أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها

أم سلمة، وما أدراك ما أم سلمة؟ إنها هند بنت أبي أمية.

أما أبوها أبو أمية بن المغيرة فسيّد من سادات بني مخزوم، وجواد من أجواد العرب، حتى إنه كان يقال له: (زاد الراكب) لأن الركبان كانت لا تتزود إذا قصدت منازله أو سارت في صحبته.

وأما أخوها فهو المهاجر بن أبي أمية. كان اسمه الوليد، فلما أسلم وهاجر سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجر.

وأما زوجها فعبد الله بن عبد الأسد، أحد العشرة السابقين إلى الإسلام، وقد أسلمت معه فكانت من السابقات إلى الإسلام.

وما إن شاع نبأ إسلامهما حتى هاجت قريش وبدأت تصبّ عليهما العذاب صبّاً، فلم يضعفا ولم يترددا. ولما اشتد عليهما العذاب كانا في طليعة من أذِنَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، وتركا بيتهما الباذخ، وعزهما الشامخ، في مكة يحتسبان ذلك عند الله.

ومع ما لقي الصحابة من تكريم عند النجاشي فقد كانوا يشتاقون إلى مكة مهبط الوحي. فلما سمعوا أن المسلمين في مكة قد زاد عددهم وقويت شوكتهم بعد إسلام حمزة وعمر... تركوا الحبشة وعادوا إلى مكة. لكن سرعان ما اكتشفوا أن قريشاً قد قابلت قوة المسلمين بقوة أكبر، وبطش أعنف.

ولما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة عزمت أم سلمة وزوجها على الهجرة وانطلقا على بعير، ومعهما طفلهما سلمة. وقبل أن يغادروا مكة كان بنو مخزوم قد وقفوا لهم على الطريق. فقالوا لأبي سلمة: أن كنت لا بد أن تهاجر فلن ندعك تأخذ معك أم سلمة. إنها ابنتنا ولن تغادر مكة!.

ثم وثبوا على أم سلمة وانتزعوها منه ومعها طفلها. وعندئذ قام بنو بعد الأسد (أهل زوجها) وغضبوا وقالوا: لا والله لا نترك الولد عند أم سلمة بعد أن انتزعتموها من صاحبنا انتزاعاً. فهو ابننا ونحن أحق به. وبدؤوا يتجاذبون الطفل حتى خلعوا يده وأخذوه.

وفي لحظات تفرقت الأسرة: أبو سلمة توجه إلى المدينة. وسلمة أخذه بنو عبد الأسد، وأم سلمة أخذها بنو مخزوم قومها.

وصارت أم سلمة تخرج كل صباح إلى المكان الذي شهد تلك المأساة فتبكي حتى يخيم الليل... وبقيت على ذلك نحو سنة حتى عطف عليها قلب أحد بني عمها فراح يستعطف أهلها ليَدَعوها تلحق بزوجها. ولكن كيف تلحق به وتدعُ ابنها في مكة؟!.

ورأى بعض الناس ما تعانيه من أحزان فرقّت قلوبهم وكلموا بني عبد الأسد حتى ردوا لها ولدها. وعندئذ ركبت بعيرها ومعها طفلها وانطلقت مهاجرة، وهيّأ الله لها رجلاً كريماً شهماً هو عثمان بن طلحة فقاد لها البعير، وحرسها من كل سوء حتى وصلت المدينة المنورة، والتقت زوجَها أبا سلمة.

وشهد أبو سلمة بدراً، ثم شهد أُحداً وجرح جرحاً بليغاً ثم عاوده الجرح والتهب... وبينما هو في فراش المرض أو الموت قال لزوجته: يا أم سلمة سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يصيب أحداً مصيبةٌ فيسترجع عند ذلك (أي يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون) ويقول: اللهم عندك احتسبت مصيبتي هذه. اللهم اخلفني خيراً منها، إلا أعطاه الله عز وجل". وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأغمض بيديه الشريفتين عينيه، ودعا له. وتذكرت أم سلمة ذلك الدعاء فدعت الله به، وتساءلت في نفسها: ومن عساه يكون خيراً من أبي سلمة؟!.

وحزن المسلمون لمصاب أم سلمة، وأطلقوا عليها اسم (أيّم العرب). [والأيِّم هي التي فقدت زوجها].

وتقدم أبو بكر الصديق لخطبة أم سلمة بعد أن فرغت من حدادها وعِدّتها، لكنها أبت. ثم تقدم عمر كذلك فردّته كما ردّت صاحبه.

ثم تقدّم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن فيّ صفات ثلاثاً: فأنا امرأة شديدة الغَيْرة فأخاف أن ترى مني شيئاً يغضبك فيعذّبني الله به. وأنا امرأة قد دخلت في السن، وأنا امرأة ذات عيال.

فقال صلى الله عليه وسلم: أما ما ذكرتِ من غَيرتك فإني أدعو الله عز وجل أن يُذهبها عنك. وأما ما ذكرتِ من السن فقد أصابني مثل ما أصابك، وأما ما ذكرتِ من العيال، فإنما عيالك عيالي.

وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم سلمة، فاستجاب الله دعاءها، وأخلفها خيراً من أبي سلمة. وصارت أمّاً للمؤمنين كلهم بعد أن كانت أماً لسلمة وحده.

وعاشت أم سلمة عند النبي صلى الله عليه وسلم زوجاً صالحة، وامرأة حكيمة عاقلة. ولقد صحبت النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية وكان لها دور عظيم في حسم فتنة كادت تحدث بعد أن عقد النبي صلى الله عليه وسلم الصلح مع قريش، وكان من مقتضى الصلح أن يعود المسلمون إلى المدينة ويتحللوا من إحرامهم ثم يعتمروا في العام المقبل. فقد كَبُرَ على المسلمين أن يُذْعِنوا لهذا الشرط ويتحللوا من إحرامهم ويحلقوا رؤوسهم من غير أن يعتمروا... واغتم النبي صلى الله عليهوسلم  لذلك، فدخل على أم سلمة وقال لها: "هلك المسلمون! أمرتهم فلم يمتثلوا!". فقالت: يا رسول الله اعذُرْهم فقد حمّلتَ نفسك أمراً عظيماً في الصلح، ورجع المسلمون من غير فتح فهُم لذلك مكروبون، ولكن اخرج يا رسول الله وابدأهم بما تريد... فتقدّم عليه الصلاة والسلام إلى هديه فنحره، ودعا بالحلاق فحلق رأسه، فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا...

وهكذا كان لعقل هذه السيدة الجليلة دور رائع في دفن فتنة وحسم مشكلة. رضي الله عنها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين