الرجاء في الله تعالى -2-

 

الرجاء في الله تعالى، وحسن الظن به، إنما يقبلان إذا أقترنا بالعمل الواجب، وصحبهما الإسراع في حق الله تعالى، والسهر على مرضاته.

أما مع البطالة والاسترخاء فلا مكان لرجاء ولا موضع لحسن الظن.

وتدبر قوله تعالى يصف من ترشحهم أعمالهم لرضاه: [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {البقرة:218} .

إيمان وهجرة وجهاد، تلك هي التي يرجو أصحابها فضل الله تعالى.

أما الريبة والقعود والراحة فلا تبلغ أملاً، ولا تنتج إلا شراً.

وتدبر قوله تعالى يحصي أنواعاً أخرى من البر، هي التي تؤهل لحسن القبول : [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ] {فاطر:29-30}.

تلاوة القرآن ـ يعنى إحياء تعاليمه.

وإعزاز شرائعه ـ والنفقة التي تسد ثغرات المجتمع ما علن منها وما خفى، والإقبال على الصلوات الجامعة إقبالا يعلى ذكر الله تعالى في الحياة، ويجعل الهتاف باسمه وحده شارة الأمة، تلك هي أسباب الرجاء الحق، وتأميل النصر، والتمكين، والنعماء.

وللناس ـ بطبيعتهم البشرية ـ أخطاء تبدر منهم ـ ويسيئون بها إلى أنفسهم وغيرهم، وربما جرت غضب الله عليهم، إلا أنهم إذا أحسوا سوءها، وضرعوا إلى الله تعالى أن يفك عنهم إصرهما، كان للرجاء في غفران الله تعالى موضع.

إن هذا الرجاء الحار لا يجوز أن يفارق المؤمن في أي لحظة من حياته، سواء كان قوى الساعد يضرب في الأرض ببأس، أو وهو يولى ظهره للحياة، ويضع قدمه على عتبة الآخرة قادماً إلى الله تعالى.

عن أنس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي.

فقال: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف) .

وعن حيان أبى النضر قال: خرجت عائداً ليزيد بن الأسود، فلقيت وائلة بن الأسقع وهو يريد عيادته، فدخلنا عليه، فلما رأى وائلة بسط يده وجعل يشير إليه، فأقبل وائلة حتى جلس، فأخذ يزيد بكفى وائلة فجعلها على وجهه.

فقال له وائلة: كيف ظنك بالله؟ قال : ظني بالله ـ والله حسن.

قال: فأبشر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله جل وعلا: أنا عند ظن عبدي بي ، إن ظن بي خيراً فله ، وإن ظن بي شراً فله ) وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أمر الله عز وجل بعبد إلى النار، فلما وقف على شفتها التفت!

فقال: أما والله يا رب إن كان ظني بك لحسنا.

فقال الله عز وجل: ردوه، أنا عند حسن ظن عبدي بي).

وهذا الحديث ضعيف السند، ومعناه يقبل في حدود الدائرة التي رسمناها من صحيح الكتاب والسنة، وأقصى ما يشير إليه التنويه بقيمة حسن الظن إن الشخص الذي يحسن بك الظن يعرفك معرفة لا بأس بها، وإن كانت المعرفة فناً أوضح في ناحية الرحمة والتجاوز.

وهو قد يخطى في حقك لاختلال المقاييس التي يزن بها الأمور، لكنه ـ مع هذا الخطأ لا يوصف بأنه لك عدو، إنه صديق، أو تابع، لم يحسن التصرف فقط.

وربما انضم إلى هذه الخلة ما يعرض صاحبها لمؤاخذات قاسية.

وحديث الرجل الذي التفت إلى الله ـ وهو على شفا الهاوية ـ وفى فؤاده رجاء لم يغرب شعاعه، جعله إلى الرمق الأخير يتلفت آملاً الغوث، غير مصدق أن الله يسلمه إلى هذا المصير.

هذا الحديث ـ إن صح ـ لا يهون من قيمة العمل.

إنه يصور حالة امرئ مؤمن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وكان يجوز أن يقذف في النار لتحرق بقايا السوء في نفسه، كما سيقع ذلك لكثير من المؤمنين الذين بيَّنت السنن الصحاح عقبى تخليطهم، وتفريطهم، غير أن الله جلَّت رحمته عفا عنه.

وكأنَّ كفة الخير في عمله كان ينقصها القليل لتميل جهة اليمين، فكان حسن ظنه بالله تعالى ـ وحسن الظن إيمان ـ المرجح الذي نجا به.

أما قلة الاكتراث بالواجب، وسرعة التهاوي على المحرَّم فلا يمكن أن يكونا في نفس تحسن بالله تعالى الظن، بل هما في نفس صدَّق عليها إبليس ظنه.

ومن التلاعب بالألفاظ أن ترى أمما جاهلة بالله تعالى، تمرق في حدوده، وتهدر أحكامه، وتؤمل مع ذلك في نعيمه ورضوانه بدعوى أنها تحسن الظن بالله تعالى.

ومن أدعياء التدين من يشغب على قواعد الدين، ومن يجرئ العامة والخاصة على الإفلات من ربقته باسم الأمل في الرحمة، والتعويل على حسن الظن.

وذلك كله ضرب من الفوضى الفكرية والخلقية لا يجوز السكوت عليه، وقد حاربه الأئمة من قديم، وشددوا النكير على أصحابه، قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: قال يحيى بن معاذ: من أعظم الاغترار عندي التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله عز وجل مع الإفراط: 

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها =إن السفينة لا تجرى على اليبس 

قال: وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض، والإيمان كالبذر فيه.

والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها.

والقلب المستهتر بالدنيا، المستغرق بها كالأرض السبخة التي ينمو فيها البذر.

ويوم القيامة يوم الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان، وقلَّما ينفع إيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه.

وكما لا ينمو بذر في أرض سبخة، فينبغي أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع، فكل من طلب أرضا طيبة وألقى فيها بذراً جيداً غير عفن ولا مُسوِّس، ثم أمدَّه بما يحتاج إليه وهو سوق الماء إليه في أوقاته، ثم نقَّى الشوك عن الأرض والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده، ثم جلس منتظراً من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته، سمي انتظاره رجاءً.

وإن بث البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها الماء ولم يشتغل بتعهد البذر أصلاً، ثم انتظر الحصاد منه، سمِّي انتظاره حمقاً وغروراً لا رجاءً.

وإن بثَّ البذر في أرض طيبة لكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضاً، سمي انتظاره تمنياً لا رجاءً.

فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلية تحت اختيار العبد، ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختياره، وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع المفسدات.

فالعبد إذا بث بذر الإيمان وسقاه بماء الطاعات، وطهر القلب عن شوك الأخلاق الرديئة، وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت، وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة، كان انتظاره رجاءً حقيقياً محموداً في نفسه، باعثاً له على المواظبة والقيام بمقتضى الإيمان في إتمام أسباب المغفرة إلى الموت.

وإن قطع عن بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات، وترك القلب مشحونا برذائل الأخلاق، وانهمك في طلب لذات الدنيا ثم انتظر المغفرة، فانتظاره حق وغرور.

قال صلى الله عليه وسلم: (الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني) .

وقال تعالى :[فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا] {مريم:59}.

وقال تعالى : [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا] {الأعراف:169}.

وذمَّ الله تعالى صاحب البستان إذ دخل جنته وقال: [مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا] {الكهف:35-36}.

فإذن العبد المجتهد في الطاعات، المتجنب للمعاصي، حقيق بأن ينتظر من فضل الله تمام النعمة وما تمام النعمة إلا دخول الجنة أ. هـ.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر : كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين