الأسوة الحسنة

 

يتساءل كثيرون ممن يَهُمُّهم صلاح الأمَّة عن السبب في أنَّ الفساد في الأمَّة يتزايد وأنَّ الأخلاق الفاضلة تنهار، مع كثرة الوعظ والإرشاد، وكثرة الحديث في الفضيلة وازدياد نشاط الدعاة إلى الخير من أفرادٍ وجماعات.

والسبب في هذا ليس أمراً واحد، بل هو عِدَّة أمور، وأهمُّها في رأيي أنَّ الناشئين لا يجدون الأسوة الحسنة التي تطبع في نفوسهم الخير من صِغَرهم، وتنشِّئهم على الفضيلة من نشأتهم، فلا يجدون القدوة الصالحة في المنزل، ولا في المدرسة، ولا في المسجد، ولا في البيئة التي يعيشون فيها بأسرها، فهم يَسْمعون أقوالاً في الخير ولكن لا يَرون الخيِّرين، ويسمعون دروساً في الفضيلة، ولكن لا يرون النفوس الفاضلة، بل إنَّ كثيرين منهم يرون غير ما يسمعون، ويشاهدون من أفعال القوالين ما يُفنِّد أقوالهم.

والدعوة إلى الخير لها طريقان: 

طريق القول: بأن يبين الداعي ما يدعو إليه ويفصِّل ما يجلبه من نفع وما يدفعه من ضر.

وطريق العمل: بأن يكون الداعي مثالاً لما يدعو إليه، وأسوة حسنة، وقدوة صالحة. فبهاتين الطريقتين تعي الآذان، وترى الأعين، وتَقْتَدي النفوس، وتهتدي العقول.

وأجلُّ نعمة ينعم الله تعالى بها على الأمَّة دعاة هداة أئمَّة يهدون بأقوالهم وبأفعالهم وبأخلاقهم فقولهم هدى، وفعلهم هدى، وسيرتهم هدى.

ومن لم تؤثر فيه أقوالهم أثرت فيه أخلاقهم وسلوكهم، ومن لم يبلغ من نفسه القول بلغ منها العمل.

وهؤلاء رسل الله تعالى عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام، لما اصطفاهم الله تعالى لرسالته أعدَّهم لهذه الوظيفة بتطهير نفوسهم وتكميل أخلاقهم، فعصمهم من الكذب والخيانة، وكل كبيرة تشينهم وتفضُّ الناس من حولهم، ليكونوا دعاةً هُداةً بألسنتهم وشمائلهم وأقوالهم وأعمالهم.

وهذا رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: أعدَّه ربُّه سبحانه لأداء وظيفته بالخلق العظيم، والأدب الرفيع، فقال الله جلَّ ثناؤه في سورة القلم - وهي ثاني سورة نزلت على رسول الله بمكة بعد سورة الفلق-: [ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ(1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ(2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ(3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4) ]. {القلم}.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أدَّبني ربي فأحسن تأديبي)، وقبل أن ينزل الله عليه قوله سبحانه: [يَاأَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ] {المدَّثر:1-2} أنزل عليه قوله: [يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ(1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا(2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا(3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآَنَ تَرْتِيلًا(4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا(5) ]. {المزمل}، فالله سبحانه أعدَّ رسولَه صلى الله عليه وسلم بالرياضة الروحيَّة في الخلوة الليليَّة ليسمو بنفسه إلى المستوى الملائكي فيكون نذيراً بلسانه وخلقه ونفسه وقلبه.

وتحدثنا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثيرين ممن اهتدوا بسيرته وأخلاقه وبأفعاله، ومن أشهرهم زيد اليهودي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقاضاه ديناً له عليه صلى الله عليه وسلم، وقد أغلظ اليهودي في القول، وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: إنكم يا بني عبد مَناف قوم مُطْل! فغضب عُمر رضي الله عنه، وهمَّ بالإيقاع به، فابتسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لعمررضي الله عنه: (أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر: تأمره بحسن التقاضي، وتأمرني بحسن القضاء).

ثم أمر عمرَ رضي الله عنه أن يؤديه دَيْنه، ويزيده صاعين بسبب أنه روَّعه، فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّك رسول الله. 

وأنَّ من علامات النبي أن يسبق حلمه غضبه، فهذا آمن واهتدى بما رآه من خلق الرسول صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث البخاري أنَّ هِرَقل عظيم الروم لما أراد أن يَعْرف حقيقة أمر محمد صلى الله عليه وسلم حين ظهرت دعوته، سأل أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه وهو يومئذ ألدّ أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، عِدَّة أسئلة بشأن محمد صلى الله عليه وسلم، وكان منها: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان رضي الله عنه: لا. قال هرقل: ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، فاستدلَّ بسيرته على صدق دعوته.

ولما تخلَّف عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب من تخلَّفوا وعاتبهم الله تعالى على تخلُّفهم، قال لهم عزَّ شأنه: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا] {الأحزاب:21}.

وفي هذا تنويه بأنَّ الدعوة بالأسوة الحسنة أبلغ دعوة، ولا ينبغي التخلف عنها، فالرسول صلى الله عليه وسلم خرج في شجاعة وإقدام وثبات وصدق عزيمة، فقد دعاكم بعمله، وسار أمامكم في طريقه، فكان من واجبكم أن تقتدوا به، وتسيروا معه، هذا هو شأن من يرجو الله واليوم الآخر، ولا يغفل عن ذكر ربه.

فالأسوة الحسنة هو الداعي الذي يَهدي إلى الخير بقوله وبعمله وبخلقه، ويصور الفضيلة في صورة مشاهدة من أعماله وسيرته، ويقيم من تصرفه وسلوكه براهين على أنَّ ما يدعو إليه هو الحق، فهو يُري الناس الخير مصوَّراً، ولا يقتصر أن يروي لهم حديثه، ويسير أمامهم في طريق الهدى ولا يقتصر على أن يدلهم عليه.

والإنسان أشد تأثيراً بما يَراه، وأكثر اتعاظاً بما يشاهده، ومهما قلت للإنسان في الظلم وعاقبته لا تبلغ من نفسه ما تبلغه إذا أريته مصرع ظالم، ومهما قلت للإنسان في عقوق الوالدين لا تبلغ من نفسه ما تبلغه إذا أريته عاقاً حاق به البؤس وسوء الحال.

والأسوة الصالحة هو الداعي الصامت الذي يؤثر في النفوس في غيبته وفي حضرته، وفي حياته وبعد موته، في حياته يهدي بقوله وخلقه وعمله، وبعد موته يهدي بسيرته وذكراه وتاريخه.

وأعتقد أنَّ أهم الأسباب في أنَّ الدعوة إلى الخير والفضيلة لا تثمر في هذه الأمَّة الثمرة المرجوة، هو أنَّ أكثر هؤلاء الدعاة يقولون ما لا يفعلون، ويرى الناس من أفعالهم ما يريبهم في أقوالهم، يذمُّون الدنيا وهم يرضعونها أفاويق، ويعمرون موضع التصنُّع فيهم ومكانُ الإخلاص منهم خراب، وكثيرون منهم يأمرون الناس بالبر ويَنسون أنفسهم، وينهون الناس عن المنكر ويخالفونهم إلى ما يَنْهونهم عنه، حتى صار أكثر الناس لا يَعْبَأون بما يسمعون، ويقولون لو كان خيراً لسبقونا إليه، وكلما سمعوا من الداعي عظات وذكروا سيئة من سيئاته ذهب من نفوسهم أثر ما سمعوه، وكلما قرأوا مقالاً لباكٍ على الفضيلة ووازنوا قوله بما يعلمون من خلقه، انهار قوله وضاع أثره.

قديماً قال القائل: 

اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي = ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري

ولكن دلَّت التجارب والمشاهدات على أنَّ هذا القول خطأ، وعلى أنَّ الناس لا يثقون بعلم من لم يعمل بعلمه، ويتخذون من عمله دليلاً على أن لا نفع في علمه، لأنه لو كان علمه ينفع لكان أول من انتفع به.

والمريض بالرمد لا يطمئنُّ إلى أن يعالجه طبيب مريض بالرمد، ومن يشرب الخمر يهزأ الناس بدعوته إلى الانتهاء عن شرب الخمر، فأبلغ الدعاة تأثيراً هو من يؤيد فعلُه قولَه، وعملُه علمَه، وأما القول بغير عمل، والعلم بغير خلق، فهذا وبالٌ على قائله، ولا يثمر في الناس ثمرة، ومن هذا نفهم السرَّ في قوله تعالى: [كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ] {الصَّف:3}، وفي تنديده ببني إسرائيل بقوله: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ] {البقرة:44}.

إنَّ الإنسان مفطور على تقليد من يَراه فوقه، ومجاراة من يظنُّ أنَّه أرقى منه، لأنَّ الإنسان محبٌّ لذاته، وحريص على جلب الخير لنفسه، فهو يقدِّر أن تقليده لمن هو أرقى منه يوصله إلى مكانته، ويجعله في مستواه، ومن أجل هذا يُقلِّد الطفلُ أبويه وإخوته ومعلميه، وتقلد الأسرة الوسط الأسرة التي تراها أرقى منها، وتقلد الأمَّة الضعيفة الأمم القوية، وتسري العادات من الطبقات الراقية إلى الطبقات التي دونها، وتسري المبادئ من القوي إلى الضعيف على سنة الإنسان في المحاكاة والتقليد.

وعلى هذه السنة كان الناس على دين ملوكهم وكبرائهم وذوي المكانة فيهم، وكانت زلة العالم زلة للأمة، وسيئة ذي المكانة سيئة للجماعة؛ لأنَّ العالم إذا زلَّ يحاكَى في زلته، وذو المكانة إذا أساء يقلَّد في إساءته، فالصلاح ينحدر من أعلى إلى أسفل، والفساد ينحدر من أعلى إلى أسفل.

وقد قال بعض المستشرقين: إنَّ الصلاح في مصر عسير من ناحية أنَّ أكثر أنواع المفاسد فيها في الطبقات التي تعتبر راقية، وفي البيئات التي تعتبر مُثقَّفة، فسواد الأمَّة ليس أمامه مثل صالح ولا أسوة حسنة تقتدي به، ولو كانت الطبقات الراقية صالحة لكان الأملُ في إصلاح جمهور الأمَّة قوياً بالاقتداء بهم ومحاكاتهم.

والأمثلة على هذا من المشاهد في الأفراد والجماعات كثيرة:

إذا كانت القرية على رأسها عمدة مستقيم ذو دين، ترى روح استقامته وتديُّنه في أكثر أفراد قريته، وإذا كان على رأسها عُمْدة مُستهتر لا رادع له من دين أو ضمير، ترى روح الاستهتار سارية في أكثر أفراد قريته.

بعض الفرق في معاهد التعليم تسودها روحُ الجدِّ والاستقامة والتدين؛ لأنَّ الله تعالى منَّ عليهم بمدرس قوي الإيمان مُستقيم، وبعض الفرق تسودها روحُ الهزل والانصراف عن الخير والنفع؛ لأنَّ الله تعالى ابتلاهم بمدرسٍ هذه روحه.

بعض المدن يَنتشر فيها الميسر وشرب الخمر وكثير من المفاسد؛ لأنَّ كبار الموظفين بها مُبتلون بهذه العلل، وبعض المدن لا ينتشر فيها شيء من هذه المفاسد؛ لأنَّ فيها من كبار موظفيها من يمقتها.

هذا الذي بيَّناه من أثر الأسوة الحسنة وأثر الأسوة السيئة، يثبت لنا أننا خاطئون إذ نقتصر في مؤهلات الإنسان للعمل على شهاداته وكفاءته العلميَّة، ونكتفي في الناحية الخلقية بورقة شكلية لا تثبت شيئاً ولا تدلُّ على شيء، ولو أردنا الخير والإصلاح لكانت أولى وسائله العناية باختيار الأسوة الصالحة في المنزل ببثِّ روح الدين والخلق القويم في الآباء والأمهات بكل الطرق الممكنة، وفي المدرسة بتكوين الضمير الحي والقلب المؤمن في رجال التربية والتعليم، وفي المدن باختيار ذوي الاستقامة من العمد.

وثاني وسائله العناية بتطهير الأسر الراقية من العادات السيئة؛ لأنَّ سيئاتهم أمراض معدية والأمة تتابع فيها. 

وثالث وسائله العناية بأن يكون الدعاة والزعماء والخطباء وكل من يتصدَّون للدعوة إلى الخير والترغيب في الفضيلة قادة بأقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم وسيرتهم؛ لأنهم يكونون دعاة وهداة ونوراً بأقوالهم وبأفعالهم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الثاني، المجلد السادس، شوال1371، يونيه 1952 ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين