الحلقة الأولى من الحوار مع المفكر الإسلامي محمد فاروق النبهان -

مجلة منار الإسلام تحاور المفكّر الإسلامي

الدكتور محمد فاروق النبهان

الفكر الإسلامي لا يمارس الوصاية


حاوره فضيلة الشيخ: أحمد الموسى


كانت منار الإسلام على صلة فكرية مع الدكتور النبهان منذ سنوات ومع بعض الدكاترة الذين تخرجوا على يديه في المملكة المغربية الشقيقة، وكان يزور بين الفينة والأخرى دولة الإمارات لإلقاء بعض المحاضرات في الجامعة، أو للمشاركة في بعض المؤتمرات أو الندوات، وآخر مرة التقته "منار الإسلام" في أبو ظبي، حيث كان ضمن وفد مغربي رفيع المستوى يزور الإمارات بدعوة كريمة من صاحب السمو رئيس الدولة.

في تحليل المشهد الفكري الإسلامي المعاصر:

* منار الإسلام: ما مدى مواكبة هذا الفكر للتطور الإنساني المعاصر؟

د. النبهان: يسعدني أن أشارك في هذا الحديث الخاص بمجلة "منار الإسلام" التي هي منبر إسلامي نعتز به لطرح قضايا إسلامية تهم المجتمع الإسلامي، إننا نحتاج إلى مثل هذه المنابر لكي نضيء القضايا الإسلامية، وفي تسليط الأضواء على المشكلات المعاصرة.
المشهد الإسلامي العام، في المجال الثقافي والفكري، مشهد يدعونا للتفاؤل، قد نشعر في بعض الأحيان أن مواكبة نهضتنا لمجال الفكر، لا تزال قاصرة عن اللحاق بالحضارة المعاصرة، وبالفكر الإنساني العام، وهذا أمر يجب أن نعترف به، ولكن ما يدعونا للتفاؤل أننا نمشي بخطى جيدة، أحياناً قد نتعثر، وأحياناً قد نتوقف لتأثير عوامل مختلفة، ولكن لا بد أن نسير في هذا الطريق.. المشاركة الإسلامية في الفكر الإنساني ما تزال في طور البداية، هناك فكر يتقدم بخطى جيدة، وهناك قضايا فكرية جانبية. قد تأخذ الكثير من الاهتمام، وقد تشغلنا عن القضايا الرئيسية، ربما هذه سلبية من السلبيات التي نشعر بها الآن، وربما تؤدي إلى تعثر الخطوات، الانشغال بالقضايا الجانبية من السلبيات التي يجب أن نتخطاها، ورجال الفكر يجب أن يتحملوا مسؤولياتهم في توجيه الاهتمام إلى القضايا الأساسية، وتوجيه الرأي العام لتجاوز هذه القضايا التي لا تفيدنا في شيء ولا يترتب عليها أي شيء إلا الانهماك في هذه الانشغالات الجانبية. أعتقد أن الفكر الإسلامي اليوم في حركة طيبة وجيدة، ليست في مستوى الطموح الذي نريده، هي أقل من ذلك بكثير، لأن الفكر الإنساني يمشي بخطوات سريعة في المجالات الإنسانية، وعلوم الإنسانية، وفي مجالات التكنولوجيا.. لا نزال نحن في بداية الطريق، لولا بعض هذه الجوانب السلبية كان يمكن أن يكون تفاؤلنا أكثر، لكن هذه السلبيات، وربما في بعض الأحيان تظهر بصورة واضحة في مسيرتنا وتكون أكثر سلبية.
منار الإسلام: دكتور -من السلبيات- مثلاً- الرقابة على الفكر، بحيث يلجئ هذا بعض مفكري العرب أن ينشروا فكرهم في أوروبا، بمئات الآلاف من النسخ، في حين أقصى ما يحلم به المفكر العربي اليوم محلياً أن ينشر نتاجه مطبوعاً في حدود خمسة آلاف نسخة! هل هذا المؤشر هو الذي تعنيه؟
د. النبهان:
موضوع الرقابة على الفكر، لا أقول هي من المؤثرات السلبية فقط، أقول هي من عوامل التخلف الكامل، لا يمكن للفكر أن يزدهر إلا في ظل حرية مطلقة، ويجب أن تكون ثقتنا كبيرة بالمفكرين وبالفكر وبدور الفكر، ولا ينمو الفكر إلاّ من حيث يجد المجال المناسب للنمو والامتداد. رقابة على الفكر أي رقابة على الفكر تقتل المفكر والفكر، ولا يمكن أن تكون هناك رقابة خارجية، وإنما هي رقابة داخلية، وتتمثل في موضوع الالتزام، الالتزام بالإسلام، أي فكر في الإطار الإسلامي يجب أن يكون في مدى القبول، بغضّ النظر عن امتداده، ولكن أن تكون له مرجعية إسلامية سليمة وصحيحة، وهي تنطلق من منطلق التأصيل، وأطرح كلمة التجديد هنا وأعني التأصيل، ولا أعني التجاوز للثوابت والتراث.
منار الإسلام: عفواً، لنقف هنا ملياً.
د. النبهان:
أقول: إن تجاوز الثوابت ليس تجديداً ولا تأصيلاً، هذا نوع من الهذر والعبث، التجديد يتمثل في عملية تأصيل المواقف، وإعطاء دور أكبر للمفكر في إبداء رأيه وتجربته، والفكر ينمو من خلال ذلك، ولا يمكن أن نلغي التجربة الإنسانية في المفكر، المفكر يعطي، ويجب أن نفرق هنا ما بين العلم والفكر، فرق كبير بينهما، المفكر هنا ليس هو العالم، العلم يعطي صفة القطعية، والعلم اليقيني، أما الفكر فهو تجربة إنسانية، ولهذا نفرق ونصف الإنسان بالمعرفة ولا نصفه بالعلم، العلم لله تعالى.. فنقول العلم مرتبط بالله، والله تعالى يعلم الأشياء، ولا نستعمل كلمة المعرفة، بل يعلمها العلم اليقيني، ولكن نقول المعرفة مرتبطة بالإنسان، لأن المعرفة فيها قدر من الاجتهاد وقدر من الاستنتاج، فمعرفة الإنسان بالله -ولا نقول علمه بالله- فهي معرفة نسبية، وتختلف من شخص إلى آخر وفيها جهد بشري.
منار الإسلام:
دكتور: الفكر الإسلامي أحياناً هو يحارب نفسه، يعني قد يمارس الوصاية على بعض منافذ التجديد أو الاجتهاد الفكري، ولا حاجة إلى أن أذكر أسماء معينة، أحياناً المؤسسة الفكرية الإسلامية تفرض وصاية على بعض مفكريها، تحرم عليهم الامتداد في مجال الإبداع، أو ما يتخيلون أنه حرية فكر، أو إبداع فكري، فما رأيكم، أهي مثبطات أم ظاهرة صحية.
النبهان:
أنت قلت الفكر الإسلامي يمارس الوصاية، أنا لا أقول ذلك، فليس الفكر الإسلامي هو الذي يمارس الوصاية، وتعبيرك الثاني هو الصحيح.. أي المؤسسات الإسلامية تمارس الوصاية، نعم.. المؤسسات تعبر عن رؤيتها، وتمارس دور الوصاية والهيمنة على الفكر فتقيد الفكر وتقلل من حركته، أما الفكر الإسلامي في ثوابته يحرر العقل البشري وينهض به، وفرق كبير.. الفكر الإسلامي يدعونا للاجتهاد، والمؤسسات الإسلامية تحدّ من قدرتنا على الاجتهاد، فكرنا يدعونا إلى التفكير، وواقعنا يدعونا إلى الانغلاق، المرجعية الإسلامية تدعونا إلى حرية التفكير، منهج السلف الصالح يدعونا إلى الاجتهاد والانطلاق ولكن منهجية المتأخرين من العلماء تدعونا إلى الانغلاق.
فعملية الانغلاق ليست مرتبطة بالفكر الإسلامي، بل مرتبطة بواقع المجتمع، فالمجتمع المتفتح عقلياً يفتح حرية للفكر ويؤمن بدور الفكر، والمجتمع المنغلق يقيد الفكر، إذن إذا أردنا أن نحكم على مجتمع فيجب أن ننظر إلى مدى رعايته للفكر.
منار الإسلام:
دكتور: إذا كنت قد قررت أنه لا وصاية على الفكر وإنما هي المؤسسات المنغلقة.. إذن المفكر الإسلامي -وكذا العلماني- إلى أي مدى يُباح له أن يزجّ نفسه بعيداً في حرية الفكر، هل هناك ضابط واحد تريد أن تنصح به المفكرين المعاصرين، لئلا يخسروا مصداقيتهم أو شعبيتهم؟
د. النبهان:
أولاً.. أقول: الفرق بين المفكر الإسلامي وغير الإسلامي، أن المفكر الإسلامي له مرجعية ثابتة، ويقيد نفسه بمنطلقاتها، المفكر العلماني ينطلق بغير قيود لأنه ليست له مرجعية، وقد تكون له مرجعية غربية، وقد يذهب يميناً أو يساراً بغير ضوابط، وهو أقرب للخطأ في هذا.. المفكر الإسلامي له مرجعية ثابتة، وله ضوابط في عملية الفهم، فهذا لا يستطيع أن يخرج عن إطار تلك المرجعية، فهو مقيد بمنطلقات أساسية، ولها بُعد إنساني، ولها تأصيل حقيقي، وبالتالي المؤسسات الإسلامية تمارس نوعاً من أنواع التقييد أو الرقابة، فكلما تقدم المجتمع أعطى للفكر دوره.
منار الإسلام:
مَن الذي يقود المجتمع وينهض به؟
د. النبهان:
العملية هنا دقيقة جداً.. مَن يمارس الرقابة أو الهيمنة، هل المجتمع هو الذي يراقب الفكر، ويمارس نوعاً من أنواع الوصاية، أم أن المفكرين هم الذين يمارسون الرقابة والتوجيه للمجتمع؟
أقول: إذا مارس المجتمع حق الرقابة على الفكر قتل الفكر، ويصبح المفكرون في هذه الحالة في قبضة المجتمع، ويحاولون أن يتملقوا لعواطف الناس للتقرب إليهم - هذه ظاهرة سلبية، وهنا أتكلم عن دور المنبر - المنبر الصحفي، والمنبر المسجدي، والمنبر الأدبي والفكري بشكل عام.. إما أن يكون أداة التنوير، وإما أداة للتجهيل، فإن انطلق المنطلق السليم ومارس دوره القيادي في التوجيه، كان أداةً للتطوير والتنوير والتجديد، والتنمية الفكرية.
وإن لم يمارس هذا الدور القيادي وخضع للوصاية الاجتماعية، متملقاً لعواطف الجماهير والرأي العام، كانت الجماهير هي الوصية على الفكر وهي التي تحد من حركته، وهذا ما حدث خلال القرون الماضية، ولهذا اضطهد عدد كبير من رجال الفكر الإسلامي بسبب رقابة العامة، وتأثيرهم على الحكام الذين مارسوا نوعاً من أنواع التقييد على العلماء، والذين وقعوا في المحن الكبيرة من العلماء كثُر، كابن تيمية وابن رشد، وكل مَن خرج عن الخط التقليدي، مجرد أنهم قالوا رأياً مخالفاً لما أرادته العامة. لكن الأجيال التي جاءت فيما بعد أحيت فكرهم وأبرزت مكانتهم.
منار الإسلام:
بعض المفكرين المعاصرين، قد وقعوا فعلاً في الشطط والجموح العقلي، تحت أهواء
اتخذت هذا المنهج، وقلت هذه الأفكار.. اقتداءً بابن حزم وابن رشد.. ومحمد عبده.. فأمامي أفق واسع من الحرية قد خاضه السابقون، ولست الوحيد في هذا الموقف. فما رأيك: هل التجارب السابقة أعطتهم امتداداً للحرية، أم تصحيحاً للحرية؟
د. النبهان:
أقول: حينما نطرح المساءلة على فلان من الناس، فيقول قد سبقني غيري.. هذه ظاهرة سلبية كأنه لا يجرؤ أن ينفرد برأي، كأنه يريد أن يجد شرعية لما يقول، كأن يريد أن يحتمي من العامة بالاستناد على قول سابق قيل، وهذه الظاهرة هي التي قتلت حرية الفكر.. عندما يكون المفكر في مركز القيادة أو التكوين، فيجب أن يعبّر عن رؤيته بغضّ النظر عن صحتها أو خطئها، لأن تجربته هي التي أعطته هذه الرؤية المحددة، ولا يشترك أن يكون الفكر دائماً صحيحاً، إنما الشرط أن يكون المفكر دائماً صادقاً فيما يرى وفيما يقول -أي فيما يعبّر عن ذاتيته- وهنا تتعدى الرؤى، ومن حقنا أن نناقشه إن أخطأ.
منار الإسلام: نناقشه أم نحاكمه؟
د. النبهان:
لا أقول نحاكمه.. بل نناقشه للوصول إلى الحقيقة، وهذا كما عبّر الإمام الغزالي في مقدمة كتابه الإحياء، تحدث عن العلم وعن انحراف العلماء في الفتوى والرأي، وقال العلم علمان؛ علم محمود وعلم مذموم، وهنا تحدث عن المناظرة وأدب المناظرة، والأقدمون تحدثوا كثيراً عن أدب الاختلاف، والإمام الغزالي لمّا تحدث عن أدب المناظرة، حدد شروطاً لها:
1- أن تكون المناظرة بهدف الوصول إلى الحق، ويجب أن يستجيب كل طرف للحق إذا ظهر له، فإنْ أراد من وراء المناظرة المنافسة والمباراة والتغلب على الخصم فهذا من مساوئ المناظرة ومساوئ العلم.
2- وأن يبتعد في المناظرة عن مجالس العامة، لأنه إن جلس في مجالس العامة سوف تبرز نسيته فلا ينقاد للحق، وإذن غرض المناظرة الوصول إلى الحق، فذلك في مجلس خاص.
3- أن يلتمس العذر لصاحبه فيما يقول: ونحن نعرف في الرسائل المتبادلة بين الإمام مالك والإمام ليث في مصر إذ سأله لماذا تفتي في قضايا مخالفة لما عليه العمل عند أهل المدينة؟ فأجابه الليث إجابة دقيقة تفسّر رأيه في عمل أهل المدينة: إنْ كان عمل أهل المدينة معبّراً عن نص أو مجسداً لنص فهذا لا خلاف فيه، وإن كان معبّراً عن عمل لأهل المدينة فقد انتهى الجيل الذي كان يعتمد عليه في هذا المجال. فالعمل الذي لا يستند إلى دليل من عمل الصحابة، فهذا لا يعتبر من المصادر المعتمدة في الاستنباط.
منار الإسلام:
الآن نتجه إليك بسؤال مفصلي مهم، هل لا تزال الخصومة المصطنعة بين رجال الفكر الإسلامي، ورجال الفكر القومي العلماني، قائمة؟ وكيف تتصورون النهاية لكلا الخطابين؟
د. النبهان:
رجال الفكر الإسلامي يعبّرون عن فكر يعتقدون أنه الفكر الأصيل، لا يرفضون الرأي الآخر ولا الحوار، ورجال الفكر القومي يريدون أن ينطلقوا من منطلق قد يكون خاطئاً في معظم الأحيان، وهو أنهم يرفضون الثوابت التي تحدثنا عنها، وينظرون للموروث التاريخي للأمة نظرة ازدراء، ونظرة سلبية، لا يلتزمون بالمرجعية الإسلامية السليمة، وغالب هؤلاء يجدون في مدارس الغرب ما يؤيدهم، أو لا يعبرون عن فكر حقيقي ذاتي لأنفسهم، وإنما يعبّرون عن فكر مترجم، فأرادوا أن يطبقوه على واقعنا العربي وفكرنا العربي.
وبهذا لا نجد مفكراً إسلامياً انتقل من الفكر الإسلامي إلى القومي، ولكن نجد العكس، فكم من مفكر قومي رجع إلى الخط الأصيل وهو الالتزام بالإسلام.
منار الإسلام:
رجوع بعض المفكرين العلمانيين إلى الخط الإسلامي، هل هو ركوب الموجة العصرية المصلحية أم هو النضج والقناعة؟
د. النبهان:
أعتقد أن النسبة الكبيرة منهم كان رجوعهم لقناعات أصابت خطهم الفكري لأنهم وصولوا إلى مرحلة اكتشفوا فيها الفجوة الكبيرة بينهم ذاتياً، وبين الفكر العربي الإسلامي، وجدوا أن المنطلقات التي انطلقوا منها ليست سليمة، وشعارات التجديد ودعوات التغريب لم تقدم أي شيء، رغم أننا ضد التمزق والتزمت والانغلاق، فنحن أكثر الناس دعوة إلى الاجتهاد والتجديد، وكل مطلب للتجديد من منطلق الفكر الإسلامي فهذا مطلبنا، ونريد أن نستفيد من تجارب الآخرين ولكن الانفتاح والتجديد الذي نريده هو ما كان في نطاق التأصيل والمرجعية الإسلامية، وبذلك يحظى بالقبول والاحترام، وكنا -وما نزال- نختلف مع البعض لأنهم يرفضون المرجعية الإسلامية، وهنا مفترق الطريق بيننا وبينهم، لأننا نرفض النموذج الغربي في الفكر ونرفض المرجعية الغربية لأنها مرجعية نبتت في بيئة مختلفة عن بيئتنا وتعبّر عن رؤية مغايرة لرؤيتنا. عموماً الفكر العلماني العربي في حالة تقلص، ولم يعد في حركة امتداد ولا حياة، ونحن لا ندعو في الفكر الإسلامي إلى مرجعيته التاريخية، ولا نقول بأن جيلاً من الأجيال له وصاية على الجيل اللاحق، وإنما نقول الأجيال متكافئة في قدرتها وحقها في التعبير عن ذاتها، وتتفاضل بحسب عطائها وعدم انحرافها عن النصوص.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين