الرسول في طريق المدينة - 3
 

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في طريق المدينة

الشيخ: محمد البنا

- 3 -

دخل الإسلام يثرب وعزَّ جانبه فيها، وخالطت بشاشته قلوب أهلها، وعرف الناس أنَّ هذا الدين الجديد ارتفع بهم عن الوثنيَّة التي تنحدر بهم إلى الذلِّ والهوان، وطهَّر قلوبهم من الضلال والبهتان، فتحرق القوم هناك إلى مقدم هذا الرسول الذي ساقهم إلى هدايتهم وكشف عنهم غوايتهم فكانوا يخرجون كل يوم بعد صلاة الصبح إلى ظَاهر المدينة يتلمَّسونه حتى تغلبهم الشمس على الظلال في تلك الأيام الحارَّة من قلب الصيف ويتحمَّلون في سبيل ذلك هذا الحر الذي يُلهب الأجسام وإنَّ مسلمي يثرب لينتظرون يوماً كعادتهم إذ صاح بهم يهودي كان قد رأى ما يصنعن: يا بني قيلة هذا جدكم قد أقبل، فتسابق مسلمو يثرب كل واحد منهم يريد أن يراه وأن يقترب منه وأن يملأ عينيه من الرسول الذي امتلأت نفسه قبل ذلك بمحبته والإيمان به وبرسالته، والذي يذكره في صلاته كلما أدى الصلاة، وخرج بنو قيلة وهم الأنصار بسلاحهم فنقلوه وآووه، وواسوه، وآوَوا أصحابه وواسوهم، فذكرهم الله في كتابه الكريم بالثناء الحسن إذ يقول تبارك وتعالى:[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حقِّهم: آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم كلما مرَّ على دار من دور الأنصار يدعونه إلى المقام عندهم يقولون: يا رسولَ الله هلمَّ إلينا إلى القوة والمنعة، فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو راكب ناقته: "خلُّوا سبيلَ الناقة فإنها مأمورة"، ومعنى ذلك أنَّ هذه الرحلة المباركة كانت مقدرة بأمر الله  وكان كل ما فيها حتى الناقة مرسوماً بإذن الله ليس لمخلوق فيها إرادة ولا لامرئ خيرة، فالله مقدر كل شيء ومدبره، قد دبر له أين يقيم وأين يكون منزله ومن أجل ذلك أرخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زمام الناقة لتسير كما أمرت، فأخذت تنظر يميناً وشمالاً حتى إذا أتت دار مالك بن النجار بركت حيث مسجده الشريف، ثم سارت وهو صلى الله عليه وآله وسلم عليها ومَشَت حتى بركت على باب أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه من بني مالك بن النجار ثم قامت ومشت والتفتت خلفها، ثم رجعت إلى منزلها أول مرة بمكان باب المسجد وبركت فيه ثم تجلجلت - تحركت وألقت عنقها بالأرض وصوتت من غير أن تفتح فاها - فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: هذا المنزل إن شاء الله تعالى، اللهم أنزلنا منزلاً مباركاً، وكان المسلمون من حول الناقة في حفل حافل يخلون لها طريقها وجميع أهل يثرب ينظرون إلى هذه الحياة الجديدة التي دبَّت إلى مدينتهم، وإلى هذا القادم العظيم الذي اجتمع عليه من الأوس والخزرج من كانوا من قبل أعداء متقاتلين، ولا يجول بخاطر أحدهم في هذه البرهة التي اعتدل فيها سير التاريخ إلى طريق مستقيم ما أعدَّ القدر لمدينتهم من جلال وعَظَمة يبقيان على الزمن ما بقي الزمن، ولك أن تتصوَّر فرح أهل يثرب بهذا القادم الكريم حين ترى أنَّ كتاب السير يروون أنَّ بعض جواري من بني النجار خرجن يضرب بالدفوف ويقلن:
نحن جوار من بني النجار    يا حبذا محمد من جار
فيبادلهن رسول الله بما فطر عليه حباً بحب وسروراً بسرور يسألهن في لطف وإيناس: أتحببنني؟، فيقلن: نعم، فيقول: الله يعلم أن قلبي يحبكن.
ثم تقف سيدة على روبة بين صاحبات لها تسأل عن الرجل الذي يتحدث عنه المسلمون في إكبار وإعظام وتقول: أي الرجلين محمد؟ فتجيبها صاحبة من صواحبها: كيف لا تعرفينه أو تحسبينه هذا الأبيض النحيف الخفيف العارضين الناتئ الجبهة كلا. فهذا أبو بكر. فتقول السائلة في إعجاب هو الآخر إذاً ما أبهى طلعته وما أعظم وقاره.
واحتمل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه رحله بإذنه صلى الله عليه وآله وسلم وأدخله بيته ومعه زيد بن حَارثة وكانت دار بني النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها، وهم أخوال عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولما أراده قوم أن ينزل عليهم أجابهم ذلك الجواب العادل الفاضل: المرء مع رحله.
وأقام عندَ أبي أيوب حتى بَنَى مسجده ومساكنه وكان بناؤه من آخر ربيع الأول إلى صفر من السنة القابلة واشترك معه صحابته في بناء المسجد وكان صلى ينقل اللَّبِن معهم في ردائه وعلى صدره الشريف وهو ينشد:
هذا الحِمَالُ لا حمالَ خيبر     هذا أبرُّ ربنا وأطهر
وفي الحق أنه أراد أن يوجه الأرواح إلى خالقها وأن يهون لهم ذلك المتاع الزائل الذي يحملونه من خيبر ليكون لهم غذاء يقضون به مَطَالب أجسامهم وما ذلك كله بجانب المساجد وبنائها إلا هباء؛ فإن تلك بيوت تهذب فيها النفوس وتهتدي القلوب ويذكر بين جدرانها الخالق ويتفكر الناس في آثاره حين يخلو أحدهم في مصلاه، وهو ينظر إلى خلق السموات والأرض ويقول: ربنا ما خلقت هذا باطلاً، ذلك شيء أغلى من الحياة وأغلى من كل شيء في الحياة.
وما أكمل المرء إذا تعهَّد نفسه فرباها وعمد إلى قلبه فصفَّاه، فهو بالنفس لا بالجسم إنسان. إنَّ لله رجالاً ذاقوا حلاوة الإيمان وتسامت أرواحهم فطرحوا وراء ظهورهم تلك المباهج الدنيويَّة وانصرفوا إلى الملأ الأعلى يتصلون به ويعلمون الناس كيف يتصلون.
روي أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه كان رجلاً متنظفاً فكان إذا حمل اللبن للمسجد يجافي به عن ثوبه لئلا يصيبه التراب، فإن أصابه شيء نفضه فنظر إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه، وعلم أن الإنسان يجب أن يكون أعمق من هذه المظاهر المتأخرة وأن يعلم نفسه أن يفهم الكون على غير هذا وأن الجد في العمل الصالح وأخذ يسمعه هذه الكلمات الطيبة:
لا يستوي من يعمر المساجدا       يدأب فيها قائماً وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائداً
نعم لا يستوي من يخلد إلى السكينة لا يعنيه من الدنيا إلا نفسه ومن وضع يده في أيدي إخوانه يتعاون معهم على الحسنات ويبني معهم أصول الفضائل.
وأتمَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مَسجده وجعله مَثَابة للمسلمين وناديا يجتمعون فيه، يتعلَّمون ويتلقون أصولَ دينهم ويسمعون من هدي الوحي ما يسمعون.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة وكلما حدث أمر يريد أن يكلم الناس فيه وكان يسند ظهره إلى جذع نخلة، فقال له الناس يا رسول الله قد كثر المسلمون وإنَّهم يحبون أن يروك فلو اتخذت منبراً لقدر قيامك تقوم عليه فيراك الناس. قال: نعم. من يجعل لنا هذا المنبر. فقام إليه رجل فقال أنا. قال تجعله؟ قال: نعم، ولم يقل إن شاء الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرضى ألا يرجع إلى الله في أمره كله وأن يستعين به في عمله كله فقال للرجل: ما اسمك. قال: فلان. قال: اقعد. فقعد ثم عاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال من يجعل لنا هذا المنبر فقام إليه رجل وقال أنا. قال تجعله. قال نعم ولم يقل إن شاء الله، قال: ما اسمك قال: فلان. قال: اقعد فقعد. لأن مثل هذا الرجل الذي لم يقرن عزمه بذكر الله مغرور بقوته مخدوع عن حول الله وعزَّته، ثم عاد الرسول فقال: من يجعل لنا هذا المنبر؟ فقام إليه رجل فقال: أنا، فقال: تجعله. قال: نعم إن شاء الله. فقال: ما اسمك. قال: باقوم، وكان قبطياً قال اجعله فجعله.
وفي هذا إيذان بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسوي بين الناس جميعاً ما دَاموا على وحدانية الله، والناس كلهم عنده كفاء؛ فإنَّهم لآدم وعسى أن يهديهم الله جميعاً إلى كَلمة الحقِّ الذي جاءَ بها الإسلام، وكم للإسلام مثل ذلك من آيات لو فطن إليها الناس وخلصوا أنفسهم من تقليد الآباء لاستوى في احترام هذا الدين والخضوع له متبعه ورافضه ومُعتنقه وجاحده.
ولما أتمَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مَسجده ومساكنه وانتقل من بيت أبي أيوب إليها جعل يُفكِّر في هذه الحياة الجديدة التي استفتحها ونقلت دعوتها خطوة جديدة واسعة، وهنا يبدأ الطور السياسي الذي أيده فيه الإلهام الإلهي، فأبدى فيه من الحنكة والمقدرة ما يجعل الإنسان يقف حائراً مملوء النفس إجلالاً وإكباراً.
فقد جعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أكبر همه أن يصل بيثرب موطنه الجديد إلى وحدة سياسية ونظامية لم تعهد من قبل، وانصرف همه إلى تنظيم صفوف المسلمين وتوكيد وحدتهم خشية أن تثور بينهم العداوة التي فرقتهم بدداً وأفنت منهم عدداً، فآخى بين المسلمين وعقد هذا الإخاء عقداً جعل له حكم  إخاء الدم والنسب، وبهذه المؤاخاة ازدادت وحدة المسلمين توكيداً وساد المدينة هدوء لم يعرفه الناس من قبل، وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب المدينة ويدعو لها، ويقول: اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإنه دعا لمكة، وأنا أدعو للمدينة بمثل ما دعاك لمكة.
ثم تنبأ لها بأنها ستكون معقل الإيمان وموئله ويقول: الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ـ وأي عجب في ذلك بعد أن اختارها الله للنبي سكناً ومَقَاماً وآثرها لتكون لدعوة الله مكاناً، لقد أشرقت بنوره يوم قدم إليها وأضاءت أشعة هذا النُّور قلوب المسلمين، فصاغوه على ألسنتهم نشيداً عذباً ونغماً حلواً وقالوا:
طلع البدر علينا      من ثنيات الوداع
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أضاءَ منها كلُّ شيء.
وصدق أنس، فإنَّ نور النبوة انتقل إلى المدينة ثم سطع على العالم أجمع وسيبقى باهراً يهدي الناس جميعاً – بإذن الله - .
وتعالى الله ما أعظم فضله على العالمين كانت أول كلماته صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن دخل المدينة: "أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".
وفي المسجد الذي صلى فيه أول جمعة لم يذكر في خطبته شيئاً من عناد الكفار وإصرارهم على إيذائه بل قصر خطبته على حضِّ المسلمين على التقوى وتذكيرهم بالله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولم يعرض لأحد ممن خذلوه وجحدوه بسوء، وكان ذلك تأديب الله لرسوله فقد بعثه يبسط على الناس الرحمة وينشر في الأرض السلام، وصدق الله العظيم إذ يقول: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة لواء الإسلام العدد السابع من السنة الثالثة عشرة ربيع الأول1379هـ=سبتمبر1959م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين