حدث في الثالث والعشرين من المحرم

في الثالث والعشرين من المحرم من سنة 169 توفي في ماسبذان، عن 42 عاماً ثالث الخلفاء العباسيين، الخليفة المهدي بالله، محمد بن عبد الله المنصور بن محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس، والذي واصل بناء الدولة العباسية، وكان محمود العهد والسيرة، محببا إلى الرعية، حسن الخُلِق والخَلق.

ولد المهدي سنة 127 بإيذج من كور الأهواز، وأمه عربية من حِمْـيَر تدعى أروى بنت منصور الحميرية، وهو أحد ثلاثة خلفاء في الدولة العباسية عربيي الأم، وهم أبو العباس السفاح، أمه ريطة بنت عبد المدان الحارثي، فكان يدعى: ابن الحارثية، ومحمد الأمين بن هارون الرشيد، أمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور، أما بقية الخلفاء العباسيين، فكلهم أبناء أمهات ولد.
وكان والده أبو جعفر المنصور، عبد الله بن محمد، قد تولى الخلافة سنة 136، فهو قد نشأ في بيت الملك والخلافة، ولكن بيت المنصور كان بيت صرامة وجدٍّ لا عبث فيه ولا لهو، قال حماد التركي: كنت واقفاً على رأس المنصور، فسمع جَلَبة، فقال: انظر ما هذا؟ فذهبت، فإذا خادمٌ له قد جلس حوله الجواري، وهو يضرب لهن بالطُنبور، وهن يضحكن، فأخبرته، فقال: وأي شيء الطنبور؟ فوصفته له، فقال: ما يدريك أنت ما الطنبور؟ قلت: رأيته بخراسان. فقام ومشى إليهن، فلما رأينه تفرقن، فأمر بالخادم فضرب رأسه بالطنبور، حتى تكسر الطنبور، وأخرج الخادم فباعه.
وكان جدول المنصور اليومي على النحو التالي: يمضي المنصور صدر نهاره بالأمر والنهي، والولايات والعزل، وشحن الثغور والأطراف، وأمن السبل، والنظر في الخراج والنفقات، ومصلحة معاش الرعية، والتلطف بسكونهم وهديهم، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته، فإذا صلى العشاء الآخرة جلس ينظر فيما ورد من كتب الثغور والأطراف والآفاق، وشاور سُمَّاره، فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه، وانصرف سماره؛ وإذا مضى الثلث الثاني قام فتوضأ وصلى، حتى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه.
وكان أبو العباس السفاح قد عقد قبل وفاته في سنة 136 لأخيه أبي جعفر المنصور بالخلافة من بعده، وعقد من بعد أبي جعفر لولد أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي، المولود سنة 102، وكان من فحول أهله وذوي النجدة والرأي منهم، وكان يقال له شيخ الدولة، فكان الأصل أن يكون عيسى الخليفةَ بعد أبي جعفر المنصور، ولكن المنصور عندما كبر ابنه المهدي أحب أن تكون له ولاية العهد بعده، فسعى بالترغيب ثم الترهيب حتى خلع عيسى بن موسى نفسه وتمت البيعة للمهدي بولاية العهد في سنة 147 قبل وفاة المنصور بإحدى عشرة سنة.
عُرِفَ المهدي وهو صغير بصلاحه وتدينه، وذهبت شهرته بذلك إلى أبعد من بغداد والعراق، فقد التقى أبو جعفر المنصور في المدينة المنورة بمفتيها الإمام ابن أبي ذئب، محمد بن عبد الرحمن المولود سنة 80 والمتوفى سنة 160، فقال له ابن أبي ذئب في قصة طويلة: بلغني أنك رُزِقت ابناً صالحاً في العراق، يعني المهدي. قال أبو جعفر: أما إن قلت ذلك، إنه لصوَّامٌ لليوم البعيد ما بين الطرفين. وجرت لابن أبي ذئب فيما بعد قصة مع المهدي عندما حج وزار المدينة المنورة فدخل مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يبق أحد إلا قام له إلا ابن أبي ذئب، فقال له المسيب بن زهير: قم هذا أمير المؤمنين، فقال ابن أبي ذئب: إنما يقوم الناس لرب العالمين، فقال المهدي: دعه فلقد قامت كل شعرة في رأسي.
وكان في تلك الحقبة عالم من محدث من أهل واسط هو سفيان بن حسين السُلَمي، حدَّث عن الحسن البصري ومحمد بن سيرين وابن شهاب الزهري، وكان حسن الصوت بالقرآن، فاستقدمه المنصور إليه في بغداد وقال له: اقرأ، قال: القرآن لا يتلذذ به، قال: عالمٌ أنت؟ فسكت فقال له الربيع: أجب أمير المؤمنين قال: سألني عن مسألة لا جواب لها، إن قلت: لستُ عالماً وقد قرأت كتاب الله كنت كاذباً، وإن قلت أنا عالم كنت بقولي جاهلاً. فضمه المنصور إلى المهدي يعلمه، وبقي مرافقاً له حتى توفي في خلافته.
وتولى المهدي قبل ولاية العهد مهاماً لوالده المنصور وأبدى فيها مقدرة وشجاعة، ففي سنة 141 قام والي خراسان عبد الجبار بن عبد الرحمن عامل خراسان بشق عصا الطاعة، فوجه المنصور إليه ابنه المهدي وأمره بنزول الري - وهي اليوم طهران - فسار إليها المهدي، ووجه خازم بن خزيمة بين يديه لحرب عبد الجبار، ولما وصل المهدي إلى نيسابور في طريقه، كان أهل مرو الروذ قد ساروا إلى عبد الجبار وحاربوه وقاتلوه قتالاً شديداً، وأسره أحد أهلها وحُمِلَ إلى المنصور ببغداد فأمر بقتله.
ولما ظفر المهدي بعبد الجبار بغير تعب ولا مباشرة قتال، كره المنصور أن تبطل تلك النفقات التي أنفق على المهدي، فكتب إليه أن يغزو طبرستان وينزل الري، ويوجه جيشه لتوطيد أركان الدولة العباسية في تلك البلاد بالقضاء على ملوك الأقاليم فيها، فاتحد هؤلاء وطالت الحرب، ولكن المهدي بقي وراءهم حتى حتى دانوا بالولاء للدولة العباسية، وبقي المهدي في خراسان أميراً عليها، يأتي إلى الكوفة زائراً، وفي سنة 151 جاء المهدي من خراسان، فقدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة وغيرها فهنؤوه بمَقدَمه، فأجازهم وحملهم وكساهم، وفعل بهم المنصور مثل ذلك، وبنى له المنصور مدينة الرصافة مقابل بغداد، وفي سنة 153 جعله والده أميراً على الحج من العراق، وفي سنة 155 سير المنصور المهدي لبناء مدينة الرافقة على الفرات قرب مدينة الرقة، فسار إليها فبناها على مثال مدينة بغداد، وعمل للكوفة والبصرة سوراً وخندقاً، وجعل ما أنفق فيه من الأموال على أهلها، وفي سنة 158 أراد المنصور عزل موسى بن كعب أمير الموصل، وخشي إن بلغه ذلك أن يخرج عليه، فأمر ابنه المهدي أن يسير إلى الرقة، وأمره أن يجعل طريقه على الموصل، فإذا صار بالبلد أخذ موسى وقيده واستعمل خالد بن برمك.
وأوصى المنصور ولده المهدي لما جعله ولياً لعهده: لا تبرم أمراً حتى تفكر فيه، فإن فِكرَ العاقل مرآته تريه حسنه وسيئه. يا بُنيَّ لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز الناس من ظَلَمَ من هو دونه، واعتبِرْ عمل صاحبك وعلمه باختياره.
يا أبا عبد الله، الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يقيمه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس مروءة وعقلاً من ظلم من هو دونه.
يا أبا عبد الله، لا تجلس مجلساً إلا ومعك من أهل العلم من يحدثك؛ ومن أحب أن يُحمَدَ؛ أحسنَ السيرة، ومن أبغض الحمد؛ أساءها، وما أبغض الحمد أحدٌ إلا استُذِم، وما استذم إلا كره.
يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي غشيه، بل العاقل الذي يحتال للأمر حتى لا يقع فيه.
فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي يجعل لك فيما حزبك فرجَاً ومخرجاً، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب.
وسأل المنصور ابنه المهدي يوماً عن عدد جنوده: كم راية عندك؟ قال: لا أدري. قال: إنا لله، أنت لأمر الخلافة أشد تضييعاً! ولكن قد جمعت لك ما لا يضرك معه ما ضيعت، فاتق الله فيما خوَّلك.
توفي المنصور في السادس من ذي الحجة من عام سنة 159 في بئر ميمون قرب مكة، ودفن في مقبرة المعلاة، ولما شعر بدنو الأجل أوصى ابنه المهدي بالوصية التالية:
يا بني، احفظ محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته يحفظك الله ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام؛ فإنه حَوبٌ عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود؛ فإن فيها صلاحك العاجل والآجل، ولا تعتدِ فيها فتبور؛ فإن الله تعالى لو علم شيئاً أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه.
واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه أَمَرَ بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فساداً مع ما ذخر له من العذاب الأليم، فقال: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، فالسلطان، يا بني، حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودينه القويم، فاحفظه وحصنه وذب عنه، وأوقع بالملحدين فيه والمارقين منه، واقتل الخارجين عنه، ولا تجاوز ما أمرك الله به في محكم القرآن، واحكم بالعدل، ولا تشطط، فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو، وأنجع في الدواء، واعف عن الغي، فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك.
وعُفَّ عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع ما خلَّفه الله لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة، وإياك والأَثَرة والتبذير لأموال الرعية، واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، وادفع المكاره عنهم، وأعد الأموال، واخزنها، وإياك والتبذير، فأن النوائب غير مأمونة، وهي من شيم الزمان.
وأعد الكِراع والرجال والجند ما استطعت؛ وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع، وجُدَّ في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولاً فأولاً، واجتهد وشمِّر فيها؛ وأعِدَّ رجالاً بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالاً بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر، ولا تكسل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسئِ الظن بعمالك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من يبيت على بابك، وسهِّل إذنك للناس، وانظر في أمر النُزَّاع إليك، ووكل بهم عيناً غير نائمة، ونفساً غير لاهية، ولا تنم، فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة، ولا دخل عينه الغمض إلا وقلبه مستيقظٌ. هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك.
وتولى وزير المنصور الربيع بن الفضل أمر تجديد البيعة لولي عهده المهدي، فتولى العرش وهو في الثانية والثلاثين من عمره، ورغم أن أبا جعفر المنصور كان خليفة مهيباً، فقد كانت المعضلة التي واجهها دائماً أن أطراف الدولة العباسية تتمرد وتنتقض عليه، إضافة إلى تقلب العلاقات مع الدولة البيزنطية التي كانت تهاجم الحدود الإسلامية بين حين وآخر، وكان من أوائل ما فعله الخليفة الجديد أن استمال الحاشية وكبار رجال الدولة والرعية ففتح الخزائن وفرق الأموال، قال الربيع: مات المنصور وفي بيت المال 100.060.000 درهم فقسم ذلك المهدي وأنفقه.
و أمر المهدي كذلك بإطلاق من كان في حبس أبيه إلا من كان عليه دم وأشباه ذلك، وأطلق كذلك الحسن وأخاه ولدي إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، وكانت الإرهاصات تتحدث بخروجهما على العباسيين، وجعل الحسن في إقامة جبرية لدى أحد الأمراء، فهرب الحسن فتلطف المهدي حتى أمسكه بعد سنة. ولما أخرجَ المهديُّ من في السجون من أصحاب الجرائم فقيل له: إنما تزري على أبيك، فقال: أنا لا أزري على أبي، وإنما أبي حبس بالذّنب وأنا أعفو عنه.
وقيل إن المنصور كان إذا جنى أحداً جنايةً أو صادر مال أحد جعله في بيت المال مفرداً وكتب عليه اسم صاحبه، فلما أدركته الوفاة قال لابنه المهدي: يا بني إني قد أفردت كل شيء أخذته من الناس على وجه الجناية والمصادرة، وكتبت عليه أسماء أصحابه، فإذا وليت أنت فأعده على أربابه ليدعو لك الناس ويحبوك.
واتجه المهدي لمواجهة التهديد الخارجي من الدولة البيزنطية، فخرج من بغداد فنزل على بعد سبعة فراسخ منه في البَرَدان واستعرض جيوشه وأرسلها إلى الثغور، وجعل عليها عمه العباس بن محمد العباسي وبين يديه الحسن بن وصيف في الموالي وقواد خراسان وغيرهم؛ فساروا إلى الروم حتى بلغوا أنقرة وفتحوا مدينة يقال لها: المطمورة وعادوا سالمين غانمين، ولكن الروم حشدوا قواتهم وشنوا هجوماً في سنة 162 فوصلت قواتهم إلى الحدث قرب أنطاكية فهدموا سورها، فحشد الخليفة جيشاً كبيراً من 80000 من الجنود النظاميين وعدد من المطوعة؛ فأغار على ممالك الروم وأحرق وأخرب وعاد ظافراً غانماًً.
وفي سنة 160 واجه الخليفة المهدي ثلاث تمردات فقد خرج المقنع الخارجي بخراسان وادعى النبوة، وكان يقول بتناسخ الأرواح، واستغوى خلقاً عظيماً وتوثب على بعض ما وراء النهر، فانتدب لحربه أمير خراسان معاذ بن مسلم والأمير جبريل بن يحيى وليث مولى المهدي وسعيد الحرشي فجمع المقنع الأقوات وتحضن للحصار بقلعة من أعمال كش، فحوصر قرابة السنة حتى كادت القلعة أن تسقط في سنة 162، فلما أحس المقنع بالهلاك مص سما وأسقى نساءه فتلف وتلفوا. ولم تكن هذه نهاية القلاقل فقد اضطرب أمر خراسان ثانية في سنة 166 فعزل المهدي أميرها وولى آخراً استطاع أن يقمع التمرد.
وظهر متمرد آخر هو عبد القهار، واستطاع وأنصاره الاستيلاء على جرجان وقتلوا وأفسدوا؛ فسار لحربهم من طبرستان عمر بن العلاء فقتل عبد القهار وتشتت باقي أصحابه، ولم يكن هذا كذلك آخر تمرد ففي سنة 166 أرسل المهدي ابنه موسى الهادي إلى جرجان ليقمع تمرداً فيها، ثم اضطربت مرة ثانية في سنة 168 فأرسل المهدي إليها جيشاً في أربعين ألفاً بقيادة سعيد الحرشي.
وخرج في سنة 160 في حلب والجزيرة الفراتية عبد السلام بن هاشم اليشكري، وكثرت جموعه وهزم الجيوش التي حاربته حتى انتدب لحربه شبيب بن واج في ألف فارس من الأبطال وأعطوا ألف ألف درهم، ففر منهم اليشكري إلى حلب فلحقه بها شبيب وقتله.
وسار المهدي على سنة والده في جعل ابنه على رأس الجيوش التي تواجه أعداء الدولة، فولى في سنة 162 ابنه هارون الرشيد الولايات الغربية وأذربيجان وأرمينية، ثم قدم المهدي بنفسه إلى حلب وجهز البعوث لغزو الروم غزوة عظيمة أمَّر عليها ابنه هارون الرشيد، وضم إليه كبار القواد وحققت الحملة انتصارات كبيرة، وتابع هارون الرشيد ذلك بنفسه في سنة 164 فغزى في الصائفة وتوغل في بلاد الروم حتى بلغ خليج القسطنطينية، وصالح ملك الروم في العام على سبعين ألف دينار مدة ثلاث سنين بعد أن غنم وسبى واستنقذ خلقاً من المسلمين من الأسر، وغنم ما لا يوصف من المواشي، وقام ببناء عين زربه وبنى حصناً للمرابطين قرب أضنة، فسر به أبوه المهدي سروراً كبيرا، ونقضت الروم الصلح في سنة 168 بعد فراغه بثلاثة أشهر، فأرسل المهدي يزيد بن بدر بن أبي محمد البطال في حملة تأديبية فغنموا وظفروا.
واهتم المهدي بتوطيد الوجود الإسلامي في مناطق الثغور على حدود الدولة البيزنطية، فزاد في حامية المصيصة ألفي رجل، ثم ولاها سالم البرنسي السندي، وأضاف إليه خمسمئة مقاتل، فكثر من بها وقووا، وكان سالم ممن جمع بين الشجاعة والرأي، لم يزل مرابطاً في الثغور مجاهداً في سبيل الله.
وفي سنة 166 خرج دحية بن المعصب في مصر بالصعيد ودعا لنفسه بالخلافة، فتراخى عنه واليها إبراهيم بن صالح علي بن عبد الله بن العباس، ولم يحفل بأمره حتى استفحل أمر دحية وملك غالب بلاد الصعيد وكاد أمره أن يتم ويفسد بلاد مصر وأمرها؛ فسخط المهدي عليه بسبب ذلك وعزله بموسى بن مصعب عزلاً قبيحاً في آخر سنة 167.
وسار المهدي كذلك على خطى والده في توريث الملك لابنائه، وكما أسلفنا كان الأمير عيسى بن موسى العباسي هو ولي عهد المنصور، ثم جعله المنصور يتنازل لصالح ابنه المهدي، على أن يكون الخليفة من بعده، فلما ولي المهدي خلعه سنة 160، بعد تهديد ووعيد، وجعل محله ابنه موسى الهادي ومن بعده هارون الرشيد، وأقام عيسى بالكوفة إلى أن توفي سنة 167.
ومن إنجازات الخليفة المهدي الإدارية أن استحدث في سنة 162 دواوين الأزِّمة، ومعنى دواوين الأزمة: أن يكون لكل ديوان زمام وهو رجل يضبطه، وقد كانت قبل ذلك الدواوين مختلطة، ويشبه هذا تقسيم منصب الوزارة إلى مجلس للوزراء لكل وزارة وزيرها المتابع لأمورها، ومن إنجازاته إقامة البريد من اليمن إلى مكة ومن مكة إلى بغداد، وكان البريد بين الأقطار قد توقف بسقوط الدولة الأموية.
 
وقال المهدي للفضل بن الربيع حين ولاه الحجبة: إني قد وليتك ستر وجهي وكشفه، فلا تجعل الستر بيني وبين الناس سبب ضغنهم عليّ بقبح ردك وعبوس وجهك، فإن لهم دالَّة الحرمة وحرمة الاتصال، وقدّم أبناء الدعوة وثنّ بالأولياء، واجعل للعامة وقتاً إذا وصلوا أعجلَهم ضيقُه عن التلبث وحثُّك لهم عن التمكّث. وقال لحاجب آخر: لا تحجب عني الناس، فإن ذلك يزيل عني التزكية، ولا تُلْقِ إليَّ أمراً إذا كشفتُه وجدتُه باطلاً فإن ذلك يوهن الملك ويضرّ بالرعية. وكان نقش خاتم المهدي: الله ثقة محمد وبه يؤمن.
 
وقدم جماعة من فارس إلى المهدي يشكون عاملهم فقالوا للوزير: وليتَ علينا رجلاً إن كنت قد عرفتَه ووليتَه علينا فما خلق الله رعية أهون عليك منا، وإن كنت لم تعرفه فما هذا جزاء الملك، وقد سلطك الله على سلطانه، فدخل الوزير على المهدي فأخبره وخرج فقال: إن هذا رجل كان له علينا حق فكافأناه، فقالوا: كان مكتوباً على باب كسرى: العمل للكفؤ من العمال، وقضاء الحقوق على بيت المال. فأمر بعزل ذلك العامل عنهم.
 
وقال المهدي للربيع بن جهم وهو والٍ على أرض فارس: يا ربيع، انشر الحق والزم القصد وابسط العدل وارفق بالرعية، واعلم أن أعدل الناس من أنصف من نفسه، وأجوَرَهم من ظلم الناس لغيره.
 
وكان المهدي، إذا جلس للمظالم، قال: أدخِلوا عليَّ القضاة، فلولم يكن ردي المظالم إلا للحياء منهم لكفى. ومن قضاته الحسين بن الحسن العَوفي المتوفى سنة 201، وكان المهدي يصلى المغرب مرة فصلى معه القاضي العوفي، فلما انتهت الصلاة جاء العوفي حتى قعد في قبلته، فقام المهدي يتنفل فجذب العوفي ثوبه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شيءٌ أولى بك من النافلة، قال: وما ذاك؟ قال: سلامٌ مولاك - وكان سلامُ حاضراً قائماً على رأسه - أوطأ قوماً الخيلَ وغصبهم على ضيعتهم، وقد صح ذلك عندي، تأمرُ بردها، وتبعث من يخرجهم، فقال المهدي: يصح إن شاء الله، فقال العوفي: لا، إلا الساعة! فقال المهدي: فلان القائد اذهب الساعة إلى موضع كذا وكذا، فأخرِجْ من فيها، وسلِّم الضيعة إلى فلان. فما أصبحوا حتى ردت الضيعة على صاحبها!
 
اهتم المهدي بالحرمين وعمارتهما وتأمين الطريق إليهما، ولما حج في سنة 160 كسا البيت الحرام كسوة جديدة، وتقدم إليه حجبة الكعبة أنهم يخافون على الكعبة أن تهدَّم لكثرة ما عليها من الأكسية السابقة، وكانت العادة أن توضع كسوة فوق كسوة، فأمر بها فجردت عنها، واستمر ذلك إلى يومنا هذا.
 
ويقال: إن المهدي فرق في حجته هذه في أهل الحرمين ثلاثين ألف ألف درهم، ووصل إليه من اليمن أربعمئة ألف دينار فقسمها أيضاً في الناس، وفرق من الثياب الخام مئة وخمسين ألف ثوب ؛ ووسع في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم، وقرر في حرسه خمسمئة رجل من الأنصار ورفع أقدارهم.
 
وأمر المهدي بعِمارة المسجد الحرام والمسجد النبوي والزيادة فيهما، فعُمِّرَا وزيدَ فيهما، وأراد الحج سنة 164 فوصل العقبة فعطِشَ الناس وجهِدَ الحجيج، وأخذت المهدي الحمى فرجع من العقبة، وغضب على يقطين بن موسى حيث لم يقم بواجبه في إصلاح المصانع على الوجه المطلوب، فتسبب في أن لاقى الناس شدة من قلة الماء.
 
وحج المهدي في سنة 167 فرأى أن توسعة الحرم التي أمر بها في سنة 161 بها تعويج، وأصبحت الكعبة في طرف من المسجد، فكره ذلك، فقال:ما ينبغي أن يكون بيت الله هكذا، وأحبُ أن تكون متوسطة في المسجد، فدعا المهندسين فشاورهم في ذلك، فقدَّروا ذلك، وإذا هو لا يستوي لهم من أجل الوادي والسيل، وقالوا: إن وادي مكة يسيل أسيالا عظيمة عارمة، وهو واد حَدور، ونحن نخاف إن حوّلنا الوادي من مكانه أن لا ينصرف لنا على ما نريد، مع أن ما وراءه من الدور والمساكن ما تكثر فيه المؤونة، ولعله أن لا يتم.
 
فقال لهم المهدي: لا بد لي من أن أوسعه حتى أوسط الكعبة في المسجد على كل حال، ولو أنفقتُ فيه ما في بيوت الأموال. وعَظُمت في ذلك نيته، واشتدت رغبته، ولَهِجَ بعمله، وكان من أكبر همه، فقُدِّر ذلك وهو حاضر، ونصبت الرماحُ على الدَوْر من أول موضع الوادي إلى آخره، ثم ذرعوا من فوق الرماح حتى عرفوا ما يدخل في المسجد الحرام من ذلك، وما يكون الوادي فيه منه، فلما نصبوا الرماح على جنبتي الوادي، وعلم ما يدخل في المسجد من ذلك، وزنوه مرة أخرى وقدروا ذلك.
 
فلما أراد المهدي الشخوص إلى العراق خلّف أموالاً عظيمة، وأمر بشراء دور كثيرة من جهة أجياد لتُدخل في الحرم، فاشتريت بثمن كثير، وأرغبوهم فكان ثمن ما دخل في المسجد من ذلك، كل ذراع مكسر بخمسة وعشرين ديناراً، وعن كل ذراع دخل في الوادي مكسراً خمسة عشر دينارا، وأرسل إلى مصر وإلى الشام، فنقلت له أساطين الرخام في السفن حتى أنزلت بجدة، ثم نقلت على العَجَلِ من جدة إلى مكة، ووضعوا أيديهم فهدموا الدور وبنوا المسجد.
 
وأمر المهدي في سنة 160 بعمارة طريق مكة، وبنى به قصوراً أوسع من القصور التي أنشأها عمه السفاح، وعمل البرك وجدد الأميال وهي علامات الطريق ، ودام العمل في ذلك حتى تم في عشر سنين.
 
وزار المهدي في سنة 163 بيت المقدس فمر بدمشق، ولما دخل مسجدها قال لأبي عبيدة الأشعريّ كاتبه: يا أبا عبيد الله! سَبَقَنَا بنو أمية بثلاث: بهذا البيت، لا أعلم على الأرض مثله، وبنُبْل الموالي، وبعمر بن عبد العزيز، لا يكون والله فينا مثله أبدا! فلما أتى بيت المقدس ودخل الصخرة قال: يا أبا عبيدة، هذه رابعة.
 
وكان الإمام سفيان بن سعيد الثوري، المتوفى سنة 161 عن 64 عاماً، قد اعتزل أبا جعفر المنصور ومن بعده المهدي فيما يشبه المجافاة وعدم الإقرار بشرعية الخليفة، فأثار ذلك حنق المنصور وأمر بالقبض عليه، فهرب سفيان واختفى، ولما تولى المهدي طلبه فأتاه بعد تهرب وممانعة، وكان رأي سفيان في الخلفاء يطمح أن تسودهم التقشف والبساطة، قيل لسفيان الثوري: إن فلاناً يدخل على المهدي ويقول: أنا في خلاص من تبعاته، فقال: كذب والله! أما يرى إسرافه في ملبسه ومأكله وملبس خدمه وخيله ورجله؟! هل قال له قط يوماً إن هذا لا يليق بك، هذا من بيت مال المسلمين؟!
 
ولما دخل سفيان على المهدي وحاجبه الربيع قائم على رأسه متّكئٌ عَلَى سيفه يرقب أمره، فقال له المهدي: يا سفيان تفرّ منّا ههنا وههنا وتظنّ لو أردناك بسوء لم نقدر عليك؟ فقد قدرنا عليك الآن، أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟ فقال سفيان: إن تحكم فيّ يحكم فيك ملكٌ قادرٌ يفُرَّقُ بَيْنَ الحقِّ والباطل! فقال الربيع: يا أمير المؤمنين! ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي أن أضرب عنقهُ! فقال له المهدي: اسكت ويلك! وهل يريد هذا وأمثالهُ إلا أن نقتلهم فنشقى بسعادتهم؟ اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على أن لا يُعترض عليه! فكُتِبَ عهدُه ودُفِعَ إليه، فأخذه وخرج فرمى به في دجلة، وهرب إلى مكة متخفياً.
 
فلما حج المهدي قال: لا بدَّ لي من سفيان الثوري، فوضعوا له الرَّصَدَ حول البيت فأخذوه بالليل، فدخل عليه وسلّم سفيان الثوري تسليم العامّة وَلَمْ يسلِّم بالخلافة، فقال: السلام عليكم، كيف أنتم أبا عبد الله؟ فأقبل عليه المهدي بوجه طلق، وقال: لأي شيء لا تأتينا فنستشيرك في أمورنا؟ فما أمَرْتَنا من شيء صِرنا إليه، وما نهيتنا عن شيء انتهينا عنه!
 
فقال له سفيان: كم أنفقتَ في سفرك هذا؟ قال: لا أدري، لي أمناء ووكلاء، قال: فما عُذرُكَ غداً إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسألك عن ذلك؟ لكنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حجَّ قال لغلامه: كم أنفقنا في سفرتنا هذه؟ فقال: يا أمير المؤمنين ثمانية عشر ديناراً. فقال: ويحك، أجحفنا بيت مال المسلمين! وأنت حججت فأنفقت في حجتك بيوت الأموال، وما أراك تدري كم أنفقت! فقال المهدي: أيَّ شيء تريد أكون، مثلك؟ قال: فوقَ ما أنا فيه، ودونَ ما أنت فيه، فقال المهدي: لو كان المنصور حياً ما احتمل هذا الكلام منك، فقال سفيان: لو كان المنصور حياً ثم أخبرك بما لقيَّ ما استقر بك مجلسُك.
 
ثم قال له المهدي: عظني، فقال: لست بصاحب قصص ولكنِّا حُدِّثنا عن قَدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة يوم النحر لا ضَرْبٌ ولا طَرْدٌ، ولا إليك إليك؛ وقد رأيتُ الناس يُضرَبون بين يديك.
 
 فقال وزيره أبو عبيد الله معاوية بن عبيد الله بن يسار: يا أبا عبد الله قد كانت كتبك تأتينا فنُنْفِذُها، قال سفيان: من هذا؟ قال: أبو عبيد الله وزيري، قال: احذره فإنه كذاب، أنا كتبت إليك؟!
 
ثم قام سفيان فقال له المهدي: أين أبا عبد الله؟ قال: أعود، وكان قد ترك نعله حين قام فعاد فأخذها ثم مضى، فانتظره المهدي فلم يَعُدْ، قال: وَعَدَنا أن يعود فلم يعد؟ قيل له: إنه قد عاد لأخذ نعله، فغضب فقال: قد آمن الناس إلا سفيان الثوري ويونس بن فروة الزنديق - قرنه بزنديق - قال: فإنه ليُطلَبُ وإنه لفي المسجد الحرام، فذهب فألقى نفسه بين النساء فجلّلنه، فقيل له: لم فعلت ذلك؟ قال: إنهن أرحم.
 
كان المهدي يشتهي الحمام، فدخل عليه غياث بن إبراهيم المحدث وهو مع الحمام، فقيل له: حدِّث أمير المؤمنين، فحدث بقوله عليه السلام: لا سبق إلا في خف أو حافر، وزاد فيه: أو جناح. فأمر له بعشرة آلاف درهم، فلما ولى قال المهدي: أشهد أنه قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه أراد أن يتقرب إلي لولعي بالحمام، وإنما استجلبت ذلك أنا، وامر بالحمام فذُبحت، وما أفلح غياث بعد ذلك.
 
وقعد المهدي قعوداً عاماً للناس، فدخل رجل وفي يده نعل في مناديل، فقال: يا أمير المؤمنين هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أهديتها لك. فقال: هاتها، فدفعها إليه، فقبل باطنها ووضعها على عينيه، وأمر للرجل بعشرة آلاف درهم. فلما أخذها وانصرف قال لجلسائه: أترون أني لم أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير النعل، هذه فضلاً عن أن يكون لبسها؟ والله ما هذا نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أين صارت إليه؟ أبميراثٍ أم بشراء أم بهبة؟ولو كذبناه قال للناس: أتيتُ أمير المؤمنين بنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّها عليّ، وكان من يصدقه أكثر ممن يدفع خبره، إذ كان من شأن العامة الميل إلى أشكالها، والنُصرة للضعيف على القوي وإن كان ظالماً، فاشترينا لسانه وقبلنا هديته، وصدقنا قوله، ورأينا الذي فعلناه أنجح وأرجح.
 
وأخبار المهدي مع الشعراء مستفيضة، وتمتلأ كتب الأدب بقصصه مع بشار بن برد وأبي دلامة وأبي العتاهية وغيرهم من شعراء زمانه، ونجتزئ بذكر قصيدة فريدة مدحه بها أبو العتاهية، وكان يتغزل بعَتَب جارية زوجة المهدي، فلما مدحه ابتدأ القصيدة بالتشبيب بالجارية عتب في جرأة عجيبة لأن المهدي كان معروفاً بالغيرة على الحرم:
 
ألا ما لسيّدتي؟ ما لها ... تُدِلّ وأَحمِلُ إدلالها
 
وإلا ففيم تجنَّتْ ولا ... جنيتُ، سقى الله أطلالها
 
ألا إنّ جاريةً للإما ... م قد سكن الحسنُ سربالَها
 
وقد أتْعب الله نفسي بها ... وأتعبَ باللوم عُذّالها
 
كأن بعينيَّ في حيثما ... سلكتُ من الأرض تمثالها
 
فلما وصل إلى المديح قال:
 
أتتْهُ الخلافةُ مُنقادةً ... إليه تُجَرِّرُ أذيالَها
 
فلم تَكُ تَصْلُحُ إلا لهُ ... ولم يَكُ يَصْلُحُ إلا لَهَا
 
ولو رامَها أحدٌ غيرهُ ... لزُلزِلَت الأرضُ زلزالَها
 
ولو لم تُطِعْه بناتُ القلوب ... لَمَا قَبِل اللَهُ أعمالَها
 
ويحكى أن الشاعر الكبير بشار بن برد كان موجوداً عند إنشاد أبي العتاهية هذه الأبيات، فلما سمع المديح قال: انظروا إلى أمير المؤمنين، هل طار عن سريره طرباً؟
 
قال ابن الأثير في الأدب السائر: واعلم أن هذه الأبيات من رقيق الشعر غزلاً ومديحاً، وقد أذعن لمديحها الشعراء من أهل ذلك العصر، ومع هذا فإنك تراها من السلاسة واللطافة على أقصى الغايات، وهذا هو الكلام الذي يسمى السهل الممتنع، فتراه يطمعك ثم إذا حاولت مماثلته راغ عنك كما يروغ الثعلب، وهكذا ينبغي أن يكون من خاض في كتابة أو شعر، فإن خير الكلام ما دخل الأذن بغير إذن.
 
وفي بطون الكتب أخبار كثيرة وفيرة للمهدي في مجالسه مع العلماء والأدباء، ومع الشعراء والمغنين، وفي تقبله لنُصح العبَّاد والصالحين، وتتبعه الزنادقة والمفسدين، تضيق عنها مقالة كهذه، فنجتزء بهذه القصة المعبرة عن شخصية المهدي رحمه الله تعالى: كان المهدي يصلي بالناس الصلوات الخمس في المسجد الجامع بالبصرة لما قدمها، فأقيمت الصلاة يوماً فقال أعرابي: يا أمير المؤمنين، لستُ على طُهر وقد رغبت في الصلاة خلفك، فأمُر هؤلاء بانتظاري، فقال: انتظروه رحمكم الله، ودخل المحراب فوقف إلى أن قيل قد جاء الرجل فكبَّر، فعجب الناس من سماحة أخلاقه.
 
تزوج المهدي في سنة 144 بابنة عمه أبي العباس السفاح وتسمى رَيطة، وجاءه منها ولدان علي وعبيد الله ، وكانت ريطة هذه لما ولدت دفعها أبو العباس إلى الوزير خالد بن برمك فأرضعتها زوجة خالد وربتها، وأرضعت أم سلمة زوج أبي العباس أمير المؤمنين أمَ يحيى بنت خالد بلبان ابنتها ريطة، ومن طريف ما يحكى أن خالد بن برمك دخل يوماً على أبي العباس السفاح فقال له: يا ابن برمك أما رضيتَ حتى استعبدتني!؟ ففزع خالد لذلك، قال: وكيف يا أمير المؤمنين؟! بل أنا عبدك! فضحك أبو العباس، وقال: ريطة بنت أمير المؤمنين وأم يحيى بنت خالد: تبيتان في فراش واحد فاتعارُّ من الليل فأجدهما قد تكشفتا فأرد اللحاف عليهما، فقبل خالد يده وقال: مولى يكتسب الأجر في عبده وأمته. وكان باب النساء في المسجد النبوي يسمى في فترة من الفترات بباب ريطة نسبة إليها إذ كان دارها تقابله، وهي دار كانت لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ونقل أنه توفي بها.
 
واهتم المهدي بتعليم أولاده وتربيتهم على الذوق واللباقة، جاء مؤدبُ الرشيد مرة والمهدي يستاك، فقال له: كيف الأمرُ من السواك؟ قال: اسْتَك ياأمير المؤمنين، فقال المهدي: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: التمسوا لنا من هو أفهم من ذا، فقالوا: رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة، قدم من البادية قريباً، فكتب بإحضاره عاجلا من الكوفة، فساعة دخل عليه قال: يا علي بن حمزة، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: كيف تأمر من السواك؟ قال: سِكْ يا أمير المؤمنين، قال: أحسنت وأصبت، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
 
ووتولى ابنه عبيد الله بن المهدي الجزيرة الفراتية، وتولى ابنه الأكبر علي بن المهدي إمرة الحج غير مرة، وكانت ولاية عهد المهدي لأخيه موسى الهادي، فقام المهدي في سنة 162 بعد عودة هارون الرشيد من غزو الروم فعقد له العهدَ بعد أخيه موسى الهادي، ثم عقد مِن بعده لعلي بن المهدي، فلما صار الأمر إلى الرشيد بعد الهادي، خلع عليًّا وعوَّضه عشرين ألفَ ألفِ درهم، وخرج الصك بها إلى الدواوين، وقبض ذلك. وتوفي علي في سنة 180، وصلَّى عليه الرشيد، وقام على قبره.
 
أما موسى الهادي وهارون الرشيد وعبد الله شقيقهما، فهم أبناؤه من الخَيزران جاريته، وأعتقها وتزوجها في سنة 159، وتوفيت الخيزران في سنة 173.
 
أما ابنه إبراهيم بن المهدي الذي خرج على المأمون، فكان ابنه من جاريته شكلة وهي من سبي طبرستان، ولكنها أُرسلِت إلى الطائف فنشأت هناك ففصحت وقالت الشعر، وولد إبراهيم في سنة 160 وتوفي في سنة 224، وكان إبراهيم شاعراً فاضلاً متصوناً مقدماً في قومه وعلمه ودينه، من أبصر الناس بالغناء وأعلمهم به.
 
وللمهدي أولاد آخرون منهم ابنه منصور من جاريته بحترية، وهي من بنات ملوك طبرستان، وولي منصور فلسطين والشام والبصرة وحج بالناس، ودعاه أهل بغداد للخلافة في سنة 201 لما ثاروا على المأمون، فامتنع وقال: أنا نائب له حتى يأتي، فحمد له المأمون ذلك وبالغ في إكرامه، وتوفي سنة 236.
 
وخطب منصور بن المهدي ابنة أبي العتاهية الشاعر فلم يزوجه، وقال: إنما طلبها لأنها بنت أبي العتاهية، وكأني بها قد ملَّها فلم يكن لي إلى الانتصاف منه سبيل، وما كنت لأزوجها إلا بائع خزف وجرار، ولكني اختاره لها موسرا.
 
دخل منصور بن المهدي يوماً على المأمون وعنده جماعة يتكلمون في الفقه، فقال له: ما عندك فيما يقول هؤلاء؟ قال: يا أمير المؤمنين! أغفلونا في الحداثة، وشغلنا الطلب عند الكبر من اكتساب الأدب. قال: لم لا تطلبه اليوم وأنت في كفاية؟ قال: أو يَحسُن بمثلي طلب العلم؟ فقال له المأمون: والله لأن تموت طالباً للعلم خير من أن تعيش قانعاً بالجهل. قال: يا أمير المؤمنين! إلى متى يحسن؟ قال: ما حسنت بك الحياة؛ يا منصور! اتق الله في نفسك ولا ترض بهذا، فإنه يقصر بك في المجالس، ويصغرك في أعين من يراك ويزري بك.
 
وللمهدي ابنة اسمها العباسة من جارية له اسمها رخيم، وكانت توصف بالجمال الفائق، وزوَّجها أخوها هارون الرشيد في سنة 172 من ابن عمها أمير البصرة محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان غنيا نبيلا، سمت نفسه إلى الخلافة، فانتقلت معه إلى البصرة، وتوفي عنها بعد سنة، فتزوجها أمير مصر إبراهيم بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، وتوفي عنها كذلك سنة 176، وتوفيت هي سنة 182.
 
وللمهدي ابنة اسمها عُلية، ولدت سنة 160 من جاريته مكنونة، وتوفيت سنة 210، وتزوجها الأمير موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وتولى إمارة مصر والكوفة والشام، وتوفي سنة 183، ولعلية أخبار كثيرة فيها الغث والثمين لا يتسع المجال للحديث عنها. وله كذلك ابنة هي عائشة بنت المهدي، وكانت شاعرة.
 
وتزوج المهدي في سنة 159 أمَّ عبد الله ابنة عمِّ والده صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان من كبار البيت العباسي، وأول من ولي مصر منهم.
 
ومن أصهار المهدي إبراهيم بن جعفر الكبير بن المنصور، تزوج ابنته أم عبد الله، وتولى إبراهيم إمرة الحج في سنة 162.
 
توفي المهدي في سنة 169 وقيل مسموماً، والأصح أنه مات في حادث

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين



التعليقات