من صور جهاد طالب العلم

 

والجهاد والعلم والسلطان:

إن الجهاد هبة عظيمة من الله لعباده، يزدادون به تقرباً لخالقهم، ويرقون بأنفسهم أعلى الدرجات في الدنيا والآخرة، فيسعون لنشر الخير بين العباد.

وزاد الله تلك النعم بأن جعل للجهاد أنواعاً كثيرة، وصوراً متعددة، ليلحق بركب المجاهدين أكبر عدد من طلابه، ومن أنواعه السامية، الجهاد في سبيل طلب العلم.

وإن السلطان الحكيم يستعين في بناء البلاد على العلماء، لذلك فهو يدفع طالب العلم لنيل ما تسمو به روحه وتنتفع به بلده، فيشجعه على ذلك، بل ويجبره إن لزم الأمر، فإن ضَعُفَ السلطان تحكّمتْ بالدولة رؤوس جُهّالٌ أضلّوا العباد وخربّوا البلاد، وحاربوا العلم، وأفشوا الجهل في أنحاء المعمورة، وحبسوا طلاب العلم عن مرادهم.

وتركيا بلد إسلامي كريم، أتى عليها زمن صعب، ذاقت فيه مرارة الجهل والتخلف والقمع، بعد أن كانت تحكم ثلثي الأرض بحكم الله عز وجل فتنشر العلم وتشجع العلماء، فقد كانت مركزاً للخلافة الإسلامية العثمانية.

عصر الانقلابات في تركيا:

لقد مرت على بلد الخلافة العثمانية أوضاع سياسية رزيّة لا تُحسد عليها، كالانقلابات وحكم العسكر وتبعاتها في مصادرة الحريات ومحاربة الدين، والتضييق على طلاب العلم، وعلى كل من يفكر في التدين والعودة لأحكام القرآن والسنة.

ومن هذه الانقلابات انقلاب 28/شباط/1997، حيث استيقظ الأتراك في ذلك الصباح وكأن القيامة قد حلّت، فالجنود في الشوارع، والآليات العسكرية تسيطر على كل مفاصل الدولة، فقد أطاح هذا الانقلاب بحكومة نجم الدين أربكان المحسوب على التيار الإسلامي[1].

وقد تولى كِبرَ هذا الانقلاب الأميرال سالم درويش أوغلو، الذي زعم أن الانقلاب خطط له جماعةٌ سرية داخل الجيش التركي اسمها "جماعة دراسة الغرب"[2].

وكانت ممارسات هذا الانقلاب بعيدةً كل البعد عن الرحمة والكرامة والحرية، فقد صادرت حرية الشعب، بالخصوص الحرية الدينية، فلاحقت المتدينين، وأغلقت مدارس الأئمة والخطباء، وحاربت الحجاب.

المدارس التقليدية في تركيا:

ومن بين المدارس التركية التي جاهدت وعانت الكثير في سبيل البقاء، مدرسة الشيخ برهان الدين، التي كانت تعنى بتعليم اللغة العربية وعلومها من النحو والصرف والبلاغة، وتعتبر من المدارس التقليدية، التي ما زالت إلى وقتنا الحالي، وهي تهتم بطلاب العلم الأتراك والأكراد، فتُخرِّجُ الأساتذةَ والشيوخ، لينشروا العلوم العربية في أرجاء تركيا.

وهذه المدرسة تستقبل الطلاب من كل أنحاء تركيا، فيأتي الطالب مُقبلاً مُحباً للعلم، راغباً لِنَيل العلوم بِلَهفةٍ ونَهَمٍ دون تَردد، وتتولى المدرسة إضافةً إلى التعليم إطعامَ الطلابِ ومبيتهم، فقد ضمّت بين جَنَبَاتِهَا أكثرَ من ثلاثة مائة طالب.

عدنان ورحلة العلم:

ومن هؤلاء الطلاب المحبين للعربية وعلومها، العاشقين لفنونها ودروسها، الطالب عدنان ذاك الولد النجيب، فهو كردي الأصل، إزميتي[3] الولادة والنشأة، عربي الحب والهوى، فقد استجاب لجدته في تفضيل المدارس التقليدية على المدارس الحكومية، فاتجه إلى العاصمة أنقرة تاركاً أهله وأحبابه وبيته في عام 1996، مقبلاً على طلب العلم، وكان عمره حينها اثني عشر ربيعاً.

ولهذه المدرسة نظام خاص بها، حيث يكون دوام الطلاب شتاء في العاصمة أنقرة، بينما يداومون صيفاً في مدينة آفيون الواقعة غرب تركيا، وتبعد عن أنقرة 250كم.

التضييق على الإسلاميين والمدارس الدينية:

وأخذتْ الأوضاعُ السياسية في تركيا بالتوتر والاحتقان، فكان الإسلاميون في مرمى النار، حيث ضَيّق المتَنفِذُون على المسلمين الملتزمين في جميع شؤون الحياة، فقاموا بإغلاق الكثير من المدارس الدينية، ومن بينها مدرسة أنقرة التي ينتسب إليها عدنان، ولم يقتصر ذلك على إغلاق المدرسة، بل تجاوزه إلى ملاحقة الطلاب والشيوخ والقائمين على تلك المدارس، ففرَّ الطلاب من أنقرة إلى مدرسة أفيون هروباً من الشرطة، وإكمالاً لطريق العلم، فلا يفكر أحدهم في الرجوع إلى الوراء خطوة واحدة.

قصة الطالب اللص:

وكان الطلاب عادة في ليلة يوم العطلة يَسهَرون حتى الصباح، ثم يَغرقون في نوم عميق وكأنهم موتى إلى ما قبل صلاة الظهر، وفي تلك الأثناء قام طالب صغير (مستغلاً نوم الطلاب) بسرقة نقود الطلاب من جيوبهم وحقائبهم، ثم غادر المكان متوجهاً إلى السوق، لِيَنعَم بما معه من النقود.

وبعد أن قام الطلاب من سباتهم أصابهم الذهول بعد فَقْدِ النقود، وعلمهم بأن ذاك الطالب هو الفاعل، فأرسلوا من يقتص أخباره.

فَلَمَحَ الطالبان ذاك الولد في السوق يأكل ما لَذَّ وطاب، وعندما رأى الولدُ الطالبَين يتجهان إليه هرب فزعاً، وأوى إلى مقهى قريب، وأخذ بالصراخ قائلاً: النجدة النجدة يريد هؤلاء أخذي عُنوة إلى المدرسة الدينية وأنا لا أحبها، والناس في المقهى أكثرهم من الجُهّال والمقامرين، ولا عجب فجُلُّ هؤلاء من غير الملتزمين، وعندما سمعوا كلام ذاك الولد الملهوف قاموا سِراعاً بإغاثته وحمايته، وصدَّقوا دعواه الكاذبة، بل واتصلوا بدورية الشرطة، وعناصر الدورية يريدون كلمة واحدة على الإسلاميين الملتزمين ليزدادوا تنكيلاً بهم، وأخذ الولد يبكي ويصيح ويتكلم بكلام ليس له أصل، فيزيد الطينَ بَلَّة، ويجعل من الحبةِ قُبةً افتراءاً وتزويراً، وعناصر الشرطة كأنك حَككتَ لهم مكان الجَرَبِ[4]، ففرحوا بما يُدس ويُختلق من الولد فقالوا له: نعطيك لكل جوابٍ هدية، فطمَّعُوه وجعلوه يتكلم بالسوء على المدرسة والشيوخ والطلاب، وهكذا حتى ملأ رؤوسَ هؤلاء العسكر، فتحولوا إلى ثيران هائجةٍ قاصدين المدرسة، للبحث عن الأساتذة والطلاب، ليقتادوهم إلى السجن ويُنكِّلوا بهم.

مطاردة الطلاب والاحتماء في المسجد:

وهنا بدأت رحلة المطاردة، فهرب الطلاب من المدرسة وكانوا أكثر من مائة طالب، من مكان إلى مكان، ومن هؤلاء ذاك الطالب عدنان، الذي لم يكن معه نقود، بل ويلبس الخفيف من الثياب، حتى أن قدميه عاريتان فلا حذاء ولا جوارب تدفع عنه الأذى، إضافةً أنهُ وأقرانه جياع لم يأكلوا الطعام من اليوم السابق وهم يهربون من الجنود، حتى وجدوا مسجداً صغيراً قديماً، فدخلوا إليه يحتمون في داخله، وأمرهم كبيرهم ألا يُخرِجَ أحدهم رأسَه من النافذة، ولا يرفع صوته، ولا حتى يرفع ستار النوافذ كيلا ينتبه الجنود، وبعد غياب الشمس أحسّوا بصوت أقدام مُتجهةٍ نحوهم، فأسرعوا وانبطح الجميع، وتسللوا تحت سَجّادِ المسجد، فلمْ يظهر أحدٌ منهم، فالعتمة تَعمُّ المسجد، فإذا بالجنود يوجهون ضوء المصابيح اليدوية (البيل) على النوافذ ويتهامسون: هل يوجد أحدٌ هنا يا ترى؟! فينظر الآخر ويقول: أي أحمق سيأتي لهذا المسجد القديم؟! فلا يبدو أن هناك من لجأ لهذا المكان، وقَفَلُوا بالرجوع من حيث أتوا.

وبقي الطلاب حتى فجر اليوم التالي وهم يتضورون جوعاً، وأغلبهم يبكي لا يعرف ما الذي سيواجهه وكيف سيخرجون من هذه المحنة.

اللجوء إلى الوقف الاجتماعي:

عندها جاء مشرفهم في المدرسة وقال لهم: يجب أن نخرج من هنا إلى مكان آخر، فالجنود يتجولون في كل مكان، فخرجوا ومشوا مسافة كيلو متر تقريباً وهم حفاة، فوجدوا حافلة تنتظرهم فصعد الجميع، وبعد مسافة ليست بعيدة أمرهم بالنزول، لأنه سيكون هناك دورية أخرى بعد مسافة قصيرة، فصار الطلاب يَقذِفون أنفسَهم تباعاً والحافلة تمشي بهدوء دون أن تتوقف.

وفي مسيرهم التقوا بأكثر من شخص في الطريق، مهمتهم توجيه الطلاب إلى الطريق الصحيح، لكيلا يحظى بهم الجنود ويعتقلونهم، واستغرب الطلبةُ من هؤلاء الأدلّاء، فأحدهم يظهر كأنه سيد لأناقته وهيئته، وآخر بمظهر السكير المخمور، فهل هذه هي حقيقتهم، أو أنهم يتنكرون لمساعدة الطلاب؟!

وبعد أن سلكوا الطريق الـمُشار إليه، خَلَصُوا إلى وقفٍ اجتماعي[5]، فدخلوا إليه فإذا به ما يَحلمون به من الطعام والشراب والراحة التي لم يَنعموا بها منذ يومين.

وبعدها جاء مسؤول مدرستهم في أنقرة وقال لهم: الأوضاع تَسوء أكثر، فلا يوجد أمان هنا، يجب عليكم العودة لدياركم، وأعطى جميع الطلاب أجرة العودة لديارهم وأضعافها، وانطلق الطلاب يجدون الوسيلة للرجوع إلى أهلهم سالمين.

العودة إلى الأهل:

ذهب الطلاب إلى محطة الحافلات، فإذا الشرطة منتشرة بها، ثم توجهوا إلى محطة القطارات، فأخذ كل طالب تذكرة قاصداً المكان الذي يريده، وهكذا عاد عدنان إلى أهله سالماً، ومع ذلك فهو حزين لإغلاق المدرسة وحرمانه من العلم.

وبقي عدنان في إزميت (مسقط رأسه) قريباً من ثلاثة أشهر، فإذا بالمعلم يتصل بعدنان ويقول له: يا بني لقد أُغلقت جميع المدارس الدينية في تركيا، عدا مدرسة تِلُّو في إسعرت، فعليك أن تذهب إليها لتكمل تحصيلك العلمي.

السفر إلى تلّو في إسعرت:

لم يتأخر عدنان عن توجيه المعلم، فسافر إلى تِلُّو في اسعرت (وهي مدينة تقع في جنوب شرق تركيا)، وذهب إلى شيخ تِلُّو الشيخ برهان الدين المجاهدي، وهو عَلمٌ من أعلام التدريس والعطاء في اسعرت بل في كل تركيا، وقد سمعتُ عنه قصصاً في نشاطه وهمته وبركة وقته وحبه للعلم والتدريس ما لا يُصدق في هذا الزمن، الذي عزَّ فيه الجهاد ببذل العلم والتعلم، إلا من رحم ربي.

وصل الطالب عدنان مدرسة الشيخ برهان الدين، فدخل إلى غرفة الشيخ ليقابله ويأخذ الموافقة على قبوله في المدرسة، ولكن وللأسف أنه لم يحظى بالشيخ حيث كان في الحج، وابنه لا يستطيع قبول أي طالب حتى يعود والده.

السفر إلى مدينة وان:

فَكَّرَ عدنان ملياً وقال في نفسه: ماذا أفعل هنا فالوقت طويل حتى عودة الشيخ برهان الدين من الحج؟! فنوى الذهاب إلى مدينة وان التي تقع في شرق تركيا وتبعد 70 كيلو متر عن إسعرت، والتحق هناك بمدرسة تقليدية أيضاً وبقي فيها مدة ثلاثة شهور، وكان مكوثه فيها للانتظار فقط، فقلبه معلق بمدرسة اسعرت فهو ينتظر عودة الشيخ بفارغ الصبر.

ووصل التضييق من قبل الجنود وأعداء العلم للطلاب في مدرسة وان، فهرب الطلاب واختبأوا في حظيرة البقر لعدة ساعات، حتى علموا بذهاب دورية الجنود. وبعدها حَزَمَ عدنان أمتعته، وعاد إلى إسعرت ليقابل الشيخ برهان الدين.

قصة عدنان مع الشيخ برهان الدين:

وصل عدنان إلى المدرسة وكله أمل بأن يَنال موافقة الشيخ في متابعة طريقه العلمي الذي لم يبدأ به بعد، فدخل غرفة الشيخ برهان الدين، وجرت معه هذه القصة:

قال له الشيخ برهان الدين: يا ولد.. من أين أتيت؟

قال عدنان: من مدرسة أنقرة سيدي.

مباشرة ردَّ الشيخُ: مدرسة أنقرة ؟! لن تُقبل، فأنتم طلاب أنقرة تحبون الطعام والشراب والرفاهية والراحة، وهنا لا يوجد ما تطلبون، هيا اخرج وعد من حيث أتيت.

خرج عدنان مكسور الخاطر يطأطأ رأسه، لا يعرف ماذا يفعل، وقد أُغلق هذا الباب أيضاً في وجهه، فمكث في المدرسة يفكر، وفي كل ساعة يرقب الطلاب وهم يكتبون ويحفظون ويتذاكرون فتزيد الحرقة في قلبه، فيغبطهم على ما هم فيه من السعادة، وبقي على هذه الحال ثلاثة أيام في المدرسة، كما يقال: لا مُعلّق ولا مُطلّق، وإضافة إلى ذلك أنه لا يُسمح له بمذاكرة دروسه السابقة، لأنه ليس طالباً في المدرسة، بل هو ضّيف عندهم.

وبعد ثلاثة أيام رقَّ قلبُ معلمٍ من مُدرسي المدرسة فقال لعدنان يهمس بأذنه: عليك أن تُلح على الشيخ وتُصرّ عليه بأن يقبلك، ولا تخرج من مجلسه مهما جرى.

عاد عدنان إلى غرفة الشيخ فلما رآه الشيخ صرخ به: يا ولد ألم أقل لك ليس عندي لك مكان؟ هيا اخرج ولا تعد. وكان عند الشيخ برهان الدين ضيف شيخ ذو وقار وهيبة.

قال عدنان: سيدي.. والله لا أريد الطعام ولا الشراب، فلو أني أردت الطعام والشراب والراحة لوجدت ذلك في بيت أهلي، إنما أريد العلم فقط.

قال الشيخ: قلت لك ليس عندي مكان لك، فلدي ما يكفيني من الطلاب.

قال عدنان: شيخي الفاضل .. أنام في أي مكان على الأرض ودون فراش، فقط اقبلني.

فَرَنَّ الشيخُ الجرسَ للمشرف وناداه بصوت مرتفع: يا نديم ... تعال وأخرج هذا الأحمق من هنا.

فإذا بعدنان يتشبث بالأرض رافضاً الخروج، وينظر إلى الشيخ الضيف الذي يجلس عنده، يومئ إليه بنظرات حزينة تثير شفقته وعطفه، وتدفعه لطلب الشفاعة عند الشيخ برهان.

وفعلاً تدخّلَ ذلك الشيخ الضيف قائلاً: يا شيخ برهان الدين امتحنه أولاً، يظهر أنه طالب محب للعلم.

فلما عجز الشيخُ أمام إصرار عدنان قال له: إذا أمتحنك، فاستبشر عدنان خيراً، وقال: نعم سيدي أنا جاهز للامتحان.

فسأله ثلاثة أسئلة، سؤالين في الصرف وسؤال في الإلغاء والتعليق، فأجاب عن أسئلة الصرف، بينما أخفق في إجابة النحو.

فقال له الشيخ: عندك جوهر ولكن تحتاج لتمكين العلوم، ثم نظر إلى عدنان وزانه من فوق إلى تحت، فقال له: انظر يا ولد سأعطيك فرصة ستة أشهر فقط، أمتحنك خلالها وأختبرك فيها، واعلم أنك مراقب بكل تصرفاتك وحركاتك وسكناتك، وأي مخالفة مهما كانت صغيرة ستخرج بها من المدرسة فوراً.

وهنا لم يصدق عدنان أنه قُبِلَ في المدرسة من فرحته، وكأن الجنة فتحت أبوابها أمامه، فشعر بسعادة ما شعر بها من قبل، فقد كان ينتظر رداً كهذا بفارغ الصبر، وها قد أعطاه الله ما أراد، فكيف ستكون سيرة وتصرفات عدنان في طلبه للعلم بعد ذلك؟

المثابرة في الدروس والحذر من المخالفة:

يقول عدنان: والله .. من خوفي من هؤلاء الطلاب المخبرين، الذين يرفعون أخبار التلاميذ تباعاً إلى الأستاذ المشرف، صِرتُ لا ألتفت يميناً أو يساراً، ولا أكلم أحداً في شر ولا في خير، حتى أنني عزمت ألا أرد سلام أيضاً خشية من أي وشاية عني، وهكذا مَرّتْ الأيام والأسابيع وأنا في المدرسة، أتابع دروسي دون إهمال أو كسل أو تدخّل بأحد.

حمام السوق:

يقول عدنان: ومضى عليَّ ثلاثة وثمانون يوماً وأنا في المدرسة دون أن أفارق جدرانها، وقد زادت سَماكةُ جلدي من قلة الاستحمام، والجو في إسعرت حار وكان فصل الصيف أيضاً، وكرهت نفسي بسبب رائحتي لقلة الاغتسال، وعدم غسل الثياب، وذلك لقلة الماء، فماذا أفعل ؟! وحتى أتخلّص من رائحة التعرّق كنت أسكب المِسكَ في ثيابي على بدني سكباً فتختلط رائحة المسك برائحة العرق فتغدو أسوء مما كانت عليه.

وفكرت بخطة أخرج بها من المدرسة، فذهبت إلى المسؤول وقلت له: أريد الذهاب إلى المدينة لأعالج سِنّي، (علماً أنه ما به من ألم)، وأعطاني ما أريد، وعندما وصلت السوق أسرعت إلى حمام السوق، ودخلت القسم الحار منه، وبدأتْ الحربُ، وكأنني في معركة تعذيب ذاتي، فأخذت بالتدليك والتليف حتى كاد ينسلخ الجلدُ عن اللحم، بل حتى كاد يظهر العظم، ثم تعاركت مع ثيابي وأنا أغسلها لتصبح نظيفة فقد نسيت لونها الأصلي، وبقيت في الحمام أكثر من ثلاث ساعات، وعندما خرجتُ منه ظهرتُ كأنني "شوندر سكري" من احمرار جسمي، وقال: والله عندما وضعتُ قدمي على الأرض لم أشعر بأنني ألمسها، وكأنني أصبحت خفيفاً أو شفافاً أو روحاً بلا جسم من الخفة والنظافة.

ثم قصدت المطعم وأكلت ما لذ من اللحم حتى أوشكت على الانفجار، وقال: والله لقد كان جسمي في الماضي نصف جسمي الآن (الوقت الذي يحكي فيه القصة) حتى أن بطني أوشك أن يلامس ظهري من قلة الطعام.

المصابرة والمجاهدة:

لقد كابد وعانى هذا الطالب كغيره من الطلاب الصادقين في سبيل نيل ما سعى إليه (ولا نزكي على الله أحداً)، فمكث ست سنوات في تِلُّو بعيداً عن أهله، حيث كان الطالب يحصل على الإذن لزيارة العائلة خمسة عشرة يوماً كل ستة أشهر، بينما ذكر لي عدنان أنه بقي سنتين وأربعة أشهر دون أي زيارة أو رؤية لوالديه وأخوته وبلده.

فسألته عن السبب فقال: لقد خشيت عندما أذهب وأرى عائلتي وبيتي وأقاربي وأصدقائي أن أُصابَ بشيء من الخمول والكسل، فأركن إلى نفسي وأعطيها ما تريد وتهوى، فنويت ألا أذهب إلى إزميت حتى أنهلَ المزيد من العلم، وأوثق صلتي بشيخي وأساتذتي وأصدقائي، وليتمكن قلبي من التمسك بالكتاب أكثر.

وتذكرني هذه القصة الطيبة في المجاهدة بطلب العلم، بقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

اصـبر على مُــرّ الجـفا من معلم فإن رســـــــــــــــــــــوب العلم في نفراته

ومن لم يذق ذل التعلم ســــاعة تجرع كأس الجهل طــــــول حياته

ومن فاته التعليم وقت شـــــــــبابه فكــــــــبر عــــــــليه أربعــــــــــــــــــــــاً لـــوفاته

وذات الفتى والله بالعلم والتقى إذا لم يــــكـــــونـــــــا لا اعتبار لذاته

الشيخ عدنان:

أما الآن فقد غدا ذاك الولد الصغير النجيب عدنان مديراُ وشيخاً ومعلماً بارعاً في مدرسة شرعية مباركة، يُعلِّم حفاظ كتاب الله عز وجل اللغة العربية من صرف ونحو وبلاغة وغيرها من العلوم الإسلامية، فيقوم على ترغيبهم في تعلم لغة القرآن، ولسان النبي صلى الله عليه وسلم، ولغة الصحابة والعلوم الإسلامية، ويسقيهم من ذاك النبع الذي شرب منه حتى ارتوى، بعدما نال الإجازة من شيخه برهان الدين المجاهدي التِلّوي حفظه الله في سنة 2004.

وأخيراً أقول:

على طالب العلم الصادق إلا يجزع من أي عقبات وعراقيل تصادف طريقه في التحصيل، فبمقدار المكابدة على تلك الصعاب، والصبر على أهواله وأعبائه، يكون التلذذ بالنتيجة الطيبة مكافأة على ما قدّم، وقد سمعت من والدتي حفظها الله تعالى: "من لم يتعب في طهي طعامه، فلن يجد اللذة في مذاقه". ويقول الشاعر أبو القاسم الشابي:

 ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر

وهذه القصة إنما رويتها هنا لتكون منارة دالة لكل طالب علم، تنير دَربَهُ، وتُسهِّل طريقه، وتشجعه إن صادف عقبة في طريقه، ولسان حالِها يقول: يا طالب العلم أقبلْ على العلم بإخلاص وصدق، وستنال ما تريد حتماً عاجلاً أم آجلاً، فمن جَدَّ وَجَد، ومن سار على الدرب وصل، فلا تتعب ولا تمل، ولا تركن لنفسك طرفة عين، فإن وقعت فلا تستسلم وقف مرة أخرى، فالتجارب علوم لا تقلل من شأنها، وفوق كل ذلك تمسك بحبل الله المتين وتوكل عليه، وستُعطى ما تريد وزيادة.

وقد سمعت هذه القصة الطيبة من صديقي وأخي الأستاذ عدنان كالاي الموشي حفظه الله تعالى، بينما كنا في رحلة نتجاذب الحديث ونروي القصص لنخفف من عناء السفر، وأحببت أن تستمتعوا بهذه القصة وتأخذوا العبرة كما استمتعتُ بها، فلا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

والحمد لله رب العالمين

[1] موقع ترك برس نشر في 29/شباط/2016.

[2] المرجع السابق.

[3] إزميت: مدينة تركية تقع شمال غرب تركيا وتبعد عن استانبول 100 كيلو متر.

[4] مرض جلدي.

[5] يشبه الجمعية الخيرية.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين