ذكرٌ جميلٌ لأيامٍ في القدس والخليل (4)

جلسنا على المائدة مستهنئين لذيذ الطعام وطيب الشراب، ومتبادلين التحيات والترحيبات، وما زلنا في أول يوم من رحلتنا فما مر بنا أحد أو مررنا به في الصالة إلا وانشرح بعضنا لبعض مبسوطة قسمات وجوهنا، غير منقبضين ولا متجهمين، وكأننا تصلنا أواصر الرحم والقربى، نتشارك الأفراح والهموم ونتشاطر التجارب والمشاهدات، ويُخشى على من تجاذب أطراف الحديث متوسعا فيه وخاض فضول الكلام أن يستكثر من الطعام مستهترا فيه ويتعدى الحد في الأكل والشرب، فأرغمنا أنفسنا على أن لا نتناول إلا القدر الذي يبعث فينا قوة ونشاطا، وأمامنا صلاة التراويح، وحري بالأكول الكسول أن يلهو عن صلاة الجماعة وينام عن قيام الليل، فنهضنا عالقة قلوبنا بملذات الطعام ومأسورة بشهواته، وهرعنا إلى غرفتنا وأخذنا نصيبنا من الراحة استعدادًا للصلاة، وتحدثت مع أهلي وبناتي عن مدى اغتباطهن بهذه الزيارة وارتياحهن لها، واستظهرتُهن إذا كانت لديهن همة للتولي إلى المسجد في خفة واهتزاز، فأجبن بفرحهن وسعادتهن بالأمر.

توضأنا في الساعة التاسعة والربع، ونزلنا إلى الدور الأرضي حيث التقينا الشيخ علي عباسي أحد أئمة قبة الصخرة، فاستقبلنا ورحب بنا على سلامة وصولنا، وصحبناه إلى المسجد وهو يحكي لنا زياراته للهند خارجا مع جماعة الدعوة والتبليغ، وتبادلنا ذكرياتنا عن رحلاتنا الدعوية ولاسيما حضور الاجتماعات السنوية في بنغلاديش، ولعلها أكبر تجحفل بشري عالمي تاليا لاجتماع الحج الميمون المبارك، والله يعلم توجع قلبي وعذاب نفسي من أن يُقرن مع الحج غيره، وشتان ما بين الثرى والثريا، وأنى للظالع أن يدرك شأو الضليع.

 وحدثني الشيخ عن كبار أعلام الدعوة والتبليغ وإخلاصهم لله تعالى وتفانيهم في عملهم، واستذكرت كيف كان تألم مؤسس الجماعة ومجدد الدعوة إلى الله على نهج النبوة الشيخ الكبير محمد إلياس الكاندهلوي رحمه الله لما أصاب المسلمين في العالم من ضعف في دينهم ووهن شديد، وهو كما يقول شيخنا أبو الحسن الندوي: "رجل نحيف تشف عيناه عن ذكاء مفرط وهمة عالية، على وجهه مخايل الهم والتفكير والجهد الشديد، ليس بمفوه ولاخطيب، بل يتلعثم في بعض الأحيان، ويضيق صدره ولاينطلق لسانه، ولكنه كله روح ونشاط، وحماس ويقين، لايسأم ولايمل من العمل، ولايعتر يه الفتور ولا الكسل، رأيته في حالة عجيبة من التألم والتوجع، والقلق الدائم، كأنه على حسك السعدان يتململ تململ السليم ويتنفس الصعداء... لما يرى من حوله من الغفلة عن مقصد الحياة وعن غاية هذا السفر العظيم، وافقته في السفر والحضر، فرأيت نواحي من الحياة لم تنكشف لي من قبل، فمن أغرب ما رأيت يقينه الذي استطعت به أن أفهم يقين الصحابة، فكان يؤمن بما جاءت به الرسل إيماناً يختلف عن إيماننا اختلافاً واضحاً كاختلاف الصورة والحقيقة، إيماناً بحقائق الإسلام أشد وأرسخ من إيماننا بالماديات وبتجارب حياتنا، فكان كل شيء صح في الشرائع وثبت من الكتاب والسنة حقيقة لايشك فيها، وكأنه يرى الجنة والنار رأي العين".

وتأملت بركة إخلاصه وتفانيه أن تبلغ دعوته إلى فلسطين بل وإلى الربوع القاصية والأصقاع النائية، وسألني الشيخ عباسي ونحن في طريقنا إلى المسجد عن أعمالي وإنتاجاتي، فلخصتها له في كلمات قصار، وأبدى اهتمامه بكتاب (بستان المحدثين) ورغبته في الحصول على نسخة منه، والكتاب أصله بالفارسية، ألفه العلامة المحدث عبد العزيز الدهلوي نجل كوكب الديار الهندية ولي الله الدهلوي، وموضوعه التعريف بكتب الحديث وأصحابها، نقله كاتب هذه السطور إلى اللغة العربية، وطبع في دار الغرب الإسلامي، بيروت.

ومشينا بين موكب من المصلين وهم متحاشدون إلى المسجد من كل حدب ينسلون ومن كل صوب يوفضون، نطفو في بحارهم ونغرق، ونبرز ونغور، يحدونا جميعا حنيننا إلى ربنا، وشوق قد استقر في نفوسنا استقرارا، والشوق بالزائر الغريب والكلف المعنى أعلق، ووصلنا إلى قبة الصخرة وقد فاتتنا بعض الركعات، فلحقنا بالصفوف خارج المسجد القبلي، وقضينا ما فاتنا من الركعات، وصلينا التراويح في قاعة المسجد خلف عدد من الأئمة يخلف بعضهم بعضا إثر كل ترويحة، يقرؤون القرآن بصوت جميل وترتيل أخاذ بمجامع القلوب، ودعا الإمام في القنوت دعاء طويلاً معيدا فيه سؤاله ربه لتحرير المسجد الأقصى والأراضي المقدسة يكرره تكريرا في إلحاح وتضرع.

وبعد صلاة التراويح تقدمنا إلى فضيلة الشيخ يوسف أبي سنينة إمام المسجد الأقصى وخطيبه وهو بارز من المسجد فسلمنا عليه، ورحب بنا محتفيا بنا بوجه طلق ومحياه الباسم، وعجبنا من تواضعه البالغ وأدبه الجم وأخلاقه الرفيعة العالية.

 

ترجمة الشيخ:

وهو العلامة الشيخ يوسف عبد الوهاب محمود أبو سنينة، ولد في الثامن عشر من شهر أغسطس سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف في بيت المقدس، وتعلم في مدارس القدس الابتدائية والإعدادية والثانوية، ثم التحق بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة سنة سبع وسبعين وتسعمائة وألف، ودرس في كلية الحديث الشريف، وأخذ عن علماء المدينة المنورة وغيرهم، منهم المحدث الشهير الشيخ حماد الأنصاري، والدكتور مصطفى الأعظمي، والعلامة الكبير المحدث الحافظ شيخنا عبد الفتاح أبو غدة، والدكتور أكرم ضياء العمري، والشيخ محمود الميرة، وشيخنا محمود الطحان، والشيخ مقبل بن هادي الوداعي، والشيخ أحمد طه ريان، وشيخنا العلامة محمد المنتصر الكتاني، والشيخ عطية سالم تلميذ الشيخ محمد الأمين الشنقيطي. وأخذ القراءة والتجويد عن الشيخ محمد سالم محيسن، والشيخ عبد الفتاح القاضي، والشيخ عبد الرافع رضوان، والشيخ محمود سيبويه وغيرهم، وممن لقيهم من الأعلام: الشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ سعيد حوى، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ عبد القادر عيسى، والشيخ عبد الكريم الأفغاني، والشيخ العارف محمد القاضي.

تخرج في الجامعة الإسلامية وحصل على درجة العالمية في الحديث الشريف سنة ثمانين وتسعمائة وألف، ورجع إلى بيت المقدس وعيّن مدرسًا وإمامًا في المسجد الأقصى المبارك وبخاصة الصلوات الجهرية، وتم تعيينه مديرًا لدار الحديث الشريف فيه سنة خمس وثمانين وتسعمائة وألف، وتم تعيينه خطيبًا سنة تسعين وتسعمائة وألف، و لا يزال حائزًا على هذا المنصب الجليل حتى كتابة هذا الكلمات، وقد أعطى أكثر من ثلاثة آلاف درس في الحديث والتفسير والفقه والسيرة، وحاليًّا يعطي ثلاثة دروس في الأسبوع: الموعظة قبل صلاة الجمعة، وتفسير القرآن الكريم يوم الأحد، والحديث النبوي الشريف يوم الخميس بعد صلاة المغرب، وقد أخذ عن الشيخ أجيال متتابعة، وهو ممن ألحق الأبناء بالآباء والأحفاد بالأجداد، وعدد تلاميذه من الرجال والنساء كبير جدا، وأكثر أئمة المساجد في القدس من أصحابه المتربين على يديه والمستقين من منهله العذب الصافي.

ومن مؤلفاته: (ترجمة الكمال بن أبي شريف) (ت 906هـ)، يحتوي على تراجم أكثر من مائة عالم من علماء بيت المقدس في القرنين التاسع والعاشر الهجري، و(الخطب المقدسية على المنابر الصلاحية)، وهو أكثر من عشرة مجلدات من خطب الجمعة، ومجلد في تفسير آية (الرجال قوامون على النساء) في أكثر من ثلاثمائة صفحة.

درجنا مع الشيخ في اتجاه موقف السيارات، وتحدث معنا طويلاً عن ظروف المسلمين في العالم، والوضع القاسي الذي يجتازه أهل فلسطين، وسألته عن أساطين بيت المقدس وعلمائه، وعما إذا كان فيه شيوخ مسندون معنيون بالحديث الشريف رواية ودراية، فقال: ليس هنا علم كبير، والدروس هنا في المساجد والحلق حول مواضيع دينية عامة، فيا للأسف كيف تقهقر أمر المسلمين أن بيت المقدس الذي احتل قيادة علمية في الإسلام منذ بدايته صار فاقدا لمركزيته، بل تجد القرى النائية في الهند تفوقه علما ودينا، إنها أحاظٍ قسمت وجدود، وخلال إقامتنا في القدس جرى لنا لقاءات وأحاديث مع الشيخ يوسف، والشيخ ذو كرم وخير، ومعروف وصفاء خليقة، وهو رجل سهل ما تُغيِّر شيمته صروف ليالي الدهر، وحديثه عذب حلو لا يسأم منه، وصحبته لا تمل، وقد بلوت الأخلاء وجربتهم، وأكثر شيء في الأصدقاء السآمة والملال.

وودعنا الشيخ قاصدين مستقرنا في دروب مليئة بالناس قافلين من المسجد أو طالعين من بيوتهم، وقد مضى شطر الليل، والقدس كأنها لا تنام، وفي الطريق تناولنا البوظة وأشربة، واشترينا بعض الأطعمة، ورجعنا إلى الفندق وأخذنا مضاجعنا، وأنا متمتع بسعادتي في هذه الديار، غير آس على ما خلَّفتُ ورائي من عيش الإفرنج إذا كان عقبى ما نلنا ثوابا دائما ورضى المولى، وعقبى ما نالوا زوالا وأفولا، وبتُّ الليل ولي في كل صباحه عزيمة، ومن جعل نور الله دليله فكل ظلام عنده غير مظلم، وأحق بلد بالمقام بلد إذا نزل به العبد غنم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين