تخرج لنا رجالاً يبهرون الناس علماً وجلالة ويذودوا عن الشريعة نفراً يتهافتون على إطفاء نورها، والسلام على العلماء المصلحين المجاهدين ورحمة الله.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة الفتح المصرية ، 25 ذي الحجة 1346 - العدد 100 

انظر : الحلقة الرابعة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين