من أوجه الإعجاز البلاغي في القرآن

القرآن الكريم هو الرسالة الإلهية الخاتمة، وهو المعجزة الخالدة على مر الأيام والعصور، وهو كتاب معجز ليس في بلاغته فحسب كما يتبادر إلى الذهن عند ذكره وما فيه من إعجاز، لكن بما أنه رسالة مكتوبة ومقروءة فقد كانت بلاغته أول ما ظهر من إعجازه ، كما أن اهتمام أهل اللغة *كان منصبا على* فصاحته وبلاغته *بدليل* كثرة ما كتب عنه في هذا؛ فقد أصبحت بلاغته وفصاحته من أبرز *أنواع*الإعجاز فيه !

وكثيراً ما نجد أهل اللغة يوردون هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما لإبراز بلاغة القرآن وإعجازه، فقد ورد عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : "أنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ! إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ لِيُعْطُوكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ(1) لِمَا قِبَلَهُ ، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ قَالَ : وَمَاذَا أَقُولُ؟ فوالله مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ. وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، ووالله إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطُلَاوَةً وَإِنَّه لمُثمِر أعْلاه، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَا، وَأَنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ" رواه البيهقي في دلالة النبوة .

وقبل أن نتكلم عن بلاغة القرآن الكريم، وعن إعجازه الذي بهر العقول، وأدهش الألباب، وسلّم له أساطين البلاغة، وسجد له الفصحاءُ، يجدر بنا أن نذكر تعريف البلاغة، ليتبين المراد، ويعلم المقصودُ .

البَلاغَةُ لُغةً: هي الوصول إلى الشيء، والبلوغ له، قال تعالى: "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ"، أي وصل. ويقال: بلغ هدفَه: أي وصل إليه. ومبلغ الشيء: منتهاه.

والبَلاغَةُ اصطلاحاً : هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال.

والغايةُ منَ البلاغةِ تأدية المعنى بوضوحٍ باستخدام عبارات فصيحة، لها أثر عظيم، وسحرٌ جميل، مع ملاءمة الكلام للمقام الذي يقال فيه، والأشخاص المخاطبين. 

ويورد أهل اللغة من عناصرُ البلاغةِ :

• الألفاظ القوية .

• المعاني الساحرة .

• الأساليب المتناسبة مع مواطن الكلام، وموضوعاته، وأحوال السامعين، والنزعات النفسيّة التي تتملكهم، وتسيطر عليهم.

وما دامت البلاغة هي *مطابقة الكلام* لمقتضى الحال كما يرى أهل اللغة، فإننا نورد هنا شاهدين من القرآن الكريم تظهر فيهما هذه الصفة بصورة جلية معجزة :

الشاهد الأول : قوله تعالى : (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى? يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) سورة التوبة 43 . ونلاحظ هنا أن العفو والصفح قد سبق العتاب ، وذلك لأن المسألة هنا مجرد تصرف ظرفي من النبي صلى الله عنه. ولاحظوا هنا رقة الألفاظ حتى لكأنها كلمات تحبب وملاطفة للنبي لا كلمات عتاب !

الشاهد الثاني : نجده في قوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) سورة الحاقة 44 – 47 . ففي هذه الآيات الكريمات نجد نبرة مختلفة تماماً عما رأينا في الشاهد السابق، فهنا نجد نبرة إنذار وتهديد ووعيد، ونجد ألفاظاً شديدة حادة حتى لكأنها تزمجر ، بل كأن الأحرف على وشك أن تنفجر، ذلك أن المسألة هنا تتعلق بصدقية القرآن، وهي – إن صح التعبير – مسألة استراتيجية في القرآن الكريم ، مما اقتضى هذا الأسلوب الحاد في التعبير. 

وهكذا نرى في هذين الشاهدين بلاغة القرآن في أنصع صورها، بتعبيره عن مقتضى الحال أبلغ بيان، وهذه هي البلاغة في حقيقتها . وفي القرآن الكريم شواهد لا تحصى؛ تشهد ببلاغة هذا الكتاب العظيم ! وتقطع بفرادة سبكه وفصاحته !

---------

(1) لعل الأصوب في ضبطها: لِتَعَرَّضَ. بمعنى: لتتعرض .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين