الرسول في طريق المدينة - 1

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في طريق المدينة

الشيخ: محمد البنا

- 1-

يقترن هلال المحرم بذكرى الهجرة النبوية الشريفة فيذكر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ما تومئ إليه الهجرة من معنى رائع وخلق بارع وفضائل فارعة ومزايا على الزمان ساطعة ونفوس باعت مآربها في سبيل المبدأ الفاضل وآثرت نعيم المضير على الدنيا وما فيها من عرض زائل ثم يستمدون القوة في حياتهم من سيدهم وقدوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجالدون الشدائد ويقاومون الحوادث ويصبرون على المكاره ويتحملون الخطوب والملمات وتهون عليهم المكاره فيما اعتنقوا من عقيدة وما طمحوا إليه من حرية وكرامة وكل ذلك هو خلاصة ما في الحياة من سمو وسؤدد إن المسلمين جعلوا الهجرة مبدأ تاريخهم

 

ويروى بعض الرواة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ولكن أكثر الرواة على أن عمر بن الخطاب هو الذي أرخ بالهجرة وجعل التاريخ من المحرم

 

أخرج البخاري والحاكم عن ميمون بن مهران قال رفع إلى عمر صَكّ محله شعبان، فقال أي شعبان الذي نحن فيه أو الذي مضى أو الذي هو آت ثم قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعوا للناس شيئاً يعرفونه من التاريخ فقال بعضهم اكتبوا على تاريخ الروم، فقال إن الروم يطول تاريخهم ويكتبون من ذي القرنين. فقال اكتبوا على تاريخ فارس فقال إن فارس كلما قام ملك محا من كان قبله فاجتمع رأيهم أن الهجرة كانت عشر سنين فكتبوا التاريخ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم

 

وإذا صح هذا فقد كان عمر رضي الله عنه موفقاً إلى خير يوم يؤرخ به المسلمون لأن يوم الهجرة كان يوم الفوز على أولئك الطغاة الذين أرادوا أن يطفئوا نور الله ويصدوا رسوله عن الحق المبين.

لقد لاحقت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوعيد والإيذاء واستمالته بالوعد والإغراء، ولو نجحوا في تدبيرهم فنالوا من الرسول منالاً أو وصلوا إلى ما يبتغون منه لوقفت الدعوة وأفلت شمس الإسلام بعد بزوغها ولكن لله أمراً هو بالغه ودين سيحميه حتى يصل إلى مداه وإنك ستجد من الآيات في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يملأ النفس إقناعاً بأن الله كتب لدعوة الحق أن تدوي في جميع بقاع الأرض فيستجيب لها قوم طهر الله قلوبهم من الحسد والكبرياء.

ويدخل هذا الدين الجديد كل فج من فجاج الأرض ويهتف الناس إلا المكابرين باسم محمد سيد البشرية والمجاهد في إسعادها.

كان الوقت صيفاً حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يقصد المدينة وهم يقولون إنه وصل المدينة لاثنتي عشر خلت من ربيع الأول في ظهر يوم الاثنين لثلاث وخمسين سنة من مولده وهو يوافق كما يقولون 28 من يونيه سنة 622م. ـ بل 28 من شهر سبتمبر سنة 622م ـ طارق.

فالنبي حينئذ قد شارف شيخوخته، وحر بلاد العرب يشوي الوجوه وهو يحتمل ذلك كله ومعه أعوانه فراراً بدينهم وحرصاً على عقيدتهم ويغامرون في ذلك مغامرة لم يعرف التاريخ مثلها قوة وروعة ثم يصلون إلى أغراضهم وإن هذه الآيات وهي الدليل على أن هذه الدعوة من رب الأرض والسموات والله الذي أراد لها النصر أحاطها رجال عرفوا فضل التضحية والإيثار وفطرت قلوبهم على الهداية والرشاد فقدموا أنفسهم وأموالهم لله وافتدوا بذلك رسوله ومجتباه.

إن هذا اليوم يوم التضحية التي لم يعرف لها مثيل في تاريخ الذود عن المبادئ الطاهرة فقد عرف الناس جميعاً أن ذلك الفتى الفارس علياً كرم الله وجهه جاد بنفسه فداء للرسول صلى الله عليه وسلم، والجود بالنفس أقصى غاية الجود تقدم علي ليضطجع في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم قرير العين مطمئن القلب ليهيء للرسول طريق خروجه على غرة من القوم إذ يأنسون بالراقد كلما طالعته عيونهم من وصاوص الباب ليظنوا أن النبي لم يفلت من أيديهم ولكن ضل سعيهم وكانوا دائماً خائبين.

 

ونام البطل علي كرم الله وجهه لم يطرف له جفن بين تلك السيوف الفاتكة والقلوب القاسية والعيون الساهرة وهو لا يعلم عن مصيره شيئاً ولكنه هادئ النفس لأن صاحب الدعوة نجا في حماية الله

 

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وصديقه الوفي أبو بكر رضي الله عنه بين سيوف الباطل المصلتة وأسنته المرهفة ورجاله الآخذين بمخانق الطريق ومسالكه بل أبواب الدار وحيطانها فكانت الغشية التي يلقيها الله تعالى الباطل حين يواجه الحق فإذا هو أعمى لا يبصر وحائر لا يهتدي:[وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ] {يس:9}.
ثم يتقدم أبو بكر رضي الله عنه فيضرب مثلاً آخر في الإيثار فقد توجه الصاحبان الطاهران إلى حيث يريدان أن يختبئا فجعل أبو بكر طوراً يمشي أما الرسول الكريم وطوراً يمشي خلفه وطوراً عن يمينه وطوراً عن شماله فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم ما هذا يا أبا بكر؟ فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأحب أن أكون أمامك وأتخوف الطلب فأحب أن أكون خلفك وأحفظ الطريق يميناً وشمالاً فقال: لا بأس عليك يا أبا بكر الله معنا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تعب فحمله أبو بكر رضي الله عنه على كاهله، حتى انتهى إلى الغار

 

ويقول أصحاب السيرة إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يدخل الغار قال أبو بكر والذي بعثك بالحق نبياً لا تدخله حتى أدخله فأسبره قبلك ودخل أبو بكر رضي الله عنه وجعل يلتمس الغار بيده في ظلمة الليل مخافة أن يكون فيه شيء يؤذي الرسول فلما لم ير فيه شيئاً دخل صلى الله عليه وسلم الغار وجعل رأسه في حجره وشرف غار ثور بالصاحبين اللذين أويا إليه ليضعا أسس المدنية في الأرض جميعاً ولو أفشى ذلك الغار سرهما لانقلبت تلك المدنية إلى فوضى وهمجية وشقي العالم بأجمعه ولله في كل شيء آية وله جند من كل مخلوق [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ] {المدَّثر:31} .

 

فقد أقبل فتيان قريش ومعهم من يقص الأثر يريدون الفتك بذلك الذي سفه آلهتهم وخلع أوثانهم وانتهى القاص إلى الغار وقال هنا انتهى أثره فما أدري بعد ذلك أصعد إلى السماء أو غاص في الأرض ودهش القوم واعترتهم حيرة

وقال قائلهم: ادخلوا الغار فينبري لهم أمية بن خلف ويقول: إن عليه لعنكبوتاً قبل ميلاد محمد فيشترك ألد أعداء العقيدة في صيانة العقيدة وحمايتها ويسخره الله لحفظها ورعايتها ويبطل كيد المشركين بدعوة رسول الله: اللهم أعم أبصارهم، وفي هذه الساعة الحاسمة تظهر قوة الإيمان وتتجلى ثقة الرسول بربه وإنكار أبي بكر لنفسه في سبيل دينه إذ يقول أبو بكر للرسول صلى الله عليه وسلم إن تصب اليوم ذهب دين الله فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين اللهم ثالثهما، وتهون نفس أبي بكر عليه ويرى أن كل شيء سوى الدين نزر يسير فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم إن قتلتُ فإنما أنا رجل واحد وإن قتلت أنت هلكت الأمة وما هي إلا بشاشة يبعثها قلب تنزل عليه السكينة ويفيض منه النور النبوي ويثبته اليقين الإلهي إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا وكأنما غار ثور قد أدى قسطه وحمل ما ألقى عليه من العبء حتى فرغ منه فخرج المهاجر ومن معه وساروا على طريق الساحل ونزلوا بقديد على أم معبد عاتكة بنت خالد وأظهر الله على يديه آية باهرة إذ مسح ضرع شاة مجهودة وشرب من لبنها وسقى أصحابه فلما جاء زوجها أكثم بن الجون وعهده بهذه الشاة لا لبن فيها هزته هذه المفاجأة فسألها: كيف جاد ضرع هذه الشاة باللبن قالت: لا أدري إلا أني رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة متبلج الوجه حسن الخلق له رفقاء يحفون به إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر يبادرون إلى أمره فقال: والله هذا صاحب قريش

ولا عجب إذا انبثقت الهداية في قلب ذلك الرجل لما رأى من آيات الله فأسلم هو وزوجه وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك ولما مرت قريش سألوها عنه ووصفوه قالت لا علم لي بما تقولون: فقالوا ذاك الذي نريد.

ولما حبط مكر قريش وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في أمن ودعة إلى حيث يقصد وأعياهم البحث وأجهدهم التعب بعد أن أرسلت الرسل في أثر المهاجر وصاحبه وبثت العيون جعلت جائزة قدرها مائة ناقة لمن يقتل أحدهما أو يأسره ومائتان لمن يقتلهما أو يأتي بهما جميعاً فدفع الطمع سراقة بن مالك وحدثته نفسه أن يختص بهذه الجائزة دون قسيم أو شريك فاشتد في أثر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه حتى أدركهما والرسول صلى الله عليه وسلم يتلو بعض آيات الله فتنبه له أبو بكر رضي الله عنه ودخله الخوف فثبت النبي صلى الله عليه وسلم فؤاده وأخبره أن الله ناصره ومن ينصره الله فلن يخذل أبداً ثم دعا ربه:اللهم اكفنا بما شئت و كيف شئت.
وفي هذه الشدة البالغة والظلمة الحالكة يستجيب الله الدعاء ويأتيهما النصر من السماء وتقع المعجزة التي ذهبت مثلاً من الأمثال ساخت قوائم فرس سراقة في الأرض ولم تقدر على مغادرة مكانها فهاله الأمر وانخلع قلبه فزعاً وترجل خشية أن يصيبه ما أصاب فرسه ونادى: الأمان يا محمد: أنظرني أكلمك أنا لك نافع غير ضار وإني راجع وسأردهم عنك: يا محمد إن قومك جعلوا فيك الدية مائة من الأبل لمن قتلك أو أسرك فادع الله أن يطلق لي جوادي ولك عهد وميثاق أن أرجع عنك ثم يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ربه: اللهم إن كان صادقاً فيما يقول فأطلق له جواده، وينجو الجواد ويعرض سراقة على رسول الله أن يتزود من ماله ما شاء وما أروع أن يرد عليه الرسول قائلاً: يا سراقة إذا لم ترغب في دين الإسلام فإني لا أرغب في مالك وما المال وما المتاع عند النفس العيوفة والقلب الكبير الذي لا يريد زهرة الحياة؟ إن الغرض الأوفى عند صاحب الدعوة أن تسلم دعوته وأن تعلو كلمة الله وأن تنجو من الساعين لحربها ولذلك يقول الرسول لسراقة لا تترك أحد يلحق بنا وأدرك سراقة أن هذه النفس التي يساعدها ربها ستغلب وتنتصر وتمثل له أمر محمد وهو يملك رقاب الناس وتخفق رايته على المشرقين فقال يا محمد: عاهدني إذا أتيتك يوم ملك أن تكرمني فيعاهده ويقول: متنبئاً بالغيب الذي آتاه الله علمه كيف بك يا سراقة إذا تسورت بسواري كسرى ويعجب سراقة ويسال: كسرى بن هرمز؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في ثقة وإيجاز: نعم. وينتهي أمر سراقة في قصة طريفة إلى الإسلام وينفذ له كتابه في فتح مكة ويفوز ذلك الرجل الطامع في أعراض الدنيا فوزاً عظيماً بما آتاه الله من الهداية فما هذه الأغراض في هداية الله إلا هباء وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين