ذكر جميل لأيام في القدس والخليل -6-

الخليل:

ثم مضينا قاصدين مدينة الخليل، متأملين من ماضيها التليد مناظر طبيعية وآثارا إسلامية، فالمنطقة كلها إسلامية عربية ذات تاريخ مجيد، وحضارة راقية، متعاقبة فصولها، متسلسلة حلقاتها، ومتواصلة ملامحها، مكسوة حللا قشيبة ومزدانة بحلى بديعة فاتنة، لم تكن كأطلال سعدى في قفار، ولا آثار دارسة في بواد، ولكن إذا رأيتَ الآن صورتها التي جنتْها أيادي الأقزام مشوهة مقبحة ارتعتَ وعِلتَ صبرا، فقد أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة عليها ومر العشي.

ولما انتهينا إلى مشارف الخليل شممنا روائحها، وألفنا طابعها الإسلامي وسماتها العربية، والخليل معروفة بالعنب وجلود الإبل ومنتجات أخرى، تقع في الجهة الحنوبيّة من القدس، تبعد عنها حوالي ستة وعشرين كيلومتراً، وكانت بداية إقامتها على تلة تقع في الجهة الشماليّة الغربيّة من المدينة الحاليّة، سمّيت نسبة إلى إبراهيم الخليل عليه السلام، وحق للمدن والقرى أن تنسب إليه، ولا سيما التي عاش فيها زمنا من حياته وثواه ترابها.

وأولى المدن والقرى بسيدنا إبراهيم عليه السلام هي مكة المكرمة، وهي التي فضلها الله تعالى على سائر بقاع الأرض، وهي التي حرمها الله عز وجل إجابة لدعاء خليله، ولم يعط الله هذا الشرف لأي بلد من بلاد العالم، إلا ما كان من تحريم النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة المنورة، فهي التالية لمكة المكرمة في العز والشرف والحرمة والكرامة، لا ثالثة لهما، والقدس مدينة المسجد الثالث الذي تشد إليه الرحال، وليست ببلد حرام.

المسجد الإبراهيمي:

دخلنا في مدينة الخليل في الساعة الواحدة والنصف، وتوجهنا إلى المسجد الإبراهيمي مُقحمين نقطة تفتيش، ونقاط التفتيش حواجز نصبها الجنود اليهود بهدف ما يسمونه تعزيز أمنهم، لا أمن الله العائثين في الأرض فسادا، وعددهم هنا كبير، وكثيرا ما تحدث مشاكل واضطرابات بين الطائفتين لأمور تُبيِّتها المبيِّتون تبييتا، تركتْني أحسد الوحوش أن أرى أليفين منها يتعايشان لا يروعهما الذعر، ولا يحملها التنافر بينها على البغي والعدون، أو على تقتيل نفس حرمها الله أو تشريد إنسان.

يقع المسجد في جنوب المدينة الشرقيّ فوق مغارة تضم - كما زعموا- ضريح إبراهيم عليه السلام وغيره من آله، ويقال: إن سليمان عليه السلام بنى سوراً حول هذه المغارة، وإنّ المسجد الإبراهيمي أقيم فوق هذا المغارة، وأغلق قسم كبير من المسجد بعد حدوث مجزرة الخليل سنة 1994، إذ دخل أحد السفّاحين المجرمين إلى المسجد أثناء أداة صلاة الفجر في يوم جمعة من شهر رمضان، وقتل تسعة وعشرين مصليّاً وأصاب 150 آخرين، فقسّم إلى مسجد ومعبد لليهود.

صلينا في المسجد الظهر والعصر قصرا وجمعا، وهذا المسجد مثل غيره من المساجد أسس لعبادة رب العالمين، يحمل الحرمة التي يتميز بها سائر بيوت الله، واستغربت العامة هنا يسمونه الحرم الإبراهيمي، ألا فلا يرتابنَّ مرتاب أن الحرم الإبراهيمي الذي بناه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين، وهي الكعبة التي جعلها الله تعالى مثابة للناس وأمنا، وهي التي أمر الناس بأن يولُّوا وجوههم شطرها في صلواتهم وذبائحهم، وهي التي قال الله عنها: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا.

 

الأضرحة والقبور:

وبقينا في المسجد حتى الساعة الثالثة والربع، زرنا خلالها الأضرحة التي فيها، وهي أضرحة إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم صلوات الله وسلامه، وأزواجهم سارة، ورفقة، ولائقة، وإيليا، وليس هنا سند تاريخي بدفن هؤلاء جميعا في هذا المكان، والغالب أن يعقوب عليه السلام دفن في مصر حيث توفي وكذلك أهله وأولاده دفنوا بها، وذكر الله تعالى في القرآن الكريم وصية يعقوب عليه السلام لبنيه حين حضره الموت، ولم يقم دليل على أنه هاجر مع بنيه عند وفاته إلى الشام، ومحال أن ينقل جثمانه إليها فالأنبياء يدفنون حيث يموتون.

يذهب أهل العلم بالتاريخ أن إبراهيم عليه السلام دفن في هذه البقعة من دون تحديد لمكان الدفن، قال ابن كثير رحمه الله : "فقبره (أي إبراهيم عليه السلام) وقبر ولده إسحاق وقبر ولد ولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام ببلد حبرون، وهو البلد المعروف بالخليل اليوم، وهذا متلقى بالتواتر أمة بعد أمة وجيلاً بعد جيل من زمن بني إسرائيل وإلى زماننا هذا، أن قبره بالمربعة تحقيقاً، فأمّا تعيينه منها فليس فيه خبر صحيح عن المعصوم". (البداية والنهاية 12/267). قلت: لم يصب ابن كثير في تقرير دفن يعقوب بها متواترا.

وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولما كان اتخاذ القبور مساجد و بناء المساجد عليها محرما، و لم يكن شيء من ذلك على عهد الصحابة و التابعين لهم بإحسان، و لم يكن يعرف قط مسجد على قبر، و كان الخليل عليه السلام في المغارة التي دفن فيها و هي مسدودة، لا أحد يدخل إليها ولا تشد الصحابة الرحال لا إليه ولا إلى غيره من المقابر، لأن في الصحيحين من حديث أبى هريرة و أبى سعيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام و المسجد الأقصى و مسجدي هذا. فكان يأتي من يأتي منهم إلى المسجد الأقصى يصلون فيه ثم يرجعون لا يأتون مغارة الخليل ولا غيرها. و كانت مغارة الخليل مسدودة حتى استولى النصارى على الشام في أواخر المائة الرابعة ففتحوا الباب وجعلوا ذلك المكان كنيسة ثم لما فتح المسلمون البلاد اتخذه بعض الناس مسجدا. وأهل العلم ينكرون ذلك والذي يرويه بعضهم في حديث الإسراء " أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هذه طيبة انزل فصل فنزل فصلى، هذا مكان أبيك انزل فصل" كذب موضوع، لم يصلِّ النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة إلا في المسجد الأقصى خاصة كما ثبت ذلك في الصحيح، ولا نزل إلا فيه .و لهذا لما قدم الشام من الصحابة من لا يحصى عددهم إلا الله، و قدمها عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس و بعد فتح الشام لما صالح النصارى على الجزية و شرط عليهم الشروط المعروفة و قدمها مرة ثالثة حتى وصل إلى سرغ و معه أكابر السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار فلم يذهب أحد منهم إلى مغارة الخليل و لا غيرها من آثار الأنبياء التي بالشام لا ببيت المقدس و لا بدمشق و لا غير ذلك".

وقال رحمه الله: "ففي جميع هذه المرات لم يكن أحدهم (أي أحد الصحابة) يقصد السفر إلى قبر الخليل ولا كان هناك مشهد بل كان هناك البناء المبني على المغارة وكان مسدودا بلا باب له مثل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم لم يزل الأمر هكذا في خلافة بني أمية وبني العباس إلى أن ملك النصارى تلك البلاد في أواخر المائة الخامسة فبنوا ذلك البناء واتخذوه كنيسة ونقبوا باب البناء فلهذا تجد الباب منقوبا لا مبنيا ثم لما استنقذ المسلمون منهم تلك الأرض اتخذها من اتخذها مسجدا."

وقال رحمه الله: "بل قبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لم يكن في الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان من يأتيه للصلاة عنده ولا الدعاء، ولا كانوا يقصدونه للزيارة أصلا." (مجموع الفتاوى 17/464-465).

 

كلمة لي في المسجد:

وألقيت في المسجد كلمة أكدت فيها أن قبور الأنبياء عليهم السلام لا تعرف بالضبط مواقعها إلا موقع قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يضرهم ذلك، فالأنبياء جاؤوا ليصِلوا العباد بربهم، فالذي يهمنا هو تعليمهم، وقد حفظ الله لنا عصارته في كتابه المجيد، ثم شرحت معنى الحنيفية وبلاغة قول إبراهيم عليه السلام: "إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين"، وأن لا نعبد إلا الله ولا ندعو إلا إياه، ولا نشرك به شيئا، وأن التوقف عند الحدود التي حدها الله ورسوله هدى ورشاد، وأن الإحداث أدنى لِغَي وضلال، ويجب على المؤمن البصير أن يكون لهواه متهما، ولا يقبل من أحد حديثا حتى يتبينه تبينا، ولا يتمادى في الباطل إذا اشتبه عليه أمره.

ووجَّه الحضور إلي أسئلة أجبت عنها، منها أي النبيين أفضل؟ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو نبينا إبراهيم عليه السلام؟ فبينت ذلك بيانا شافيا، ومنها استفسارات عن تاريخ مدينة الخليل، وتاريخ القدس، ونزول عيسى بن مريم عليهما السلام، وكذلك كان هناك سؤال عما إذا هاجر إسماعيل عليه السلام وذريته إلى الشام، فقلت: لم يهاجروا إليها، ولكنهم قدموا إليها تجارا.

وذكَّرتهم أن الله تعالى أراد أن يوثق صلتنا بإبراهيم عليه السلام، لأنه إمام الناس في الحنيفية والتوحيد الخالص والإسلام لله رب العالمين، وأسوة لهم في الإيمان، أسأل الله تعالى أن يعلِّمنا ما ينفعنا ويجعلنا موحدين حنفاء، ويجنِّبنا الشرك وأهله، إنه مجيب قريب.

الحلقة الرابعة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين