فتح مكة ومظاهر عفو رسول الله وسماحته مع أعدائه -3-

 

وبعد ذلك أمر مناديا ينادي بمكة من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره، فكسرت الأصنام التي كانت في بيوتهم جميعها، والأصنام التي كانت حول الكعبة، كما  بعث رسول اللّه سرايا لكسر الأصنام المنتشرة حول مكة, وطهرت بذلك مكة من الأوثان والأصنام، وكل ما يعبد من دون الله تعالى، وصارت العاصمة المقدسة الأولى عند المسلمين ..

ووجود الأصنام داخل الكعبة وحولها من أعظم المنكرات التي يجب تغييرها، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركها حتى حانت الفرصة المناسبة، فلعنا نتعلم من ذلك أن تغيير المنكر ـ ونحن مأمورون به ـ يحتاج لتأن وتمهل؛ كي لا يجلب ضررا أشد منه ، وليس ما حصل لأمتنا نتيجة إقبال بعض المتحمسين لهذا الأمر عنا ببعيد؛ إذ جلب لأمتنا المشاكل التي لا تجد إلى الخلاص منها سبيلا .

وأما الذين أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم قبل الفتح فمن أُدرك منهم فقد قتل ( ولم يتجاوزا أربعة نفر، ومن اختفى منهم وأرسل يسأله العفو فقد عفا عنه، فما استشفع في أحد منهم قبل الوصول إليه إلا وعفا عنه، ومن جاءه مسلما قبل أن يعثر عليه عفا عنه أيضا، مع إن جرائمهم في حقه كانت من الفظاعة بحيث لا يمكن تناسيها، ولكنه رسول الله ونبي الإسلام الذي جاء ليعلم البشرية في طور نضجها كيف تعفو وتصفح، ولننظر إلى مواقفه مع بعض هؤلاء .

ـ هذا صفوان بن أمية كان من أشد الناس عداوة وأذية له والمسلمين، ودبّر أكثر من مؤامرة لاغتياله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوم الفتح اختفى، ثم خرج فارا إلي ساحل البحر الأحمر؛ ظنا منه أن ذلك أفضل من الوقوع في أيدي رسول الله، فذهب ابن عمه عمير بن وهب الجمحي إلى رسول الله، وقال: يا نبي اللّه إن صفوان سيد قومه، وقد هرب ليقذف نفسه في البحر،فأمنه فإنك أمنت الأحمر والأسود.

فقال له صلى الله عليه وسلم: "أدرك ابن عمك فهو آمن، فقال له: أعطني آية يعرف بها أمانك، فأعطاه صلى اللّه عليه وسلم عمامته التي دخل بها مكة، فلحقه بجدة وهو يبحث عن سفينة يركبها، فقال له صفوان: اغرب عني لا تكلمني، فقال: يا صفوان فداك أبي وأمي، جئتك من عند أفضل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، وهو ابن عمك عزه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك، قال: إني أخافه على نفسي، فقال عمير :هو أحلم من ذلك وأكرم، وأراه العمامة التي جاء بها، فرجع معه حتى وقف على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: إن هذا يزعم أنك أمنتني، فقال: صدق ..( الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء 1/ 508)..

ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بتأمينه والعفو عنه، وإنما ظل يترفق ويتودد به حتى يسل ما في قلبه ،فقد أعطاه بعد غزوة حنين ثلاثمائة من الإبل وأموالا أخرى ،وكان لذلك أبلغ الأثر في قلبه، حتى قال: إن الملوك لا تطيب نفوسها بمثل هذا، ما طابت نفس أحد قط بمثل هذا إلا نبي، أشهد ألا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه، فأسلم وحسن إسلامه.

ـ وهذا عكرمة بن أبي جهل قد ورث العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيه، وظل في عناده حتى آخر ساعة قبيل فتح مكة، حيث كان ـ كما ذكرت من قبل ـ ممن جمع بواقي المشركين ليتصدى بهم لخالد بن الوليد عند فتح مكة، فلما دخل رسول الله مكة فر إلى اليمن، فجاءت زوجته بعد إسلامها إليه صلى الله عليه وسلم، وطلبت منه أن يعفو عنه، ويؤمنه فاستجاب لها، فَخرجت تبحث عنه حتى لحقت بهَ، وسألته أن يعود معها فرفض، فجعلت تلح عليه وتقول: ابن عم جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك، فَقال: أخشاه على نفسي، فقالت: إني قد استأمنته لك، فقال: أنت فعلت؟ قالت: نعم أنا كلمته فأمنك، فقال: وكيف يؤمنني وقد صنعنا به أنا وأبي ما صنعناه؟ فقالت: بلى .إنه خير الناس..

فرجع معها ولما دنا من مكة، قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم لأصحابه: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحيّ ولا يبلغ الميت.. ( المقريزي: إمتاع الأسماع 14/ 5).

وفي مكة اتجهت به زوجه إلى حيث يقيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منتقبة، فاستأذنت عليه ودخلت فأخبرته بقدوم عكرمة فاستبشر صلى الله عليه وسلم، ووثب قائما على قدميه فرحا بقدومه، وقال لها :أدخليه فدخل فلما رآه قال: مرحبا بالراكب المهاجر، ثم جلس النبي صلى الله عليه وسلم وجاء عكرمة حتى وقف بحذائه، فقال: يا محمد إنّ هذه أخبرتني أنك أمنتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقت فإنك آمن" .

ولم ينتظر عكرمة بعد تلك الحفاوة أن يعرض عليه رسول الله الإسلام، وإنما أسرع قائلا: أشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك عبد الله ورسوله، ثم طأطأ رأسه من الحياء، وقال: أنت أبرّ الناس وأوفى الناس ..

وكما فعل مع سلفه صفوان قال له: "يا عكرمة ما تسألني شيئا أقدر عليه إلا أعطيتكه "فترك عكرمة الدنيا التي طالما عاند من أجلها، وجعل همه طلب الآخرة فقال: استغفر لي كل عداوة عاديتكها أو مركب وضعت فيه أريد به إظهار الشرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لعكرمة كل عداوة عادانيها أو منطق تكلم به أو مركب وضع فيه يريد أن يصدّ عن سبيلك "..

فقال: يا رسول الله مرني بخير ما تعلم فأعمله قال: قل أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله وجاهد في سبيله" . 

ولم يكن عكرمة بعد تلك المعاملة النبيلة من رسول الله يحتاج لأكثر من تلك النصيحة الموجزة ليتحول إلى طود شامخ في نصرة الإسلام؛ حتى قال: "أما والله ما تركت نفقة كنت أنفقها في صدِّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفيها في سبيل الله، ولا قتالا كنت أقاتل في صدِّ عن سبيل الله إلا أنكيت ضعفه في سبيل الله" ووفي بما قال حتى قتل شهيدا يوم اليرموك بأجنادين في خلافة أبى بكر الصدّيق ـ رضي الله عنه ـ وقد وجدوا فيه بضعا وسبعين إصابة ما بين ضربة وطعنة ورمية.(حسين بن محمد بن الحسن الدِّيار بَكْري:  تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس (2/ 92)..

وهذا سهيل بن عمرو أحد صناديد قريش الذي أصر على ألا تكتب عبارة رسول الله في صلح الحديبية، وأن يكتب فقط " محمد بن عبد الله " يقول: لما دخل رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم مكة وظهر انقحمت بيتي (أي رميت بنفسي فيه ) وأغلقت عليّ بابي، وأرسلت إلى ابني عبد اللَّه بن سهيل أن اطلب لي جوارا من محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنّي لا آمن أن أقتل، وجعلت أتذكر أثري عند محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه، فليس أحد أسوأ أثرا مني، وإني لقيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم الحديبيّة بما لم يلقه أحد، وكنت الّذي كاتبته مع حضوري بدرا وأحدا، وكلما تحركت قريش كنت فيها، فذهب عبد اللَّه بن سهيل إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللَّه أبي تؤمنه؟ فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم :نعم .هو آمن بأمان اللَّه- تعالى- فليظهر...فخرج عبد اللَّه إلى أبيه فخبره بمقالة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال سهيل :كان واللَّه برا صغيرا وكبيرا..( إمتاع الأسماع 13/ 386)..

وبقي فترة من الزمن على شركه دون أن يتعرض له أحد ثم أعلن إسلامه ،وصار بعدها من أكثر الصحابة اجتهادا في العبادة؛ حتى قيل :"لم يكن أحد من كبراء قريش الذين تأخر إسلامهم فأسلموا يوم فتح مكة أكثر صلاة ولا صوما ولا صدقة ولا أقبل على ما يعينه من أمر الآخرة من سهيل بن عمرو، حتى إن كان لقد شحب وتغيّر لونه، وكان كثير البكاء، رقيقا عند قراءة القرآن، لقد رئي يختلف إلى معاذ بن جبل يقرئه القرآن وهو يبكي حتى خرج معاذ من مكة، فقال له ضرار بن الخطاب: يا أبا يزيد تختلف إلى هذا الخزرجي يقرئك القرآن؟ ألا يكون اختلافك إلى رجل من قومك من قريش؟ فقال: يا ضرار هذا الذي صنع بنا ما صنع حتى سبقنا كلّ السبق، اختلف إليه فقد وضع الإسلام أمر الجاهلية ،ورفع الله أقواما بالإسلام كانوا في الجاهلية لا يذكرون، فليتنا كنا مع أولئك فتقدمنا". (تاريخ دمشق لابن عساكر 73/ 56).

ولم يكن إسلامه لنفسه فقط وإنما كان ـ كأسلافه ـ خير وبركة على الإسلام، وقد ظهر ذلك في كثير من مواقفه، من ذلك ما رواه ابن عساكر عن أبي عمرو بن عدي بن الحمراء الخزاعي أنه قال: "نظرت إلى سهيل بن عمرو يوم جاء نعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة، وقد تقلّد السيف ثم قام خطيبا بخطبة أبي بكر التي خطب بالمدينة، كأنه كان يسمعها فقال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، وقد نعى الله نبيكم إليكم، وهو بين أظهركم، ونعاكم إلى أنفسكم، فهو الموت حتى لا يبقى أحد، ألم تعلموا أن الله قال: "وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ"" كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ""كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ "فاتقوا الله، واعتصموا بذمتكم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم، وكلمة الله تامة، وإنّ الله ناصر من نصره، ومعزّ دينه، وقد جمعكم الله على خيركم. (تاريخ دمشق لابن عساكر 73/ 56 وما بعدها ).

ـ وهذا حويطب بن عبد العزى ظل يتنقل بعد الفتح من دار إلى أخرى؛ ليبحث له عن مكان آمن يختفي فيه، حتى انتهى إلى حديقة فاختبأ داخلها، وصادف أن دخل أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ هذه الحديقة لحاجته، فلما رآه حويطب هرب فناداه أبو ذر: تعالَ أَنت آمِن، فرجع إليه فسلم عليه، ثم قال: أنت آمن إن شئت أدخلتك على رسول، وإن شئت فاذهب إلى منزلك، قال: وهل من سبيل إلى منزلي؟ ألقى فأقتل قبل أن أصل إلى منزلي، أو يدخل علي منزلي فأقتل ،فقَالَ أبو ذر: فأنا أبلغ معك منزلك، فبلغ معه منزله، ثم جعل ينادي على بابه: إن حويطبا آمن فلا يهجم عليه ..(مغازي الواقدي 2/ 849)..

واستجاب المسلمون لطلب أبي ذر لأن نبي الإسلام علمهم أن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم، بمعنى أن أي مسلم يعطي لغيره عهدا لابد أن يحترم عهده من كل المسلمين، ولو كان عبدا ،ثم انصرف أبو ذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :"أَوَ لَيْسَ قَدْ أَمّنّا كُلّ النّاسِ ..." .

ومواقفه صلى الله عليه وسلم في العفو والصفح التي ظهرت خلال هذا الفتح العظيم كثيرة يضيق المقال بذكرها، ولكني اقتصرت على هؤلاء النفر؛ لأنهم قد ارتكبوا من الجرائم العظيمة في كفرهم ما يستوجب القتل لكن حلم وعفو وصفح رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعظم من جرمهم.

وفي الختام أسأل الله عز وجل أن يردنا جميعا إليه ردا جميلا؛ لنعلم ما غاب عنا من سمو رسالة الإسلام، وأن يرزقنا الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في العفو والصفح والتضحية بكل شيء في سبيل دينه، وأن يجعل ذكرى فتح مكة هذا العام بداية للتمكين للإسلام والمسلمين من جديد، بعد زوال الكرب الذي حل بنا نتيجة الاختلال في فهم رسالة الإسلام التي ظهرت بجلاء في هذا الفتح المبين .

المصدر :  موقع التاريخ

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين