نظرات في القاعدة التكفيرية الثانية:  كفر من تحالف مع المشركين أو ناصرهم على إخوانه المؤمنين -2-

هذه بعض البحوث المنتقاة من كتاب فضيلة الشيخ محمد أمين محمد الحامد " الميزان" الذي ناقش فيه بعض نواقض الإيمان في كتابه الذي نشرناه كاملا على موقع رابطة العلماء السوريين. وهذا رابطه: 

http://islamsyria.com/site/show_library/1031%20

وننشر مناقشته لبعض هذه النواقض في حلقات متسلسلة؛ ليتمكن القراء من الاطلاع عليها والاستفادة منها. 

ونحب أن نذكر القراء بأن ما ننشره في هذا الموقع لا يعبر دائما عن موقف علماء الرابطة من كل ما ينشر ، بل هو اجتهاد شخصي ينسب لقائله .

 

هذه القاعدة تعتمد على تطبيق مبدأ الولاء والبراء . حيث لا يتم الإيمان إلا باكتمالهما في قلب المؤمن . ولابد من التفريق في هذا المبدأ بين البراء القلبي الإيماني ، والبراء السلوكي الإسلامي.

وبمعنى آخر فالبراء والولاء على نوعين:

أحدهما قلبي إيماني : وهذا لا يسقط إلا عند وجود خلل اعتقادي ، وأهم مظهر له أن يتمنى غلبة الكافرين على المؤمنين ، حتى لو كان هذا الإنسان مع قومه الكافرين ، فلا يكون مؤمنا إذا تمنى حصول النصر لقومه على المؤمنين.

والآخر سلوكي إسلامي : أي ولاء وبراء ضمن معاملات سلوكية ، وهذا عمل من أعمال الإسلام ، ومعلوم أن التقصير في أي عمل من أعمال الإسلام - لأي سبب كان - لا يخرج صاحبه من الملة مهما كان هذا التقصير عظيماً ، سواء كان في الواجبات كترك الصلاة مثلاً ، أو في المحرمات كقتل النفس المؤمنة ، هذا إذا تجاوزنا تهمة الإرجاء التي تولع بها كثير من الفقهاء الظاهرين ، الذين يدعون أنهم مستمسكون بالنصوص كما تدل عليه ظواهرها بشكل حرفي.

فكرة موجزة عن مذهب الإرجاء:

وتهمة الإرجاء هذه يطلقها هؤلاء الظاهريين جزافاً وبلا وعي منهم لمضمونها ولا على ماذا تدل عليه في أصلها ، لأن أصل الإرجاء هو مذهب يقول : لا يضر مع الإيمان ذنب، وأن جميع المؤمنين يدخلون الجنة مباشرة لا فرق بين الطائع والعاصي ، أي لن يعاقبوا على أي ذنب أو تقصير منهم في أداء الفرائض والواجبات الدينية ، وهذا مذهب ضال منحرف ، لأنه يعطل جميع النصوص التي تخبر بعقاب المذنبين من أصحاب الكبائر الذين ماتوا من غير توبة , كالقتل والظلم والسرقة والزنى وشهادة الزور ..... وكذلك من مقتضى هذا المذهب إلغاء الحساب يوم القيامة على مرتكبي هذه الكبائر.

وهذا يتعارض مع قوله تعالى : (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) سورة الزلزلة آية 17و18 ولذلك قال أهل السنة: إنه حتى مع وجود جميع الشفاعات في الدار الآخرة ، وحتى مع وجود ما هو أعظم من ذلك بكثير ، وهي في الابتداء تلك الرحمة الالهية العظيمة والمغفرة الواسعة للمذنبين ، فإنه لا بد من تنفيذ العقاب على فريق من المذنبين ، من أجل أن يصدق وعد العقاب الذي توعد به القرآن الكريم للفاسقين ، وإلا أصبح هذا الوعيد عبثاً وليس له مصداقية عندما لا يتحقق منه شيء ، وحاشا لله تعالى أن يخلف وعده.

هذا هو مذهب الإرجاء الأصلي ، ومع أن أهل السنة لم يكفروهم ، لأنهم متأولون ، ولأنهم لا يختلفون عنا إلا بنظرتهم الواسعة إلى رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء كما ذكر ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) سورة الأعراف آية 156 فهم اعتمدوا على نصوص المغفرة وأخذوها على إطلاقها دون أن يقيدوها بنصوص العقاب ، مثل عقاب من امتنع عن دفع الزكاة كقوله تعالى (يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ? هَ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) سورة التوبة آية 35 وما ورد في الزكاة ورد مثله في غيرها من أركان الاسلام ، وكذلك في المحرمات كالزنى والقتل والإفساد في الأرض ، ولا داعي للتفصيل في هذه المسألة ، لكن الخلاصة بأن هذا المذهب هو مذهب ضال ومنحرف عن مذهب الحق لأهل السنة والجماعة.

لكن لما جاءت مسألة زيادة الإيمان بالعمل ، عندها افترق أهل السنة إلى فريقين : فريق يرى أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، وفريق يرى أن الإيمان لا يزيد بالعمل إنما يزيد في معانيه أو مقاماته ، وينقص منها كما في معاني الخشية والخشوع والمراقبة والتوكل ، لأن الإيمان أصله التصديق. وهذه حقيقته ، فإذا نقص التصديق أصبح : شكاً. وإذا لم يكن يحتمل النقص لم يكن قابلاً للزيادة .

ومناقشة هذه المسألة ليس في هذا البحث ، لكن المشكلة أن بعضاً من هؤلاء الفقهاء الظاهريين والحرفيين ، قد حلا لهم أن يتهموا الفريق المخالف لرأيهم ، وهم الذين يقولون بأن الإيمان لا يزيد بالعمل ، بأن قولهم هذا هو من الإرجاء ، وأنهم بهذا الرأي أصبحوا من المرجئة ، وهذه سفاهة وشطط لا مبرر لها ولا صحة لها ، فهي تهمة باطلة لا علاقة لها بموضوع الإرجاء على الإطلاق .

لأن الاختلاف هنا ليس على قيمة العمل عند الله تعالى في الدار الآخرة ، ولا على نسف الحساب عليه والميزان فيه ، ولا على أنه هل له علاقة بفساد الإيمان والخروج إلى الكفر ، كما وردت بذلك بعض النصوص عن بعض الذنوب.

إنما الخلاف فقط على زيادة الإيمان ونقصه ، فهذا فريق يثبته بالعمل ، وهذا فريق يثبته بالمعاني. ولا يوجد أي خلاف حول حقيقة العمل ، من حيث كونه سبب للتفاضل في الجنة ، وأنه عند تركه سبب يستحق عليه العقاب ، إلا أن يعفو عنه رب العالمين.

فهذا خلاف بسيط بين علماء أهل السنة ، لم يهاجهم بعضهم بعضاً فيه ، ولم يفسق بعضهم بعضاً إلا عند فريق محدود من المتشددين ، الذين كان دأبهم أن يهاجموا مخالفيهم بلسان سليط ، أما حقيقة هذا الخلاف فإنه يشبه الخلاف بين المذاهب الفقهية في بعض المسائل الفرعية ، ولذلك فهم جميعاً بمذهبيهم مجمعون على أن التقصير في أعمال الإسلام لا يخرج صاحبه من الدين ، وبسبب ذلك فقد تأولوا جميع النصوص التي تصرح بالكفر لمن فعل بعض الموبقات ، بأنها لا تعني الكفر الحقيقي على حسب رأيهم ، إنما تعني الكفر العملي أو هو كفر دون كفر ، أي إنهم لا يكفّرون فاعلها ، وكأنهم يقولون بأنه لا يصح أخذ هذه النصوص على ظاهرها ، أي لا مجال لاتهام من فعل شيئاً منها بالكفر البواح.

وهناك أدلة كثيرة في هذا الموضوع ، تبين أن الذنوب مهما عظمت لا تخرج صاحبها من الملة ، لأن من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة ، وإن زنا وإن سرق ، وهذا يؤكد على أن جميع الذنوب هي تقصير في أعمال الإسلام ، وأنه لا تأثير لها على زعزعة حقائق الإيمان ، وأنها ستكون في الدار الآخرة تحت المشيئة الإلهية ، أي إن شاء عذب وإن شاء عفى قال تعالى (يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ? وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) سورة آل عمران آية 129.

وإليك حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال : بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا وقرأ هذه الآية كلها ، فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه ، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه . رواه البخاري بهذا اللفظ برقم 4110 من كتاب المغازي ج 7 ص 466 من كتاب فتح الباري .

وهذا يعني أن المعصية مهما كان نوعها لا تكفر صاحبها ، لأن الشفاعات في الدار الآخرة سيكون معظمها في أصحاب الكبائر ، ومن المعلوم أنه لا شفاعة لكافر ، ولا يدخل الجنة إلا من كان مؤمناً ، فالإيمان هو السبب الوحيد لدخول الجنة وللحصول على بعض الشفاعات .

محمد أمين محمد الحامد

انظر رابط الحلقة الأولى هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين