العقود المالية في الإسلام

إن من طرق كسب المال في الإسلام ما يعرف بالعقود, كالبيع والإجارة والشركة ونحوها، وقد وضع الله تعالى أسساً عامة لهذه العقود في قوله : ( يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ). المائدة/ 1 .

العقد المالي وإيجابُه وقبولُه:

العقد المالي هو: ارتباط الإيجاب بالقبول في أمر مالي على وجه مشروع, بحيث يرتب آثاره فيما عقد من أجله. 

والإيجاب: ما صدر ابتداء من أحد العاقدين, والقبول: ما صدر ثانياً من الآخر على وجه الرضا لكلام الأول. وهذان ركنان من أركان العقد. 

فإذا قال شخص لآخر: بعتكَ هذا الجهاز بمائة, كان هذا الكلام إيجاباً, وإذا قال الآخر: قبلتُ أو اشتريتُه بما ذكرتَ, كان هذا الكلام قبولاً. ويترتب على ذلك أن يملك البائع الثمن, وأن يملك المشتري الجهاز.

الفرق بين العقد والوعد:

ولاشك أن هناك فرقاً كبيراً بين العقد وبين الوعد, فإذا كان العقد يرتب آثاره الفورية في نقل ملكية الثمن، وملكية السلعة إلى كل من البائع والمشتري, فإن الوعد لا يعدو أن يكون إخباراً عن رغبة مستقبلية لا تترتب عليها آثار حقوقية في نقل الملكية, إضافة إلى أن من حق الواعد الرجوع عن وعده لإرادته المنفردة دون طلب الإذن من الموعود, بخلاف العقد حيث لا يجوز لأحد الطرفين الامتناع عن تنفيذه, والعمل على فسخه إلا بموافقة الطرف الآخر.

أصناف العقود المالية:

تقسم العقود بحسب موضوعاتها إلى خمس زمر أو مجموعات: 

الزمرة الأولى: عقود التمليكات, وتشمل المعاوضات التي تتم فيها مبادلة المال أو المنفعة ببعضها, كعقد البيع، وعقد الإيجار، وعقد الصرف, كما تشمل التبرعات التي يتم فيها تمليك السلع والمنافع بدون عوض، كالهبة، والعارية، والصدقة، والوقف.

وأما الزمرة التالية: فعقود الشركات على اختلاف أنواعها, كالشركة المالية من طرفين المعهودة بين الناس، والمضاربة التي يكون فيها المال من طرف، والعمل من طرف آخر, ومثلُها المزارعة، والمساقات في الأراضي والأشجار.

وأما الزمرة الثالثة : فعقود الاستيثاق, كالكفالة والرهن.

وأما الزمرة الرابعة: فعقود الاستحفاظ , كالوديعة والحراسة.

وأما الزمرة الخامسة: فعقود الاطلاقات، كالوكالة، والإيصاء الذي فيه إطلاق التصرف لإنسان في إدارة أموال الصغير بعد وفاة وليه .

وإن هذه الزمر الخمسة من العقود تُعرف في الفقه الإسلامي بالمعاملات المالية, التي يقابلها في المفهوم الغربي اصطلاح " القانون المدني ".

أركان العقود المالية وشروطها:

هذا, وان الكثير من المسائل التي تتناولها هذه العقود تنظمها قواعد عامة ومفاهيم كبرى مشتركة, تعرف بمقوِّمات العقود، أو أركانها, وأهم هذه الأركان: الصيغة, والعاقدان, والمعقود عليه.

1ـ أما الصيغة: فهي الإيجاب والقبول في العقود التي تحتاج إلى اتفاق إرادتين, كالبيع والإيجار. أما ما لا يتوقف على قبول الطرف الآخر فيكفي فيه الإيجاب فقط, كمن أوصى بعمارة مسجد أو مدرسة أو مستشفى، أو أسقط الدين عن المدين.

والصيغة هذه قد تكون كلاماً متلفَظاً به, أو كتابة مفهومة، أو نحو ذلك مما يدل على الرضا, لقوله تعالى: ( تجارة عن تراض منكم ). سورة النساء/ 29. وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه: " إنما البيع عن تراض " ومثل البيع العقود الأخرى.

2ـ وأما العاقدان: فلهما شروط لابد منها, تعرف بشروط العاقدين, منها توافر الأهلية, التي هي: العقل والبلوغ, حيث لا يصح عقد المجنون، والصغير غير المميِّز، ومن تكلم وهو نائم، أو مغمى عليه، وكذا السكران, وذلك لحديث النبي صلى الله عليه وسلم : " رفع القلم عن ثلاث: عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم " رواه أحمد وأبو داوود.

3ـ وأما الشيء المباع المعقود عليه فمن شروطه: أن يكون موجوداً وقت التعاقد, حيث لا يجوز التعاقد على المعدوم, كالزرع قبل ظهوره, والحمل في بطن أمه, والسلع قبل تصنيعها، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: " لاتبع ما ليس عندك ". رواه الترمذي والنسائي.

ويستثنى من هذا بعض العقود كالسَّلَم، والإجارة، والاستصناع، إذا ضبطت وبُيِّنت أوصافها، ومقاديرها، ومواعيدها...إلخ، وذلك لحاجة الناس إليها, ولتعاملهم بها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم, كمن يتفق مع خياط على ثوب سيصنعه من قماش موجود موصوف, أو اتفق مع مصنع يصنع له آلات أو سلعاً معينة، أو مع مقاول يبني له عمارة بصفات ومواعيد محددة، أو مع مدجنة تورد له أعداداً متفقاً عليها من البيض أو الدجاج المذبوح ...إلخ.

والسر في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده ؛ هو مخافة عدم قدرته على تسليم المتفق عليه، فيكون هذا سبباً في الخصومة والنزاع.

4ـ ومن شروط الشيء المعقود عليه أيضاً: أن يكون معلوماً للطرفين علماً يمنع الخصومة والمنازعة, فلا يصح التعاقد على شيء مجهول, كأن يبيعه أو يؤجره داراً من دوره العشر التي يملكها, أو يبيعه ما في داخل هذا الصندوق المغلق, لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الغرر " كما في صحيح مسلم, والغرر: الجهالة التي تلحق ضرراً بالعاقد وتكون سبباً في النزاع.

5ـ ومن شروط المعقود عليه: أن يكون مالاً متقوَّماً, يعترف الإسلام بمشروعية تداوله بين الناس وتملُّكهم إياه, فلا يجوز مثلا بيع الخمور والخنازير والدماء، ولا بيع ولا تأجير صور الفساد والدعارة، وأشرطتها ومجلاتها, والأصل في هذا قول الله تعالى : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ). المائدة/ 3. وكذا قوله سبحانه وتعالى: ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ). الأعراف/ 157 , وهذه المذكورات ونحوها من الخبائث التي تؤذي الأفراد والمجتمعات وتضرهم في الآداب، والأبدان، والأموال، والعقول، والحرمات، والصِّلات الاجتماعية...إلخ. ومن أجل ذلك حرمها الإسلام, وبتحريمها يبطل التعاقد عليها, وتفقد قيمتها المالية في المجتمع فيصان عن المفاسد والأضرار.

6ـ وأما الشرط الأخير للمعقود عليه, فهو أن يكون مملوكاً للبائع أو المؤجِّر وقت التعاقد, وعلى هذا لو باع الإنسان بضاعة أو سيارة غيره بغير إذنه ولا علمه, فيقال لهذا البيع: بيع الفضولي, وهو مجمَّد وموقوف عند بعض العلماء، ولكنَّ المالك الأصلي إن أجاز هذا البيع ووافق عليه يصير صحيحاً.

هذه صورة مجملة لصورة العقود في الإسلام بمقوماتها وآثارها، وهي تقوم في مجملها على قواعد كلية ومقاصد شرعية راعاها الإسلام من مثل قوله تعالى: (تجارة عن تراض منكم ). وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ". وقوله في حديث آخر رواه الدار قطني والحاكم: " المسلمون عند شروطهم، إلا شرطاً حرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً ". 

ومن القواعد الفقهية المقررة ذات الصلة قولهم: " العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني, لا بالألفاظ والمباني ".

وإذا كانت هذه العقود وسيلة من وسائل التملك والكسب المشروع الذي يبتغيه المسلم في حياته, فهي تمنحه التمتع بالحلال الطيب الذي انتقل إليه بمرضاة الخالق العظيم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين