تأملات حول جدار الخزي والعار

د. ياسر المسدي

منذ أيام نقلت إلينا وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة خبراً مفاده بأن مصر جادة في بناء جدار فولاذي على طول حدودها مع قطاع غزة المحاصر منذ أكثر من ثلاث سنوات ، والقصد من بناء هذا الجدار سدُّ جميع المنافذ على أهل غزة التي تهرَّب بواسطتها البضائع والسلع وما يحتاجه الشعب الغزاوي من أبسط مقومات الحياة ، فلم يكتف المحاصرون من العرب والإسرائيلين من سَدِّ المعابر الظاهرة فلجؤوا إلى سدِّ الأنفاق التي هي الشريان الوحيد الباقي رغم المخاطر التي يتعرض لها العاملون فيها.
وكان أول مَنْ سرَّب هذا الخبر الفاجع الأليم الذي يهتز لسماعه كلُّ مَن في قلبه ذرة من إنسانية ورحمة ،الصحافة الإسرائيلية ، ثم تتابعت كافة وكالات الأنباء تؤكده، بل أخذت الفئة المنفذة والتي يبرأ منها كلُّ حر ـ تدافع عن هذا العمل المشين مؤكدة أن هذا من باب الحفاظ على سيادة الوطن وأمنه ، ومما زاد الطين بلّة ، والأمر شناعة أن قامت فئة من يطلق عليهم (علماء الأزهر) بإصدار فتوى تبارك هذا العمل وتدافع عنه وتدّعي أن هذا العمل حلال ومشروع ، ولا أحب أن أقف كثيراً عند هذه الفتوى لأننا تعودنا على مدار التاريخ أن يوجد أناس في كلِّ عصر لديهم فتاوى جاهزة ومفصلة على قدِّ المقاس المطلوب ، فمن أفتى لكامب ديفيد وأفتى لغيرها ـ والحوادث كثيرة ـ لا يعجزه أن يفتي بجواز إقامة جدار الخزي والعار ليضيف إلى سجله وصمة عار جديدة.
وقبل الحديث عن مخاطر هذا العمل وحرمته شرعاً وقانوناً لابد من ذكر ماهية هذا الجدار؟ وما الهدف من بنائه ؟ ومن المستفيد من إقامته ؟ حتى تتجلى لنا الأمور بشكل أفضل ، فقد كشفت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا حسب ما أوردته جزيرة نت : أن هذا الجدار مكون من صفائح فولاذية طول الواحدة 18 متراً وسمكها 50 سم ، ومزود بمجسات تنبيه لمحاولات الاختراق ، وهو مصنع في أمريكا ، وطول هذا الجدار 10 كلم ، يبنى على طول محور صلاح الدين بقطاع غزة المحاذي للحدود المصرية بإشراف أمريكي فرنسي إسرائيلي ، وسيغرس الجدار على عمق 20ـ30م.
وأشارت الجزيرة نت في 24/12/2009 أن الجدار مدعوم بأنبوب ضخم لضخ المياه يهدف لجعل التربة رخوة للقضاء على إمكانية حفر الأنفاق ، ويتفرع من هذا الأنبوب عدد كبير من الأنابيب بقطر ست بوصات مثقوبة من كل الجهات وبعمق 30 متراً ، وقد تم إنجاز 5.4 كلم من أصل الجدار .
هذا بالإضافة إلى أن هناك تحذيرات من كارثة بيئية إذا دخلت هذه المياه إلى بئر المياه الحلوة الوحيد الذي يشرب منه أهالي القطاع.
وبموازاة ذلك يتم حالياً إدخال أسلاك كهربائية ضخمة (كابلات) مزودة بمجسات داخل الأنابيب قبل ضخ المياه من أجل الكشف عن أماكن وجود الأنفاق.
ويقول الخبراء الاقتصاديون بأن إقامة هذا الجدار يعني دق المسمار الأخير في نعش اقتصاد قطاع غزة الذي دُمِّر ما يقارب من 80% من نشاطاته خلال الحصار الذي زاد على ثلاث سنوات.
وتفيد المعلومات أن بناء هذا الجدار ستتبعه مرحلتان أخريتان لسد كلِّ المنافذ إلى غزة ، فالمرحلة الثانية : هي إحكام القبضة على البحر من خلال نشر قوات بحرية مصرية لمنع تهريب البضائع ، ويقول تقرير المنظمة لحقوق الإنسان : إن الحكومة الأمريكية خصصت مبلغ خمسين مليون دولار لشراء معدات متطورة لمراقبة حدود غزة ـ مصر ، وتقوم فرنسا بإطلاق قمر صناعي تجسسي إحدى مهماته مراقبة القطاع .
والمرحلة الثالثة : مدُّ سلك شائك يمتد من مدينة العريش المصرية حتى البحر لمنع دخول البضائع المتوجهة إلى غزة بعيداً عن الحدود.
وأمام هذا الحدث الفاجع الأليم الذي يتقطع نياط قلب كلِّ حرٍّ في العالم ، فلابد لنا - معشر المسلمين - أن نُبرء ذمتنا بقول كلمة الحق أولاً، ثم ببذل كلِّ ما نستطيع من تقديم العون والمساعدة لإخواننا في غزة، وخاصة أننا ـ بكل خجل وأسف علينا ـ نرى تجمع الأحرار من نصارى ويهود وملل أخرى أتوا من أنحاء أوروبا ونظموا حملة لإغاثة غزة المنكوبة سمّوها: حملة (شريان الحياة) التي نظمها النائب البريطاني الحر الأبي جورج جالاوي وقد ضمت أكر من 400 ناشط معهم 250 سيارة محملة بالمساعدات ثم جاءت حملة (الحرية لغزة) وضمت 1400 ناشط من 43 دولة رفضت السلطات المصرية ـ يا للخزي والعار ، واخجلتاه ـ السماح لهم بالتوجه إلى رفح وتقول الناشطة الأمريكية آن رايت في مؤتمر صحفي: إنهم جمعوا عشرات الآلاف من الدولارات لشراء ملابس شتوية وأدوات مدرسية وأجهزة كمبيوتر لمدارس غزة ، وأنهم دعاة سلام توقعوا أن ترحب بهم مصر ، ولكن بكل أسف وضعت أمامهم كلَّ العراقيل للحيلولة دون وصولهم إلى غزة.
يقول الكاتب الصحفي الحر النبيل الأستاذ فهمي هويدي بعد أن تحدث عن هاتين العمليتين تحت عنوان : هل هذه مصر حقاً : المشهد مقلوب على نحو مذهل، فمن كان يتصور أن يأتي يوم يتوسل فيه الأوروبيون والأمريكيون إلى القيادة المصرية أن تسمح لهم بمد يد العون إلى غزة، لكنها ــ صدّق أو لا تصدق ــ تتأبى على ذلك وتتمنع!.. ألهذا الحد ذهبنا في مجاملة الأمريكيين والإسرائيليين؟
يذكرنا هذا التصرف من جورج جلوي ومن معه بحلف الفضول الذي أقامه بعض الشرفاء في الجاهلية وتعاهدوا فيه على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على مَنْ ظلمه حتى تُرَدَّ عليه مظلمته ، وقال عنه صلى الله عليه وسلم : لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى فيه بالإسلام لأجبت.
ثم بعد ذلك نقول للمنافحين عن إقامة هذا الجدار الظالم:
لمصلحة من إقامة هذا الجدار؟ هل لمصلحة الشعب المصري؟ وكلُّ حرٍّ فيه يرفض بل يدعو على كلِّ مَن ساهم بإقامته؟!
أم لمصلحة الشعب الفلسطيني الذي سيمنع بعد بناء الجدار من وصول أبسط الاحتياجات الأساسية له؟!!
أم لمصلحة أمريكا دولة الاستكبار في الأرض التي تخطب ودَّ إسرائيل وتبذل كل ما تستطيع للحفاظ على أمنها وسيادتها ولو مات الشعب الفلسطيني كله.؟!!
أم لمصلحة إسرائيل التي رأت أن هذه الفئة المؤمنة في غزة لم ترضخ لكافة الضغوط ، ولم تزعزها الحرب المدمرة، بل عادت بعدها ـ بحمد الله ـ أشد صلابة ، وأقوى شكيمة!! الجواب لا يحتاج إلى ذكاء وسرعة بديهة .
ثم نقول لأصحاب الفتوى المشؤومة:
هل الحفاظ على سيادة البلد يعني أن يقتل شعب جار مسلم بأكمله؟!!
ورحم الله من قال :
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر     وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر
هل الحفاظ على السيادة يعني حماية أمن إسرائيل وقتل أبناء جلدتنا وعروبتنا؟!
هذا بالإضافة إلى أن الآلاف من أهل مصر وغزة سيفقدون أعمالهم التي يعيشون منها رغم المخاطر التي تهددهم.
إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكدَّ أن من يمنع الطعام عن هرة سيعذبه الله بالنار فقال :« عُذبت امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» فما بال من  يمنع الطعام عن شعب مسلم بأكمله !!
إن غزة جارة لمصر ، أليس للجار حق على جاره ؟!!أفتونا يا سادة  يا ملح البلد ، ما يصلح الملح إذا الملح فسد؟!
ألم يقلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما آمن بي من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم به».
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره..».
ألم يقل الفقهاء من وأهل القانون: إذا لم يكن إلا طريق واحد ومنفذ واحد إلى دارك ـ أيها المفتي ـ من حقك شرعاً وقانوناً أن تشق طريقاً تصلك بدار إلى دارك.
أفتونا يا سادة متى كان سدُّ الطريق على من يريد إغاثة الملهوفين حلالا؟!
لقد كان الأجدر بكم ـ يا سادة؟! أن تتحرك فيكم نخوة المعتصم الذي لبى نداء  امرأة استغاثت به من أقاصي الدنيا!!
ما حكم من منع الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى  في غزة الصابرة من علبة دواء فماتوا بسبب ذلك؟ أومنعهم من إجراء عملية جراحية لم توجد الأدوات اللازمة لإجرائها ؟أو حال إقفال المعبر دون خروجهم إلى الدولة المجاورة؟!
إذا عجزتم أيها السادة ـ عن إنقاذ المنكوبين ومساعدتهم فلا تكونوا عوناً لإخوان القردة وعبدة الطاغوت!! إذا عجزتم عن كلمة طيبة فلا أقل من أن تكفوا آذاكم عن الناس كما قال صلى الله عليه وسلم :كُفَّ أذاك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك.
إذا عجزتم عن كلِّ هذا فدعوا الأحرار والمنصفين من اليهود والنصارى أن يصلوا إلى المنكوبين ليسعفوهم ؟ فأين فتاواكم في هذا المقام يا سادة.
لا ضير إنها المحن التي يميز الله بها الخبيث من الطيب ، فأما الزبد فيذهب جفاء ، ويرمى في مزبلة التاريخ ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ،
لله درّك أيها الشيخ الكبير في فقهه وعلمه ، العالي في همّته ، يا منْ أمضيت حياتك جهاداً وتضحية وصدعاً بالحق ونصرة له . لله درك أيها الشيخ القرضاوي على فتواك المباركة في تحريم بناء الجدار، أمتعنا الله وأمتع الأمة الإسلامية بك ، ودمت عوناً ونصيراً للحق وأهله في زمن قلَّ فيه العلماء العاملون الذين يصدعون بكلمة الحق.
وأنتم يا أهل غزة الصابرة الصامدة المجاهدة ، صبراً فإن فرج الله آت.
فكم من محنة مرَّت بكم كنا نرى بنظرنا القاصر أنها القاضية وكنتم ترونها بروحكم الوثابة ومعنوياتكم العالية وثقتكم المطلقة بالله تعالى بأنها محنة عابرة ، وما تلبث أن تنكشف ، فهذه ليست أول محنة تتعرضون لها ولا آخر محنة فأنتم الذين علمتمونا أن الفرج يأتي من قلب الضيق وأن النصر مع الصبر ، وأنه لن يغلب عسر يسرين .
فلكم برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة حيث حوصر وأصحابه ومن كان معه من أهله في الشعب ثلاث سنوات فما لانت له قناة حتى جاء الفرج من عند الله تعالى .
وكذلك تعرض صلى الله عليه وسلم لمحنة هي أشبه بمحنتكم اليوم في غزوة الخندق عندما حوصر المسلمون من كلِّ صوب كما يحاول أعداؤكم أن يفعلوا بكم اليوم ، قال تعالى :إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً..
وما المكائد التي تتعرضون لها إلا لأن عدوكم شعر بأن فيكم بإذن الله الفئة المؤمنة التي قال عنها صلى الله عليه وسلم : «لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله».
وشعروا وأنتم تحتفلون بتخريج عشرة آلاف حافظ وحافظة للقرآن الكريم ، حتى أصبح عندكم عدد الحفاظ يربو على خمس وعشرين ألف حافظ وحافظة للقرآن الكريم ـ بأن جيل القرآن قادم ، ومن حفظ القرآن وعاش في رحابه لن يخذله الله تعالى .
فصبراً يا أهل غزة ويا كلّ من ناصركم ، ويتعاطف معكم فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
وكأني أرى أن الحديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم يتمثل فيكم اليوم وهو قول الله تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء....
وصلى الله على سيدنا محمد إمام المجاهدين وقائد الغر الميامين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين