زيد بن حارثة وزينب بنت جحش رضي الله عنهما

وَرَدَ ذِكْرُ زيدِ بنِ حَارِثَةَ رضي الله عنه وزينبُ بنتُ جَحْشٍ رضي الله عنها في القرآن الكريم في سورةِ الأحزابِ في قوله تعالى: [ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا] {الأحزاب:37}، وقد استغلَّ بعضُ المبشِّرين ومن في قلوبهم زيغ عبارات وردت في آية سورة الأحزاب بشأن ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل زواجه بزينب رضي الله عنها، ونسبوا إليه ما لا يَليق بعصمته صلى الله عليه وسلم، وما يَتنافى مع ما أقسم الله تعالى عليه إذ قال: [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4}.

وأنا أذكر نبذة موجزة من تاريخ زيد رضي الله عنه ومن تاريخ زينب رضي الله عنها، وقصة زواجهما، وطلاقها منه، وزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده، وأبيِّن أولى الأقوال بالصواب في تفسير ما جاء في الآية الكريمة، ومنه يتبيَّن بتوفيق الله تعالى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء مما اتَّهمه به المرجفون.

أما زيدُ بن حارثة رضي الله عنه فهو غُلامٌ سَباه بعضُ رجال الحجازيين من الشام وجاءوا به إلى مكة قبل بعثة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وملكته السيدة خديجة بنت خويلد، والسيدة خديجة رضي الله عنها وهبته لزوجها محمد بن عبد الله، ومحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أعتقه وتبنَّاه، أي: ادَّعاه ابناً له، وقال في مجامع قريش: يا معشر قريش: اشهدوا أنَّه ابني يَرثني وأرثه، وكان العربُ قبل الإسلام يجعلون التبني سبباً من أسباب التوارث، ويعطون المتبنَّى أحكام الابن.

ولما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً أسلم زيد بن حارثة رضي الله عنه، وهاجر مع من هاجروا إلى المدينة، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر غزواته، وقد جعل له الرسول صلى الله عليه وسلم إمارةَ الجيش في غزوة مؤتة بالشام، وقال: (إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتِل جعفر فعبد الله بن رَوَاحة) وقد قُتل هؤلاء الشهداء الثلاثة في تلك الغزوة بالشام سنة ثمانٍ للهجرة.

وهو والد أسامة بن زيد رضي الله عنه الذي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم إمارة جيش يغزو الشام حيث قُتِل أبوه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسافر هذا الجيش، وكان من أول أعمال أبي بكر رضي الله عنه بعد أن بُويع بالخلافة إنفاذ بعث هذا الجيش كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما زينبُ بنت جحش رضي الله عنها فهي عَربيَّة حجازيَّة، أبوها من بني أسد بن خزيمة، وأمها هاشميَّة، بنت عبد المطلب، عمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تزوَّج زيدُ بن حارثة زينب بنت جحش رضي الله عنهما، ولم أقف بالضبط على تاريخ هذا الزواج، وهل كان قبيل الهجرة أو بعيدها، وكم كانت مدة زَوْجِيَّتِهما، وإنما الذي عرف بالضبط أنَّ هذين الزوجين ما كانا على وِفاق، وأنَّ زينبَ رضي الله عنها ما كانت تطيع زيداً، وما كانت تَصونُ لسانها عن إيذائه، ولعلَّ أهم أسباب هذا أنَّها كانت تشعر بأنَّه غير كفء لها، لأنَّها نَسيبة وهو ليس بذي نسب، وهي حُرَّة من آباءَ أحرار وهو عَتيق، ولا شيء يبعث الزوجة على هضم حقوق زوجها والخروج عن طاعته مثل شعورها بأنَّه دونها، وأن زوجيتها له تحطُّ من شأنها، وقد شكا زيدٌ رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيذاء زينب رضي الله عنها له، وأنَّها لا تطيعه، وأنها تفعل وتفعل، وصارحه أنَّه يريد أن يطلقها.

وقد أوحى الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أنَّ زيداً يطلقُ زينب، وأنَّه هو يتزوجها بعده، وكان هذا الوحي شاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنَّ زيداً هو مُتبنَّاه، والعرب تعطي للمتبنَّى حكم الابن، ولا تُحلُّ لأحد أن يتزوَّج زوجة ابنه ولا زوجة متبناه، فإذا فعل محمد صلى الله عليه وسلم هذا أطلق عليه ألسنة أعدائه، وقالوا تزوج محمد صلى الله عليه وسلم زوجة ابنه، ولحقه من هذا عارٌ بين قومه، ولهذا كان كلما شكا زيدٌ زوجته شعر الرسول بالحرج لعلمه بأنَّ شكاية زيد إذا انتهت إلى الطلاق تزوَّجها هو، ولذا قال صلى الله عليه وسلم له: [أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ] {الأحزاب:37} أي: لا تطلِّق زوجك واتق الله فيما تقول فيها وفيما تتهمها به من إيذاء وعدوان.

فهو صلى الله عليه وسلم طلب منه أن لا يطلقها وأن يحتمل ما يصدر منها، لأنَّ تطليقه لها سيوقع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخشاه، وسيوقفه موقفاً يتعرَّض فيه لسخرية قومه وتعييرهم له.

ولكن الله سبحانه في تشريعه العادل يعمل ما تَقتضيه حكمته البالغة رضي الناس أم سخطوا، ومدحوا أم ذموا. وقد أراد سبحانه القضاء على أحكام التبني التي كان عليها العرب، وأراد أن لا يكون المتبنَّى ابناً، وأن لا تكون زوجةُ المتبنَّى كزوجة الابن، وقضت حكمته تعالى أن يهدم هذا قولاً وعملاً.

أما قولاً فقد قال تعالى: [مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ] {الأحزاب:4-5}. وقال تعالى: [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] {الأحزاب:40}.

وأما عملاً فقد أراد سبحانه أن يكون قدوة المسلمين وإمامهم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أولَ من يهدم هذه العادة المستحكمة، وأول من يستبيح الزواج بزوجة مُتبناه، ووقوف الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف وبدؤه بهذا المنكر في عرفهم شاقٌّ عليه ويعرضه لمقالة السوء، ولكن هذا الشاق يهون في سبيل إحقاق الحق وإقامة العدل، ولهذا لما طلَّق زيد رضي الله عنه زينب بنت جحش رضي الله عنها تزوَّجها الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى، وكان تزوجه بها في سنة خمس من الهجرة، وتوفِّيت سنة عشرين من الهجرة في خلافة عمر رضي الله عنه، وبيَّن الله سبحانه السبب في أمره بالتزوُّج بها بقوله: [لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا] {الأحزاب:37}.

هذه القصة ذكرها الله تعالى في سورة الأحزاب، إذ قال عزَّ شأنه: [وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ] هو زيد بن حارثة رضي الله عنه: أنعم الله عليه إذ هداه للإسلام، وأنعمت عليه إذ أعتقتَه وحرَّرته من الرق: [أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ] قال له الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القول لعلَّ الله يوفق بينه وبين زوجه، ويصرف عنه هذا الزواج بزينب، لأنَّ زواج زوجة المتبنَّى أطبق العرب جميعاً على استنكاره، وهو يخشى التعرُّض لهجوم أعدائه بسببه: [وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ] وتخفي في نفسك ما أوحينا إليك به من تزوُّج زينب بعد أن يطلقها زيد رضي الله عنهما، والله تعالى مُبدي ما أخفيته، ومحقق ما أراده، وتخشى الناس بهذا الإخفاء وبهذا التحرُّج من زواج زوجة متبناك والله تعالى أحق أن تخشاه بتنفيذ ما أوحى إليك به: [فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا] أي: فلما قضى زيد حاجته من زوجيتها أي: طلقها، زوَّجها الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون هذا تشريعاً عملياً بأنَّ زوجة المتبنَّى تحل للمتبنِّي بعد طلاقها وليست كزوجة الابن.

من هذا يتبيَّن أنَّ هذه الزوجية كانت شاقَّة على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ما تزوَّجها إلا تنفيذاً لأمر الله تعالى.

ويقول الذين في قلوبهم زيغ: إنَّ محمداً كان يحب زينب، وكان يرغب في الزواج بها، وما قال لزيد: [أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ] {الأحزاب:37} إلا تظاهراً وهو يخفي في نفسه حُبَّها. 

والله ما فهموا الآية، ولقد عبثوا بها وما كان زواج محمد صلى الله عليه وسلم بزينب رضي الله عنها بعد أن طلقها زيد إلا امتثالاً لأمر الله تعالى، وكان في زواجه بها حرج عليه، لأنه يفتح عليه أبواباً من التشهير والتشنيع، فزيدٌ مُتبنَّاه، وكان يطلق عليه زيد بن محمد، وهو في دعوته أحوج ما يكون إلى اتقاء أقاويل السوء عليه وجمع القلوب حوله، فأمره بأن يتزوَّج زينب رضي الله عنها كان من أشقِّ التكليفات، وهو أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه لعل الله تعالى يحدث بعد ذلك أمراً.

وقد روى القرطبي في تفسير هذه الآية عن علي بن الحسين رضي الله عنه ما نَصُّه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوحى الله تعالى إليه أن زيداً يطلق زينب، وأنه يتزوجها بأمر الله بعده، فلما تشكَّى زيدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم خُلق زينب وأنها لا تطيعه وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية: [أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ] في قولك، وهو يعلم بوحي الله أنَّ زيداً سيفارقها، وأنَّه هو من بعده سيتزوجها، (وهذا هو الذي أخفى في نفسه)،ولم يُرد أن يأمره بطلاقها لما علم أنه بعد طلاقها سيتزوجها، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَلْحَقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مُتبنَّاه، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن يخشى الناس في شيء قد أباحه الله له، وأعلمه أنَّ الله تعالى أحق بالخشية في كل حال.

قال القرطبي: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وهذا أحسن ما قِيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسِّرين والعلماء الراسخين، وأما ما قِيل من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هوي زينب رضي الله عنها، وربما أطلق بعض المخَّان عشق زينب، فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة الرسول صلى الله عليه وسلم أو مستخفٍّ بحرمته.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد 12، المجلد السابع، شعبان 1373 إبريل 1954).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين