فتح مكة ومظاهر عفو رسول الله وسماحته مع أعدائه -2-

 

وفي نشوة النصر تذكر بعض المسلمين ماضي زعماء قريش وعنادهم لرسول الله  صلى الله عليه وسلم، وتآمرهم على قتله، واضطهادهم للمسلمين، فانتظروا المصير المؤلم الذي قد يقع بهم، فقال سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ  وكان يحمل راية الأنصار: اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة، اليـوم أذل الله قـريشاً. (السنن الكبرى للبيهقي 9/ 203).

وصادف أن سمعه أبو سفيان فأسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ‏يا رسول الله أمرت بقتل قومك؟!! فإن سعدا زعم ومن معه حين مر بنا أنه قاتلنا، أنشدك الله في قومك !فأنت أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم (ابن كثير: البداية والنهاية ج4 ص 290).

وأبو سفيان رغم أنه أسلم منذ قليل إلا أنه لم ينس قومه الذين جعلوه سيدا عليهم من قبل، لم ينس أن يسعى لحقن دمائهم وإن كانوا كافرين، ولم يكن أمثال القادة الذين يحتمون بشعوبهم فإذا دارت عليهم الدائرة طلبوا الأمان لأنفسهم وضحوا بجميع من تحتهم، ولم يكن رسول الله بأقل من أبي سفيان في حرصه على حقن دماء القرشيين أعداء الأمس، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان:‏ "‏بل اليوم يوم تُعَظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً‏" ‏وأرسل من توه إلى سعد بن عبادة  ـ رضي الله عنه ـ فأخذ منه راية الأنصار، ودفعها إلى ابنه قيس بن سعد، وجعله الأمير خلفا له، ولم يشأ صلى الله عليه وسلم أن يجعلها في يد أحد غير ابنه فيحز ذلك في نفسه، وتلك أبلغ الحكمة في تصرف القائد في الأمور الحساسة الدقيقة .

وبعد ذلك أرسل صلى الله عليه وسلم أبا سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء  ـ رضي الله عنهم ـ  ليدعوا أهل مكة إلى الإسلام، ويطمئنوهم على أنه لن ينالهم من رسول الله مكروه إن هم تحاشوا الصدام معه، وخلوا بينه وبين دخول مكة, وأوصاهم أن يعلنوا حالة منع التجول لحظة دخول الجيش، حيث طلب منهم أن ينادوا في الناس: " أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن؛لأنها كانت بأعلى مكة، فيسهل أن يدخل بها أهل البوادي أو من خرجوا للرعي بالجبال، ويصعب عليهم العودة إلى مساكنهم، ومن دخل دار حكيم فهو آمن، وكانت بأسفل مكة، يدخل إليها القريبون منها، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن أغلق على نفسه داره فهو آمن (ابن كثير : البداية والنهاية (4/ 289).

واستجاب أهل مكة لدعوة أبي سفيان وحكيم وبديل، فخلوا الطرق لرسول الله، ولم يتصد لجيوشه الأربع سوى مجموعة من الأوباش، جمعهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل مع بني بكر، تعرضوا لخالد بن الوليد عند دخوله من أسفل مكة، حتى إذا اشتد عليهم القتال فروا من أمامه، وتفرقوا إلى ديارهم، فلما وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال " يا خالد لمَ قاتلت وقد نهيتك عن القتال"؟ قال:هم بدءونا بالقتال، ووضعوا فينا السلاح، وأشعرونا بالنبل، وقد كففت يدي ما استطعت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله خير"  (الكلاعي:الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء 1/ 508)..

ونجحت خطة رسول الله المحكمة، إذ دخل مكة فاتحا بأقل خسارة، فلم يُقتل من المسلمين سوى رجلين ضلا الطرق وتاهوا عن جيش خالد، وأما المشركون فكان عدد من قتل منهم أمام جيش خالد بضعة وعشرين رجلا، وكانوا قد أصروا على المواجهة.

وكان دخوله صلى الله عليه وسلم لعشر بقين من رمضان (يناير سنة 630 م) دخولا يتلاءم مع عظمته وسمو أخلاقه، حيث علاه التواضع حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، وأحنى رأسه على دابته ؛ حتى إن شعر لحيته ليكاد يمس عنق الدابة،وأخذ يردد "اللّهم إن العيش عيش الآخرة" (محمد بن يوسف الصالحي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 5/ 226) وعلي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي: إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون3/ 122).

ونظر إليه في هذا اليوم رجل  ـ ولم يكن يعرفه من قبل  ـ فتخيل أنه كسائر الملوك، فأخذته الرعدة فقال له رسول الله:"هون عليك،فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة" وقال:" إنما أنا عبد( أي إنسان مثل سائر الناس ) آكل كما يأكل العبد، واجلس كما يجلس العبد".

ولم يجلس رسول الله بعد دخول مكة لاستقبال التهاني، ولم ينصب السرادق،  ويقيم الحفلات الساهرة، وإنما اتجه فور دخوله إلى المسجد الحرام، فطاف بالكعبة شاكرا الله على أن أتم عليه النعمة، وأخذ ينظر إلى الأصنام المنصوبة حولها ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً"( سورة " الإسراء " :الآية  81  ) .

وبعد أن فرغ صلى الله عليه وسلم من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت،ورفع يديه،وجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو،ثم دعا بعثمان  بن طلحة الذي كان يحمل مفاتيح الكعبة فأخذها منه، وأمر بالكعبة  ففتحت فدخلها، وأزال منها آثار الوثنية التي صنعها بها المشركون، وصلي بها ركعتين ‏‏ ثم دار فيها،وكبر في نواحيها ووحد الله، ثم خرج ووقف على بابها وخطب الناس فقال‏:‏

"‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده،....يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير‏" (السهيلي : الروض الأنف 7/ 231)..

فإذا كانت قريش كانت ترى في الجاهلية أنها فوق العرب بمجاورتها للبيت الحرام، وإذا كان بعض الناس يرى نفسه بما أوتيه من مال أعلى من منازل باقي الناس، فإن الإسلام جعل الناس على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وجنسياتهم وحالاتهم المادية سواسية؛ لأنهم جميعا يرجعون في النسب إلى أبٍ واحد، والله لم يفرق بينهم في أسلوب المعاش إلا ليتعاونوا ويتبادلوا المنافع، وأما في الآخرة فالمقياس الوحيد لمنازل الناس هو التقوى .

واستطاع صلى الله عليه وسلم بوحي الله أن يزيل الفوارق بين الناس على اختلاف طبقاتهم، وصار أبو سفيان سيد الوادي وبلال بن رباح العبد الحبشي سواء ،بل صار بلال بسبقه إلى الإسلام مقدما على أبي سفيان وغيره. 

ثم استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استقر به الأمر بمكة مشركي أهلها  الذين اصطفوا حوله، وقال لهم :"يا معشر قريش !ويا أهل مكة !ما ترون أني فاعل بكم؟ " قالوا: خيراً،أخ كريم،وابن أخ كريم. فقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"( تاريخ الطبري : 3/ 61)..

هذا هو الإجراء الذي اتخذه النبي العفوُّ الصفحُ السمحُ  تجاه أناس استعملوا في صده عن سبيل الله كل ما أوتوه من قوة،إنه إجراء لا يتخذه إلا العظماء الذين لا تستفزهم الأحداث، ولا يضمرون مثقال ذرة من غيظ لأحد .

وفي اليوم الثاني من دخوله مكة سمع أن خزاعة عدت على رجل مشرك من بني بكر ( كان قد قتل منهم رجلا عظيما في الجاهلية، قتله غيلة وهو نائم ) فغضب غضبا شديدا، وقال لخزاعة:"لقد قتلتم رجلا لأدينه " ودفع ديته مائة من الإبل، ثم قال صلى الله عليه وسلم محذرا:" فمن قُتل بعد مقامي هذا فأهله  بخيار الأمرين،إن شاءوا قدم قاتله وإن شاءوا فعقله " وقال : " إن أعدى الناس على الله من قتل في الحرم،أو قتل غير قاتله،أو قتل بذحول الجاهلية (ابن كثير : السيرة ج3 ص 57).

وبعد فراغه صلى الله عليه وسلم من حديثه قال:"أين عثمان بن طلحة" ؟فدُعي له فقال:"هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء" ثم ناداه بعد ذلك، وقال له: ألم يكن الذي قلت لك؟ وذكر أنه طلب منه قبل الهجرة أن يدخله الكعبة فرفض، فقال له صلى الله عليه وسلم: لعلك سترى هذا المفتاح في يدي أضعه حيث شئت، فقال عثمان: بلى. أشهد أنك رسول الله (ابن كثير:البداية والنهاية :ج4 ص 301).

وفي رواية أخرى أنه قال:«خذوها خالدة مخلّدة،إنّي لم أدفعها إليكم، ولكن الله- تعالى- دفعها إليكم، ولا ينزعها منكم إلا ظالم».(محمد بن يوسف الصالحي :سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 5/ 244)..

ثم جاءه أهل مكة ليعلنوا إسلامهم، صغارا وكبارا، رجالا ونساء، فجلس لهم على الصفا، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يجلس أسفل من مجلسه، يأخذ على الناس، وبايعوه على السمع والطاعة للّه ولرسوله فيما استطاعوا، وجاء بينهم أبو قحافة (أبو أبي بكر الصديق )  وكان شيخا كبيرا، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هلا تركتم الشيخ حتى جئت إليه أنا في بيته "ثم أجلسه بين يديه ومسح صدره؛احتراما لسنه؛ فتقدير كبار السن واحترامهم والاهتمام بهم ورعايتهم من أسمى تعاليم الإسلام؛ وذلك لأنهم أناس أفنوا حياتهم في تعمير الأرض وتربية الأولاد وخدمة المجتمع، فأقل شيء أن يعاملوا بالحسنى؛ ليشعروا أن كبر سنهم ووهن عظمهم ليس معناه أن المجتمع قد استغنى عنهم أو أنه سينساهم.

وقد نفى صلى الله عليه وسلم صفة الإيمان الكامل عمن لا يوقر كبير السن فقال:" ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا". وقال : " ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا "وقال: "ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه". بل أمر صلى الله عليه وسلم بحسن معاملة كبار السن حتى في ساحات القتال، فكان إذا أرسل غزوة أو سرية قال لمن فيها: "لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأة، ولا تغلوا".

ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من بيعة من أسلم من رجال مكة اجتمعت عليه النساء ليبايعوه، وجاء نسوة من نساء قريش فيهن هند بنت عتبة ( زوجة أبي سفيان ) منتقبة متنكرة لكي لا يعرفها أحد؛ لأن رسول الله قد أمر بقتلها عند الفتح ؛لما فعلته بجثمان حمزة ـ رضي الله عنه ـ  يوم أحد.

فلما دنون منه يبايعنه قال  صلى اللّه عليه وسلم: " بايعنني على أن لا تشركن باللّه شيئا ولا تسرقن " فقاطعته هند قائلة "واللّه إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان ذلك حلالا أم حرام، فقال أبو سفيان ـ وكان شاهداً لما تقول ـ:أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل - عفا الله عنك- فقال رسول اللّه:" وإنك لهند بنت عتبة " ؟! فقالت :أنا هند بنت عتبة ،فاعف عما سلف عفا اللّه عنك! ..فما أن قال صلى الله عله وسلم عفوت عنك حتى قالت:" يا رسول الله، ما كان مما على ظهر الأرض أحد أ أحب إليّ أن يذلوا من أهلك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أحد أحب إليّ أن يعزوا من أهل خبائك " وما قالت ذلك إلا لما رأته من عظمة أخلاقه .

إن هند لم تنس ماضيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرف جيدا حكم جرائمها في قوانين البشر وأعرافها؛ ولذلك تغير قلبها في الحال لما رأت من سمو عفوه وصفحه صلى الله عليه وسلم الذي لا يُحد .

ولا عجب بعد ذلك أن تسخر ما تبقى من حياتها في نصرة رسالة صاحب هذا العفو والصفح، فغدت بعدها تخرج في المعارك الإسلامية ،وتحض المجاهدين على القتال، وفعلت ما لم يفعله كثير ممن سبقنها في الإسلام .

ثم أكمل  صلى الله عليه أخذ البيعة من هؤلاء النسوة، فقال: ولا تزنين ،فقالت هند متعجبة: يا رسول اللّه هل تزني الحرة ؟فالمرأة الشريفة ذات الأصل العريق لا يمكن أن تقدم على الزنا وإن كانت كافرة، ذلك لأنها قبل أن تقدم تلك الفعلة الشنعاء تفكر كثيرا في سمعة أهلها، وما يلحقهم من عار بسبب ذلك، كما أن الناس ذوي الحسب الرفيع، دائما يحرصون على تربية بناتهم على بغض خلق التبذل والوقع في الفاحشة وإن كانوا غير مسلمين .

ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ،ولا تعصينني في معروف "فلما أقررن بما قال لهن استغفر لهن، ولم يصافحهن كما كان يفعل مع الرجال عند البيعة، لأنه صلى الله عليه وسلم  كان لا يصافح النساء، ولا يمس امرأة ولا تمسه امرأة إلا أزواجه وقريباته ممن يحرم عليه الزواج بهن.(وقصة تلك البيعة مفصلة في السيرة النبوية لابن كثير 3/ 603).

يتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين