حجة الوداع وخطبة الوداع

 

بعد أن فتح الله للمسلمين مكة في السنة الثامنة للهجرة، فَرض عليهم حجَّ البيت الحرام، فقال تعالى: [وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا] {آل عمران:97}، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: (بُني الإسلام على خمس: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وإقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة، وصومِ رمضانَ وحجِّ البيت).

ولكن الحج الذي فرضه الله تعالى في القرآن جاء في القرآن مجملاً، فلم تفصِّل الآيات كيفية أدائه، ولا ترتيب مناسكه، ولا ما يُشترط له، والسُّنة النبوية الفعلية والقولية هي التي تكفلَّت بتفصيل ما أجمل القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم له تبيين ما جاء في القرآن مجملاً بقوله تعالى: [بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ] {النحل:44}، وكل بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم لمجمل في القرآن فهو عن الله تعالى، والمفروض على المسلم هو ما أمر به الله تعالى وبالبيان الذي بيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسلم يجب عليه أن يقيم الصلاة بالكيفية التي أقام بها الصلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يجب عليه أن يؤدي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت بالكيفيَّة التي أدَّى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفرائض، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صَلوا كما رأيتموني أصلي) وقال: (خذوا عني مناسككم).

ومما لا يعرف فيه خلاف بين المسلمين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حجَّ البيت بعد أن فُرض الحج إلا مرَّة واحدة في السنة العاشرة للهجرة، وذلك أنَّ الحج فُرض بعد فتح مكة في السنة الثامنة: ولما حجَّ المسلمون في السنة التاسعة للهجرة كان على رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولم يحجَّ معهم في تلك السنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل السبب في هذا أنَّ المشركين كانوا لا يَزالون مُستندين إلى صلح الحديبية، وكانوا يدخلون المسجد الحرام، ويطوفون بالبيت عُراة على عَادتهم في الجاهليَّة، ويباشرون حول الكعبة طقوسهم الوثنية، فالرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤجل حَجَّه عاماً حتى يتمَّ تطهير البيت الحرام من شعائر الوثنيَّة، ولهذا بَعث عليَّ بن أبي طالب مع أبي بكر رضي الله عنهم وأمره إذا اجتمع الناس بمنى يوم النحر أن يذيع فيهم رسالته التي تضمَّنت: أن لا يحجَّ بعد العام مُشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، وبتطهير الكعبة من الوثنيين ووثنياتهم، بعد أن طهَّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من أصنامهم وأوثانهم، خلصت الكعبة رمزاً لعبادة الله تعالى وحدَه، وعادت كما طهَّرها إبراهيم عليه السلام للطائفين والعاكفين والركَّع السجود، فلما جاء موسم الحج في السنة العاشرة للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس المسلمين لأداء فريضة الحج، وهذه هي الحجَّة الوحيدة التي حجَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها بيَّن مناسك الحج، وكيفية أدائه، وإليها مرجع المسلمين في تعرف أحكامه، وفيها خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبته الجامعة التي قرَّر فيها حقوق الإنسان، وأسمى مبادئ العدالة، وفي عصر يوم الجمعة يوم الوقوف بعرفة من هذه الحجَّة، أوحى الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا] {المائدة:3}. 

ولم تمضِ بعد هذه الحجَّة إلا بضع وثمانون يوماً وتوفي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا كانت حجَّته حجَّة الوداع، وخطبته فيها خطبة الوداع، وأنا أروي حديث حجة الوداع عن صحيح البخاري، وأشير إلى أهمِّ ما يُستنتج منه، ثم أروي حديث خطبة الوداع عن صحيح البخاري، وأشير إلى أهمِّ المبادئ التي قرَّرتها.

ومما أبادر فأنبِّه إليه أنَّ أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع وخطواته وحركاته ما كانت كلها مناسك تعبديَّة، وما كانت كلها من شعائر الحج التي يجب العمل بها على كل مسلم ليتم أداء فريضته؛ لأنَّ بعض الأعمال التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع صدرت عنه بوصفه إنساناً لا بوصفه رسولاً يفصل مناسك الحج، وبعضها صدر عنه اتفاقاً غير مُلتزم له، وبعضها صدر عنه اختياراً للأيسر والأهون في السير أو المبيت.

مثلاً: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامه بالمزدلفة بعد أن أفاض من عرفات، فلا يُعدُّ من السنن التي يطالَب كل حاج بأن يتَّبعها تناولُ الطعام بالمزدلفة، لأنَّ الأكل والشرب والنوم حاجات للإنسان بوصف أنَّه إنسان خاضعة لدواعيها فيه، من جوع أو ظمأ أو تعب.

ومثلاً: لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة طاف بالبيت سبعاً راكباً راحلته ومسَّ الركن بمِحجَنِه، فلا يعدُّ من سنن الحج أن يطوف الحاجُّ راكباً راحلته.

ومثلاً: لما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وسعى بين الصفا والمروة نزل بالحجون، فلا يعد من السنن أن ينزل الحاج بالحجون.

ومثلاً: ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم معه الهدي، ولهذا لم يَحل بعد أن سعى، فلا يعد من السنن أن يسوق الحاج الهدي، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهَدْي) وهذا يدل على أنَّ سَوق الهدي كان عملاً اتفاقياً لا تعبُّداً.

ومثلاً: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ليالي منى وقد استأذنه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن يبيتَ بمكَّة ليالي منى من أجل سقايته، فأذن له، ولو كان المبيت بمنى ليالي منى من أركان الحجِّ أو مُتمِّماته ما أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لعمِّه العباس رضي الله عنه أن يتركه، كما لا يأذن لأحد أن يترك طواف الزيارة أو الوقوف بعرفة.

فالواجب أن نفرق بين ما هو من مناسك الحج وشعائره التي لا يسوغ لمسلم أن يخالفها، وبين ما هو من الاتفاق أو مُقتضى الجِبِلَّة.

حجَّة الوداع:

روى البخاري عن عبدِ الله بنِ عباس رضي الله عنهما قال: (انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجَّل وادَّهن، ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيء من الأردية والأزُر تلبس إلا المزعفرة التي تردع على الجلد (1)، فأصبح بذي الحليفة ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهلَّ هو وأصحابه وقَلَّد بُدْنَهُ، وذلك لخمسٍ بَقِين من ذي القعدة، فقدم مكة لأربعِ ليالٍ خَلَوْنَ من ذي الحجَّة، فطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، ولم يَحِل لأنه ساق الهدي، ثم نزل بأعلى مكة عند الحجون وهو مُهلٌّ بالحج، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة، وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يقصروا ثم يُحلوا، وذلك لمن لم يكن معه بدَنة قَلَّدها، ومن كانت معه امرأته فهي له حلال، والطيب والثياب).

وأهم ما أَلفت إليه المسلمين من هذا الحديث أمران:

أولها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قدم مكة وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، نزل بأعلى مكة عند الحجون، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة، والحجون: جبل قريب من المعلى، وفي أول الطريق الموصلة إلى عرفة. ومعنى هذا: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفترة التي أقامها بمكة بين يوم وصوله إليها ويوم التروية، لم يقرب الكعبة، ولم يطفْ بالبيت، وقد ثبت في الصحيح أنَّه بعد نزوله من عرفة طاف بالبيت طواف الزيارة، وبعد انتهاء المناسك طاف بالبيت طواف الوداع. 

ولهذا أرى أنَّ الذين يكثرون الطواف بالبيت ليلاً ونهاراً لا يَسيرون على سُنن الرسول صلى الله عليه وسلم في حَجِّه، وأرى أنَّ الأحاديث التي يروونها في فضل الإكثار من الطواف لا تُعارض حديث حَجَّة الوداع، لأنَّ حديث حجة الوداع مُتواتر أو مشهور، فلا يعارضه حديث الآحاد، ولو كان الإكثار من الطواف من أفضل القربات كما يروون لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من تَقَرَّب به.

وشرَّاح السنَّة قالوا في تعليقهم على عبارة: ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة: أنَّ الحكمة في هذا التخفيف على أمته حتى لا يفرضوا على أنفسهم الإكثار من الطواف.

وثانيهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن طاف أصحابه بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، أمرهم أن يقصِّروا ثم يَحلوا، وذلك لمن لم يكن ساق الهدي، ومعنى هذا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من لم يكن ساق الهدي أن يحل ويتمتَّع بالعمرة إلى الحجِّ، لأنَّ في هذا ترفيهاً وتيسيراً وتمتعاً في الفترة بين يوم الوصول إلى مكة ويوم التروية، ولما أراد بعض أصحابه أن يشدِّدوا على أنفسهم ويبقوا محرمين إلى الحج، وقالوا له: كيف نجعلها مُتعة وقد سمينا الحج؟ قال لهم عليه الصلاة والسلام: افعلوا ما أمرتكم فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله. 

ولهذا أرى أنَّ الذين يشددون على أنفسهم ويختارون من الطقوس أشقها، ويزعمون أنَّ الثواب على قدر المشقة، لا يَسيرون على سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، والسنَّة النبوية الصحيحة هي اليسر، وما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، والآخذون بالأشقِّ من الحجَّاج يعسِّرون ما يسَّره الله تعالى.

خطبة الوداع:

روى البخاري عن جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع أتى عرفة فوجد القبَّة قد ضربت له بنَمِرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: (إنَّ دماءَكم، وأموالَكم حرامٌ عليكم، كحرمةِ يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا. ألا كلُّ شيءٍ من أمرِ الجاهليةِ تحت قدَميَّ موضوعٌ، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أوَّل دمٍ أضعُ من دمائِنا دمُ ابنِ ربيعةَ بن الحارث، كان مسترْضِعًا في بني سعْد فقتلتْه هُذَيل ورِبا الجاهليةِ موضوعٌ، وأوَّل ربًا أضعُ من رِبَانا رِبَا العباسِ بن عبدالمطَّلب؛ فإنَّه موضوعٌ كلُّه، فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانةِ الله، واستحللتم فروجَهنَّ بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكرَهُونه، فإن فعَلْن فاضرِبوهن ضربًا غير مبرِّح، ولهن عليكم رزقُهنَّ وكسوتُهنَّ بالمعروف، وقد تركتُ فيكم ما لن تَضِلُّوا بعده- إن اعتصمتم به- كتابَ الله، وأنتم تُسْأَلون عني، فماذا أنتم قائلون؟، قالوا: نشهَد أنَّك قد بلَّغت، وأدَّيت، ونصحتَ، فقال- بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، ويَنكتُها إلى الناس-: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد).

في هذه الكلمة الجامعة قرَّر رسول الله عدة مبادئ عادلة، وبيَّن أهم أسس الدستور الإسلامي، وأهم ما ألفت النظر إليه من تلك المبادئ العادلة أربعة:

 أولها: تأمين الناس على أنفسهم وأموالهم، فقد قرَّر صلى الله عليه وسلم هذا التأمين بقوله: (إنَّ دماءكم وأموالكم عليك حرام) وشبَّه هذه الحرمة بأشدِّ حرمة يَدينون بها ولا يحلون شعارها، وهي حرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وأول أساس ضروري لحياة الأمَّة الأمن على النفس والمال والعِرْض.

وثانيها: القضاء على أسباب الأضغان والأحقاد، ودفنُ ما كان في الجاهلية مما يثير الخصومات، فقد قرَّر صلى الله عليه وسلم أنَّ دماء الجاهلية موضوعة، وأنَّ ربا الجاهلية موضوع، ونصَّ على أنَّ أول دم يضعه دم ابن عمه، وأنَّ أول ربا يضعه دم عمه، ليعلن للناس أنَّ الأمر للحق والقسط ولو على النفس والأقربين.

وثالثها: تقرير حقوق النساء وتبيين ما لهنَّ وما عليهنَّ، والأمم التي تقوم على العصبية تضيع فيها النساء ولا يعترف لهن فيها بحقوق، ولهذا كانت النساء في الأمَّة العربية لا ترثن، ويُتصرف في تزويجهنَّ بغير رجوع إليهنَّ، وبعض العرب كانوا يئدون البنت في مَهْدها، فالإسلام قضى على هذا الظلم، وورَّث النساء، وجعل للمرأة البالغة الرأي في زواجها، وحرَّم الوأد واستنكره، وقرَّر أنَّ للمرأة حقوقاً وعليها واجبات، وللرجل حقوقاً وعليه واجبات.

ورابعها: بيان الدستور الصحيح الخالد الذي يجبُ على المسلمين أن يستمسكوا به وينفِّذوا أحكامه، فقد قرَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه ترك في أمَّته ما لو اعتصموا به لن يَضِلوا، وهو كتاب الله، فكتاب الله تعالى هو الهادي الذي لا يَضل من اهتدى به، وهو العدل الذي لا يظلم من قضى به، وهو الحق الذي لا يَأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الثالث، المجلد الرابع، ذي القعدة 1369، أغسطس 1950).

(1) إلا الأردية المصبوغة بالزعفران التي تنضح على جلد لابسها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين