إيمان العلماء

 

للفيلسوف الكبير (باكون) الإنجليزي مؤسس الدستور العلمي كلمة يتمثَّل بها العلماء كلما رأوا شذوذاً من بعضِ الباحثين في الطبيعة عن الإيمان بالله تعالى، وهي قوله: (علوم الطبيعة إذا رشفت بأطراف الشفاه أبعدت عن الله، وإن شربت عباً أوصلت إليه).

نعم: من الباحثين في الطبيعة من يقفون مع الظواهر، ويعمون عن القوى الباطنة التي تحركها، وتقودها إلى الأغراض التي خلقت لها، ولقد يعتريهم من الزهو والخيلاء ما يوهمهم أنهم أدركوا العلل الأولية لتلك الظواهر، وهم في الواقع لم يروا إلا مظاهرها فوقع كثير منهم في الضلال، فملأوا الجواء بمزاعم باطلة، ذهبوا بها مذاهب لا تتفق والبدهيات التي لا يجوز أن يعمى عنها من له بصر نافذ، وعقل ناضج، حتى لوَّثوا العلم الطبيعي بما هو مُنزَّه عنه في الحقيقة من التهم التي ليس لها أساس.

وقد كان أكثر ما مُنوا بهذا الداء الناجس من قصر النظر في القرنين الثامن والتاسع عشر، وكان أكبر ما رُمي بهم في هذه الحمأة لقصور العلم الطبيعي في الأجيال التي كانوا عائشين فيها.

من أمثلة ذلك ما نشره في سنة (1770) الأستاذ (البارون هولباخ) الألماني في كتابه (نظام الطبيعة) وهو قوله: (إنَّ العالم كله مادة وحركة، وسلسلة أسباب ومسببات لا تنتهي عند حد، وإنَّ المادة والحركة أزليتان، وإنه ليس في الطبيعة أمر عجيب إلا للذين لم يدرسوها حق دراستها، وإنَّ الحسن والقبح اعتباريان في الوجود مثل النظام والاتفاق فيه).

فالناظر في هذا القول من الذين لهم إلمام بالعلم الطبيعي الحديث، وبما جد من المكتشفات فيه، يدرك لأول وهلة أنَّ السبب فيه تسرع (البارون هولباخ) في الحكم على ما لم يكن يعلم من حقيقة المادة وحقيقة نظام الكون، فقد استند في إلحاده إلى ما كان يذهب إليه علماء عصره من أنَّ المادة والحركة أزليتان، وقد تحكم هذا الرأي في القرن العشرين، وثبت أنَّ المادة ليست بأزليَّة، وأنها تؤول إلى قوة محضة تلحق بقوى الكون العامَّة، وأنها ليست مؤلَّفة من جواهر صلبة ولكن من حركة زوبعية حاصلة في الأثير، كما قررنا ذلك في مقالة سابقة هنا، فالذي دعا (البارون هولباخ) لقول ما قاله هو: الجهل، والاعتماد على الجهل في مثل هذا الموطن الدقيق ليس من التحفُّظ الخليق بأهل التثبُّت، وأدخل في الجهل من هذا قوله: إنَّ الطبيعة ليس فيها من عجيب إلا للذين لم يدرسوها، وسنسرد عليك من أقوال أئمتها المعاصرين بعدما اكتشف من ظواهرها ما اكتشف أنها من العجب بحيث تحتقر علومهم بإزاء أصغر حوادثها.

ومن أمثلة ذلك أيضاً ما نشره الفيلسوف (ديدرو) الفرنسي في كتابه (المادة والحركة) حوالي سنة (1750) وهو قوله: (إنَّ ما نراه من خروج كائن حي من البيضة بواسطة الحرارة وحدها ينقض كل تعاليم اللاهوتيين، ويهدم كل هياكل الأرض).

فكان يتخيَّل الفيلسوف (يدرو) أنَّ ذلك الكائن الحي يتولَّد في باطن البيضة تولداً ذاتياً بوساطة الحرارة، ولو عاش إلى أن نبغ الأستاذ (باستور) الفرنسي لما قال مثل هذا القول الذي خيل إليه أنه ينقض جميع التعاليم اللاهوتية، ويهدم جميع معابد الأرض، فقد أثبت باستور هذا أنَّ الحي لا يتولد من حي، وأن التولد الذاتي محال، فإذا كان الحي يخرج من البيضة فقد ثبت وجود جرثومة حية ميكروسكوبية فيه تنمو بالحرارة المناسبة، وتغتذي مما حولها من المواد المشمولة في البيضة حتى يتم تكوينها، ثم تخرج فتسعى لحياتها مع مثيلاتها اللاتي من نوعها.

فهذا القول أيضاً قد ورَّطه فيه الجهل بهذه الحقائق العلمية التي يعرفها اليوم تلاميذ المدارس، فلو كان تحلى بفضيلة التثبت لما ألقى بمثل هذه التأكيدات جزافاً لتصبح خرافة من الخرافات المضحكة في أجيال أخرى تأتي بعد الجيل الذي نشأ فيه.

وقد وقع في مثل هذا التسرُّع علماء من الذين خَلَّد تاريخ الفلسفة أسماءهم، ومن أمثلهم الفيلسوف الكبير (أوجست كومت) الفرنسي واضع الفلسفة الوضعيَّة وعلم العمران، فقد ذكر في عرض كلامه على ما يمكن الإنسان اكتشافه وما لا يمكن، أنَّ من المحال أن يكتشف الإنسان المادَّة التي تتراكب منها الكواكب، فاتفق أنَّه بعدما توفي بخمس سنين فقط اكتشف أحد الطبيعيين آلة التحليل الطيفي المسماة بالسبكتروسكوب، فأثبت بها أنَّ المواد الداخلة في تركيب الأجرام السماويَّة هي المواد نفسها الداخلة في تركيب الأرض، أي أنها: الصوديوم والبوتاسيوم والمغنيسيوم، والحديد والرصاص...الخ.

ويحسن بنا هنا أن نورد بعض أقوال علماء الطبيعة المعاصرين لنا في سمو نظام الوجود، وفي عجزهم عن إدراك القوى التي تعمل فيه، وفي حيرتهم في فهم عجائبه وإبداعاته، وهي أقوال يجب أن توضع حيال أقوال أولئك الملحدين الذين تقدَّموهم، وينقلها بعض الذين يلفون لفهم من الأغرار اليوم.

وما يدرون أنهم يحيون بذلك عهداً أراد الله تعالى أن لا يعود بعد أن منح الناس من البينات العلميَّة ما لا قِبَل لأحد على طمسه، قال الأستاذ (بيو) في كتابه (شذرات علمية وأدبية): (بقدر ما أتدبَّر في نظام هذا الوجود وسعته، وفي جملة عجائبه، أعجب من هذا الإبداع المدهش، وأراني عاجزاً عن تعليله، و إني لأتجاسر على القول بأن تلك التفسيرات الناقصة، والتعليلات الكاذبة أو المبهمة التي يريد أن يقنعنا بها بعض الكُتَّاب المعاصرين باعتبار أنَّها مدارك سامية، لا تظهر مجحفة وتافهة إلا إذا قوبلت بالطبيعة نفسها، وإن الذين تشرَّفوا بإدراك بعض جمالها وتذوقوه وجدوا أنفسهم مرغمين على أن يعتبروا الذين يريدون أن يشوِّهوا هذا الجمال بتدليسهم القبيح كفاراً مُلحدين).

وقال الفيلسوف الإنجليزي المشهور (ستوارميل) كما نقله عنه (اللورد أفبري) في كتابه ثمرة الحياة: (تبدو لنا الحياة الإنسانية محاطة بغوامض الأسرار، فترى دائرة تجاربنا الضيقة كأنها جزيرة صغيرة ضالة في بحر لا نهاية له يرفع إحساساتنا، ويساعد قوتنا التصورية بعظمته وجلاله، ويزيد ذلك السر غموضاً أنَّ مجال حياتنا الدنيا ليس كجزيرة في فضاء غير متناه فحسب، ولكن في زمان غير مُتناهٍ أيضاً)

وقال العلامة (أوليفر لودج) عميد جامعة برمنجهام في إنجلترا من خطبة خطبها في جمعيَّة تقدُّم العلوم: (إنَّ الذي نعلمه ليس بشيء في جانب ما يجب علينا أن نتعلَّمه، قد يقول ذلك بعضهم بغير عقيدة راسخة، أما بالنسبة لي أنا فهي الحقيقة الحرفيَّة، ثم إنَّ إرادة قصر مباحثنا على المجالات التي افتتحناها نصف افتتاح، يعتبر خيانة لعهود الرجال الذين كافحوا للحصول على حرية البحث، وتخييباً لأقدس آمال العلم).

وقال الأستاذ (كاميل فلامريون) الفلكي الفرنسي المشهور في كتابه (المجهول والمسائل النفسيَّة): (ليس لنا علم مطلق بشيء من الأشياء، فكل مَعارفنا نسبيَّة أي ناقصة وقاصرة، فالعقل العلمي يوجب علينا أن نتحفَّظ في إنكاراتنا، ولنا الحق في أن نكون مُتواضعين ولنقل مع (أراغوا): (إنَّ الشك لدليل على التواضع، وما أضرَّ بتقدم العلوم إلا نادراً) ولكنا لا نستطيع أن نقول مثل هذا القول عن الإنكار المطلق.

(إنَّ الذين يقولون حاشانا أن نصدِّق هذه المستحيلات، لا لا، نحن لا نصدق إلا نواميس الطبيعة وهذه النواميس معروفة، هؤلاء يشبهون تماماً الجغرافيين الذين كانوا يكتبون على خرائطهم عندما يصلون في رسمهم إلى جبل طارق هذه العبارة: (هنا تنتهي الدنيا)، ولم يعرفوا أنَّ في تلك الشقة القريبة المجهولة يوجد من الأرض ضعف ما كان يعلمه أولئك الجغرافيون الجسورون في ذلك الحين.

(ألا إن كل ما نعرفه من العلوم الإنسانيَّة يمكن أن يشبه بجزيرة صغيرة، صغيرة للحد الأقصى، محاطة بإقيانوس لا ساحل له) انتهى.

نقول: إنَّ هذا القدر الكبير من التبصُّر ما وصل إليه الباحثون في الكون إلا بعدما تبحَّروا في العلم، وأدَّاهم تبحُّرهم نفسه إلى أنهم لا يزالون لا يعلمون شيئاً. 

من أحسن ما سجَّله في هذا الباب الأستاذ الكبير من أركان العلم العصري وهو السير (وليم كروكس) الإنجليزي الذي تولى رياسة جمعية العلماء البريطانية قوله في خطبة له: (من بين جميع الصفات التي عاونتني في مباحثي النفسيَّة، وذللت لي طرق اكتشافاتي الطبيعيَّة، وكانت تلك الاكتشافات أحياناً غير مُنتظرة، قلت: من تلك الصفات اعتقادي الصحيح الراسخ بجهلي، وأكثر الذين يدرسون الطبيعة يستحيل أمرهم عاجلاً أو آجلاً إلى إهمالهم الكلي لجانب عظيم من رأس مالهم العلمي المزعوم، لأنَّهم يرون أنَّ رأس مالهم هذا وهمي محض).

ألا تعجب بعد هذه الأقوال أن ترى رجالاً لا يصلحون أن يكونوا تلاميذ لهؤلاء العلماء يتناولون الكون والكونيات بالإجمال والتفصيل، ويبتون في أحكامهم عليها كأنهم وضعوها بأيديهم؟!: [مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا] {الكهف:51} 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة نور الإسلام، محرم 1353 - العدد 41).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين