نظرات في القاعدة التكفيرية الثانية: كفر من تحالف مع المشركين أو ناصرهم على إخوانه المؤمنين -3-

هذه بعض البحوث المنتقاة من كتاب فضيلة الشيخ محمد أمين محمد الحامد " الميزان" الذي ناقش فيه بعض نواقض الإيمان في كتابه الذي نشرناه كاملا على موقع رابطة العلماء السوريين. وهذا رابطه: 

http://islamsyria.com/site/show_library/1031%20

وننشر مناقشته لبعض هذه النواقض في حلقات متسلسلة ليتمكن القراء من الاطلاع عليها والاستفادة منها. 

ونحب أن نذكر القراء بأن ما ننشره في هذا الموقع لا يعبر دائما عن موقف علماء الرابطة من كل ما ينشر ، بل هو اجتهاد شخصي ينسب لقائله

 

التحالفات السياسية هي من الأعمال السلوكية ، ولذلك لا يمكن أن تكون من مبادئ الإيمان ، وإذا كان كذلك فقد وجب أن تكون من أعمال الإسلام ، أي لن يكون الذنب فيها من المكفرات ، إلا إذا دل على ميل قلبي للكافرين ، فقد وجب أن تكون من أعمال الإسلام ، أي لن يكون الذنب فيها يدخل في الكفر ، إلا إذا دل على ميل قلبي للكافرين ، أو تحبيذ لأعمالهم الموجهة ضد المسلمين ، فهنا يبدأ التكفير بسبب ذلك الميل القلبي الذي يدل على حب للكفر على حساب الإيمان وتفضيل لأعمال الكافرين العدوانية على المؤمنين.

التحالف السياسي أو العسكري ، ما أكثره :

أما موضوع التحالف مع الكافرين لتحقيق مصلحة للمسلمين ، فهذا أمر جائز ولا ينقض مبدأ الولاء والبراء ، وقد فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية ، فقد كان من شروط العقد أن من أراد الدخول من القبائل في حلف قريش كان له ذلك ، ومن أراد الدخول منهم في حلف النبي صلى الله عليه وسلم كان له ذلك ، فتواثبت قبيلة بكر وقالت نحن في حلف قريش ، وتواثبت قبيلة خزاعة وقالوا نحن في حلف محمد .

وهذا يعني أنه يصح في بعض الأحوال السياسية التحالف مع الكافرين ، وهذا هو ما حصل مع قبيلة خزاعة ، ومعلوم ان هذا الحلف هو الذي أدى إلى فتح مكة فيما بعد، حيث نقضته قريش بأن أعانت فيه قبيلة بكرعلى قبيلة خزاعة ، عندما غدرت بها بكر وصبّحوهم على ماء لهم يقال له الوتير، فقد هجموا على خزاعة ليلاً وهم غافلون آمنون ، بأمان حلف الحديبية أي لم يكونوا حذرين ولا متأهبين ضد قبيلة بكر ، كما هي العادة عند العرب في مثل هذه الحالات العدائية بين القبائل .

وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً نقضت عهده ، بسبب عدوانها على حليفه وهي قبيلة خزاعة ، ورأى أنه قد أصبح في حلٍّ من الالتزام بهذا العهد الذي حصل بينه وبينهم في صلح الحديبية ، وهذه هي اللحظة التي كان ينتظرها بفارغ الصبر ، من أجل أن يحرر مكة ويدمر كيان الشرك فيها ، لأن تدمير هذا الكيان في مكة سيكون كافياً للقضاء على الشرك في جزيرة العرب بشكل كامل.

وبمعنى آخر فإن سبب فتح مكة ما كان إلا انتصاراً من النبي صلى الله عليه وسلم لحليف مشرك ، وهذا يعني أمرين ، أحدهما : جواز التحالف مع الكافرين لأي حاجة تحقق مصلحة المسلمين ، أي من غير وجود ضرورة ملجئة تستدعي وجود ذلك التحالف ، وهذا هو ما حصل بالتحالف مع قبيلة خزاعة ، حيث لم يكن هناك أي ضرورة للإسلام إلى ذلك التحالف، وإنما كان القصد منه إثبات الندية السياسية أمام قريش بالقيام بفعل مماثل لما فعلته ، وبإنهاء الوصاية القرشية على العرب في منعهم من الدخول في الإسلام، وبذلك يحوز على مكانة بين القبائل العربية متكافئة مع مكانة قريش.

اما الأمر الثاني: فهو أن فتح مكة كان سببه بحسب الظاهر، إنما هو انتصار للمشركين ، لأنه كان انتصاراً لحليف للإسلام مشرك ، وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم من حيث الظاهر، أن يعاقب قريشاً لأنها نقضت عهدها مع حليفه ، أي وليس معه مباشرة ، فهل كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم غير متفقه لموضوع البراء والولاء ، ولا فاهم له على الوجه الصحيح وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك .

ولا بد من الإشارة بشكل واضح ، بأن صلح الحديبية الذي كان مع قريش ، هو في الحقيقة نوع من التحالف ، بل هو تحالف عسكري ، لكنه تحالف سلبي لأنه يقتضي بمنع الحرب بين الطرفين، وهذا تعاون عسكري لا شك فيه، وهو ما يعني أن التحالف بين المسلمين والكافرين أمر جائز دائماً للمصلحة، ولا يعني أبداً إخلالاً بموضوع الولاء والبراء ، بل لقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع كثير من القبائل، وخصوصاً تلك القبائل المحيطة بالمدينة، من أول يوم أقام فيها دولته المباركة ، وكان يسمى هذا التحالف : بالموادعة ، كما ذكرت ذلك كتب السيرة ، أي لا يحاربون الإسلام ولا يعينون على حربه .

وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أعظم من هذه الموادعات وهي الاتفاق على وجوب الحرب الدفاعية عن المدينة المنورة ، أي هو إلزام للكافرين في الاشتراك في الحرب مع المسلمين ، جنباً إلى جنب ضد أي عدو يريد مهاجمة المدينة ، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتباً لجميع القبائل في المدينه من اليهود والمشركين ، وهذا هو ما عرف فيما بعد بصحيفة المدينة التي ذكرها أصحاب السير والمغازي .

ادعاء النسخ لا دليل عليه :

أما الادعاء بأن جميع هذه العهود قد نسختها سورة براءة التي هي آخر سورة نزلت من القرآن ، فليس هذا الادعاء صحيحاً ، لأن هذه البراءة قد استثنت من المشركين ، أولئك الذين حصلوا على عقد معاهدة مع المسلمين في مكة يوم صلح الحديبية ، وهؤلاء هم الذين دخلوا في حلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كانت قبيلة خزاعة من هؤلاء ، قال تعالى (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ? فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ? إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) سورة التوبة آية 7. فهذه الآية واضحة في أنها تستثني فريقاً من المشركين أي من الكافرين إلى الأبد ، فالكافرون هم من المشركين هنا في هذه الآية ، وهي قد أبقت على فريق منهم لم تعلن البراءة منه كما هو ظاهر من لفظها ، أي لم تعلن الحرب عليه.

وهذا يعني أنه ليس صحيحاً ادعاء النسخ لجميع الآيات المسالمة ، والتي تدعو إلى العفو والمسامحة والمعاملة الحسنة ، بل هي لم تنسخ أبداً ، لأن الإبقاء على عهد واحد لمشرك واحد يبطل دعوى النسخ ، بل أمرت هذه الآيات من سورة براءة ، أن الواجب على المسلمين عندما يأتيهم أحد ولو كان فرداً ، مستجيراً بهم طالباً حمايتهم ومساعدتهم على سلامة نفسه وماله ، أن يجيروه وأن يواصلوا حمايته حتى يبلغ مأمنه . قال تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى? يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ? ذَ?لِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ) سورة التوبة آية 6.

فكيف يصح قتل الناس بهذه الطريقة الهوجائية الشنيعة المقرفة ، التي نراها اليوم عند بعض هذه الجماعات المتطرفة التي لا تراعي عهداً ولا أمانة ، ولا تعف عن دم مسلم مسالم أمي لا يعرف من الإسلام إلا الشهادتين فقط .

فادعاء النسخ بناء على ما ورد في صدر سورة براءة لا يصح ، لقوله تعالى: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) أي إن هذا العهد سيبقى ماداموا مستقيمين عليه إلى مالا نهاية له ، ولا يصح كذلك ادعاء النسخ بآية السيف كما يقولون ، وهي قوله تعالى : (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) لأن هذه الآية توجب القتال بالمثل ، أي كما يقاتلونكم كافة فقط ، ولا تعني قطع جميع العهود ، وسل السيف على كافة أهل الأرض ، وأن العلاقة بين المسلمين وغيرهم قد حكمت فيها هذه الآية ، أي جعلتها قائمة على حد السيف ، ويقولون كذلك إنه لا يجوز مهادنة الكافرين إلا عند الضرورة ، وهي تقدر بقدرها ، أي لا يجوز أن تبقى الهدنة غير محددة ، بل يجب أن تتقيد بعدد من السنين قياساً على عهد الحديبية ، لا أن تكون مطلقة من غير عدد ، وهذا الموضوع سيكون له شرح بعد قليل .

لكن ماذا عن الأمر بقتال الذين يلونكم ؟

أما الآية الأخيرة التي قد يعتبرها البعض حجة له ، في تحريم العلاقة السليمة بين المسلمين وغيرهم ، فهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ? وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) سورة التوبة آية 123 . فهذه الآية لا يصح الاعتماد عليها على اعتبار أن الذين يلونهم سيتجددون ، فكلما انتهينا من الذين يلوننا الملاصقون لنا ، ظهر لنا فريق آخر سيصبح مباشرة من الذين يلوننا ، وهكذا سيظهر لنا بشكل مستمر فرقاء يتجددون من الذين يلوننا ، بطريقة متوالية ومتتابعة بشكل مستمر.

ولا يتوقف هذا التتابع حتى نصل إلى أطراف الأرض ، وهناك ستكون النهاية لهؤلاء الذين يلوننا ، وهذا يعني أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم لا يمكن أن تكون إلا علاقة حربية ، أي ولا يجوز أن تكون فيها مسالمة ولا عهد إلا بحسب الضرورة .

لكن الأصح من ذلك أن هذه الآية هي والتي قبلها، أي آية السيف مقيدتان وليستا مطلقتين ، فهما مقيدتان بآية الجزية التي نزلت معهما في سورة واحدة ، قال تعالى : (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى? يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) سورة التوبة آية 29 ، وهذه مسألة سيأتي لها شرح في العنوان القادم.

انظر رابط الحلقة الثانية هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين