التناصح والتغافر

 

 

قبول النصيحة وطلبها من الخبراء

 

كان الحسن البصري ملحاحا في الحث على هذا الخلق، لهاجًا في تزيينه، حتى جعله ثلث العيش، فقال:

(لم يبق من العيش إلا ثلاث: أخ لك تصيب من عشرته خيرًا، فإن زغت عن الطريق: قومك وكفاف من عيش ليس لأحد عليك فيه تبعة وصلاة في جمع، تكفي سهوها، وتستوجب أجرها)

 

فزينة الحياة عنده، في جيل التابعين ذلك، كانت ترتفع عن الأرض وتتناقص، حتى لم يبق منها مما يري إلا هذه الثلاث التي يتقدمها الأخ الناصح المقوم لاعوجاجك،

 

فكم ثمن بقية الزينة هذه في يومنا هذا؟

 

ثم جعل الحسن التقدم بالنصيحة خصلة ضرورة للمؤمن الذي هو:

 

( مرآة أخيه، إن رأى منه ما لا يعجبه: سدده و قومه  ووجهه، وحاطه في السر والعلانية)

 

وعند عمر بن العزيز هو: من إحسان الواجبات الإخوانية وذاك قوله: (من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه)

 

ومثل التقدم بالنصيحة، قبولها: فالصادق يفرح بها، ولكن (وصف الله تعالى الكاذبين ببغضهم للناصحين، إذ قال: ولكن لا تحبون الناصحين)

 

وللناصح الحق في أن يسقط من عينه من يرد نصيحته، وأن يستن بسنة الشافعي التي بينها في قوله: (ما نصحت أحدًا فقبل مني إلا هبته واعتقدت مودته، ولا رد أحد علي النصح إلا سقط من عيني ورفضته).

 

ولكن، إن عاش الشافعي حتى رأى من يرد نصيحته، فإن التابعين في الجيل الذي قبله، كانوا يبادءون بالسؤال مبادأة، يرجون الإصلاح

 

فعمر بن عبد العزيز كان يقول لمولاه مزاحم:(إن الولاة جعلوا العيون على العوام، وأنا أجعلك عيني على نفسي، فإن سمعت مني كلمة تربأ بي عنها، أو فعالا لا تحبه، فعظني عنده، وانهني عنه)

 

وكان سيد تابعي الشام بلال بن سعد يقول لصاحبه عبد الرحمن بن يزيد: (بلغني أن المؤمن مرآة أخيه، فهل تستريب من أمري شيئا؟)

 

وأصرح منهما ميمن بن مهران قدوة أهل الجزيرة، فإنه عرض نفسه على جمع من أصحابه وقال لهم: (قولوا في ما أكره في وجهي، لأن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهة ما يكره).

 

فهذا فعل الصالحين

ولداعية اليوم في فعلهم موعظة ونور وبلاغ، ولا بد له أن يخرج من الفتن التي من حوله بأسئلة عمرية ميمونة، تبعث سمت الاتباع ذاك وتعيده حيا،

 

فأنه لولا كبر واعتداد رأيناهما لعقل مقدمات الفتن المندسة جيل من المغرورين كثير عددهم، بطحتهم لوجوههم تباعًا، وأخذتهم أخذة رابية، وكان من الممكن أن ينجوا منها لو أعطوا نم أنفسهم أذنا صاغية، لكنهم كانوا قوما يصدون...

 

تغليب نفسية التغافر:

أوقده الزاهد ابن السماك واعظ هارون الرشيد لما:(قال له صديق الميعاد بيني وبينك غدًا نتعاتب)

كأنها كانت هفوة من ابن السماك أو زلة تعكر لها قلب صديقة.فقال له ابن السماك رحمه الله تعالى: (بل بيني وبينك غدًا نتغافر).

وهو جواب يأخذ بمجامع القلوب، ملؤه فقه وواقعية، يشير إلى وجود قلب وراء هذا اللسان يلذعه واقع المسلمين، وتؤلمه أسباب تفرقهم وكذلك يكون استدراك الوازن لتسرع الحساس

 

فلماذا التعاتب المكفهر بين الإخوان؟

كل منهم يطلب من صاحبه أن يكون معصومًا أليس التغافر أولى وأطهر وأبرد للقلب؟

أليس جمال الحياة أن تقول لأخيك كلما صافحته: رب اغفر لي ولأخي هذا،

ثم تضمر في قلبك أنك قد غفرت له تقصيره تجاهك؟

أو ليس عبوس التعاتب تعكيرا تصطاد الفتن فيه كيف تشاء؟

بلي والله.

 

ولقد كان شاعر أسبق من دعاة يدعون الفقه، فراح يمرح ويتغنى…

 

من اليوم تعارفنا             ونطوي ما جرى منا

فلا كان ولا صار           ولا قلتم ولا قلنا

وإن كان ولابد               من العتب فبالحسنى

 

ثم يأبى إلا أن يزيد مرحه، فيبدل نغمته:

تعالوا بنا نطوى الحديث الذي جرى             ولا سمع الواشى بذاك ولا درى

تعالوا بنا حتى نعود إلى الرضا                 وحتى كأن العهد لم يتغيرا

لقد طال شرح القال والقيل بيننا                 وما طال ذاك الشرح إلا ليقصرا

من اليوم تاريخ المحبة بيننا                     عفا الله عن ذاك العتاب الذي جرى

 

ثم يبدل نغمته ثالثة، ويتملق أصحابه ليديم محبة أخوية لذيذة قد ذاق طعمها الفريد، فيقول:

 

تعالوا نخل العتب عنا ونصطلح                وعودوا بنا للوصل والعود أحمد

ولا تخدشوا بالعتب وجه محبة                   له بهجة أنوارها نتوقد

فلا تخدش أيها الداعية، بالله عليك، وجه محبة منيرة لا زالت فذا فيها  والناس من حولك تستهلكهم العداوات،

وإلا وضعت نفسك على شفير الاستهلاك 

 

إن التغافر خير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين