محمد بن القاسم الثقفي فاتح السند

 

البيئة الحربية:

نشأ محمد بن القاسم في بيت السيادة والقيادة الحربية، فأبوه القاسم أمير على البصرة، وعمه الحجاج والي العراق.

وكان العراق يموج بالحروب والفتن، وقد امتلأ الحجاج غيظًا من سيرة أهل الكوفة وأهل البصرة، وخاف على جند الشام فبنى لهم مدينة سماها: واسط.

في البصرة، يجتمع من كل جنس ولغة ولون من التجار، وفي البصرة أحاديث عن غرائب الهند وعجائب السند... عن نباتاتها وأشجارها وحيواناتها وأنهارها وبحارها...

وشب الفتى على سماع صليل السيوف وغرائب الأخبار، وتلقى دروس استعمال السيف في المبارزة والفروسية والكر والفر.

أسباب فتح السند:

أسر القراصنة من أهل السند سفينة فيها عائلات مسلمة صاحت إحداهن مستغيثة: واحجاجاه.

وطبعًا مثل هذه الصرخة لا يمكن أن يحجبها عن أمير العراق الغيور أي شيء.

بعث الحجاج وفدًا إلى داهر ملك السند، يطلب منه أن يرد إليه النساء المسلمات، فاعتذر للوفد قائلًا لهم: إنهم لصوص البحر ولا أقدر عليهم، حينئذ قرر الحجاج أن يسترد النساء المسلمات بالطريقة التي يفهم بها العدو، فأعد جيشًا من ستة آلاف جندي وعين محمد بن القاسم أميرًا عليه.

أولى الفتوحات في السند:

تقدم محمد بن القاسم، ووراءه الجنود الشجعان، يحفزهم الإيمان لتنفيذ هذه المهمة الإسلامية لإنقاذ المسلمات من أيدي الكفار، بل وإنقاذ الكفار من عبادة العباد إلى عبادة الله.

أتى ابن القاسم إلى مدينة قنزبور ففتحها، ثم فتح مدينة أرمانبك، في طريقه إلى مدينة الديبل، وكْر اللصوص وموئل القراصنة، وهي كراتشي اليوم من مدن باكستان على البحر المحيط.

 

وكان الحجاج قد أرسل إليه أسطولًا في البحر، فالتقيا يوم الجمعة، كأنما كانا على ميعاد، فالتقى الجيشان برًا وبحرًا في الديبل.

وكان الخليفة الوليد بن عبد الملك، قد أرسل إلى محمد بن القاسم منجنيقه الخاص في المعارك التي يخوضها، يقال له العروس، وبلغ من ضخامته أن خمسمائة جندي كانوا يديرونه في ساعة الرمي، فنصبه مقابل الصنم الكبير وكانوا يسمونه: البُدّ. له في قلوب أهل المدينة موقع عجيب وتأثير غريب، يعظمونه ويقربون إليه القرابين، ويذبحون له الذبائح، وكانت المدينة مستديرة، وفيها سارية عالية عليها راية حمراء، إذا هبت الريح طافت بالمدينة المقدسة في دورانها، فتهفو إليها أفئدة الألوف المؤلفة من أهل المدينة وقد ركزت هذه السارية فوق بناء البد العظيم.

ركز جعونة الجندي المسؤول عن المنجنيق مقابل الصنم، وعليه السارية والراية فوقه، ورمى البد بحجر ضخم فانكسرت السارية وهوت الراية، فخاف المقاتلون واندفعوا خارج السور، وحملوا على المسلمين حملة اليائس، فتلقاهم ابن القاسم برجاله وردهم إلى داخل الأسوار محصورين، ثم صعد الجنود على سلالم وفتحوا الحصن بالقوة بعد أن طردوا المقاتلين إلى داخل البلد، واستمر القتال ثلاثة أيام لم يذوقوا فيها طعامًا ولا نومًا، وسقطت مدينة الديبل، مدينة الصنم وقراصنة البحر.

وتلقى القائد أسارى المسلمين بدموع الفرح، فردهم مع أهليهم إلى ديار المسلمين، وبنى في المدينة مسجدًا يرفع فيه التكبير لله وحده. كان ذلك في سنة 89هـ.

من نصر إلى نصر:

لم يكتف القائد بفك أسرى المسلمين، وتخليص المسلمات من أيدي الكفار، بل تابع خطاه ليفتح السند كلها ليخلص السند من القراصنة، ويخلص شعب السند من عبادة العباد إلى عبادة الله الذي لا إله غيره.

كان صدى سقوط مدينة الديبل بأيدي المسلمين كبيرًا في السند كلها، ولما تقدم الجيش الإسلامي الظافر في السند، كانت المدن تفتح أبوابها دون قتال وتقدم الميرة والأعلاف للخيول، وكان القائد لا يقصد مدينة إلا فتحت قلبها قبل أن تفتح أبوابها لما عرف عن القائد الشاب البطل وجيشه، من تسامح وأخلاق حتى في معاملة أعدائه، فأحبه كل من سمع به من أهل السند.

أرسل القائد إلى الحجاج أنه يلقى الفيلة في المعارك، فأمده بقوة عسكرية، كما أرسل إليه رؤوس سباع، ورؤوس فيلة، ورؤوس نمور صنعت لاستعمالها حيلة من حيل الحرب لترعب العدو.

 

أما الملك داهر ملك السند، فقد كان منصرفًا إلى جواريه وشرابه، يغنين له ويطربنه ويرقصن بين يديه على أنغام الموسيقا، وكان وراء نهر مهران، فعبر ابن القاسم بجيشه هذا النهر.

المعركة ومقتل داهر:

أعد داهر جيشًا قوامه خمسون ألف مقاتل، تتقدمه الفيلة كأنها القلاع المتحركة، وعلى ظهورها المقاتلون كأنهم الشياطين.

بدأ القتال حاميًا كأشد ما يكون، وقد ركزت الرماح على الفيلة تطعنها، وتفقأ عيونها، وتضرب خراطيمها، فكانت بلاء على جيش داهر، فنزل عنها ورأى أن الأرض أثبت من ظهر الفيلة، فترجل والمقاتلون الهنود حوله يدفعون عنه بما استطاعوا، فكنت لا تسمع إلا زعيق الفيلة وصهيل الخيول، وقعقعة السلاح، وصليل السيوف، وقصف الرماح، وصراخ الجرحى من الهنود وعويلهم، واستمر القتال ضاريًا كأن أسودًا تفتك بالأفيال وفياليها، والأفيال تعجن الهنود بأقدامها الغليظة عجنًا، والخيل تدوس البطون والأبدان والرؤوس، وتقدم داهر يلوح بترسه ويطوح بسيفه وحوله الهنود تحميه وتفدِّيه.

وكان في جيش المسلمين أبطال، واحد يعد بعشرة، وآخر يعد بمائة، وثالث يعد بألف، وكان من بين هؤلاء الأبطال القاسم بن عبد الله بن ثعلبة الطائي، سيفه صديء لا يروق منظره للعين، ولكنه إذا ضرب صار الضريب نصفين، هزه وقال: أنا الذي سأبارز القائد، وكان داهر يصول ويجول في ميدان المعركة، والمقاتلون في حركة دائبة، والغبار يحجب الضوء، ثم يسمح له، في هذا الجو العكر تقدم القاسم من داهر وكل منهم ينظر نظر الشزر إلى صاحبه، ثم هجما وكأن أسدين ضرغامين يصولان، ثم انقض القاسم بسيفه، خر داهر قتيلًا، فهرب جنده من كل وجه في كل الدروب فقال القاسم مفتخرًا:

الخيل تشهد يوم داهر والقنا *    * ومحمد بن القاسم بن محمد 

أني خرجت الجمع غير معرد  *   * حتى علوت عظيمهم بمهند 

فتركته تحت العجاج مجندلًا *       * متعفر الخدين غير موسد 

قصة غريبة:

توجه المسلمون إلى حصن أشبهار وحاكمه بهزدار فاستعصى عليهم، وبينما كان جندي يصلي لله وهو يحرس، جاء كلب وأمسك بجراب فيه خبز ولحم وانطلق به راكضًا، وفي الحال كان الجندي قد انتهى من صلاته فلحق بالكلب وتبع أثره يتعقبه، إذا بالكلب يدخل في ثغرة تؤدي إلى المدينة، نقل الخبر إلى قائده محمد بن القاسم فدخل المدينة ليلًا بجنوده من هذا المكان وفتحوا الأبواب وتدفق الجيش واحتل المدينة.

الطريق إلى ملتان:

تابع القائد مسيرته الجهادية إلى مدينة الملتان، وفيها البد الأعظم، وقد بلغ من ضخامته أن عدد سدنته بلغ ستة آلاف كاهن، ليقيموا الشعائر والمناسك البوذية.

حاصرهم الجيش الإسلامي فقاتلوه بشراسة مذهلة، ثم قطع عنهم الماء فعطشوا وخافوا ودخل الفاتحون المسلمون البلد، فإذا هم يصيبون ذهبًا جمعه أولائك الرهبان، فأمر القائد أن يجمع الذهب في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية أذرع، كل ذلك الذهب من جشع الرهبان واستغلال منصبهم الديني لابتزاز الناس كما يفعل اليوم القائمون على المزارات والقبور، وسميت الملتان: مدينة الذهب.

فتح جديد:

بقيت أمام بطل السند مدينة الكيرج، وملكها دوهر، وكان أشهر من داهر في ملكه وقوته وسلطانه، فأتاه ابن القاسم فاتحًا، وكان بينها اللقاء، وكانت الفيلة معقد آمال النصر لداهر مع كثافة جيشه وقوة بأس المقاتلين من جيشه

وبدأت الحرب.... لمع الأسنة، وبريق النصال، والصياح في الدفاع والهجوم، والفر والكر والزمزمة والكشكشة والبربرة وزعيق الفيلة وصراخ الهنود بلغاتهم وانخاء بعضهم وتشجيع بعض...كل ذلك لم يفد الكافرين شيئًا، فهزموا وقتل داهر وهناك هزت الحماسة الشاعر فقال مفتخرًا:

نحن قتلنا داهرًا ودوهرا ** والخيل تردي؛ منسرًا فمنسرا 

سد الإسكندر الكبير المكدوني:

وصل الجيش الإسلامي إلى سد الإسكندر الكبير المكدوني، وقد نفق الكثير من خيل المسلمين في هذه المنطقة.

الخل دواء الخيل:

كتب القائد إلى الحجاج أن خيل جيشه تنفق، وكان عند الحجاج طبيب بيطري حاذق فقال: هذا وباء الخيل، ودواؤه الخل، فأرسل الحجاج خمسة آلاف رأس خيل، وحمل ألفي بعير خلًّا في القُرَب، وأرسلها إلى القائد المظفر.

فسلام الله على محمد بن القاسم فاتح السند في الفاتحين

وسلام عليه في الخالين.

المصدر: موقع التاريخ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين