حدث في السادس عشر من ذي القعدة

 بقلم محمد زاهد أبو غدة

 
في السادس عشر من ذي القعدة من سنة 616 توفيت في دمشق زُمُرُّد خاتون بنت أيوب، أخت السلطان صلاح الدين الأيوبي الملقبة ست الشام، وكانت سيدة البيت الأيوبي في عصرها، مهابة محترمة كثيرة البر والصدقات، وكانت محرماً على نيف وثلاثين ملكاً وسلطاناً.
 
وقبل أن نتحدث عن سيرتها، يجدر أن نتحدث عن عائلتها وإخوانها، فوالدها نجم الدين أيوب بن شادي، كان رجلاً ديناً خيراً كثير الصدقات، وافر العقل، سمحاً كريماً، قليل الكلام جداً لا يتكلم إلا عن ضرورة، وكان يلقب بالأجل الأفضل، وتوفي سنة 568.
 
وكان لنجم الدين أيوب من الأولاد: توران شاه وهو أكبرهم ولُقِبَ بالملك المعظم، ويوسف صلاح الدين الملك الناصر، وأبو بكر سيف الدين الملك العادل، وشاهنشاه والد فروخشاه صاحب بعلبك ووالد الملك تقي الدين عمر صاحب حماة، وتاج الملوك بوري الذي قتل على حلب وهو أصغرهم، وسيف الإسلام طغتكين الذي تملك اليمن أيضا، وربيعة خاتون، وست الشام. وست الشام هي الأخت الشقيقة للملك المعظم: شمس الدولة تورانشاه، وسيف الإسلام. وكان توران شاه قد وطد للأيوبيين حكم اليمن ثم عاد إلى مصر سنة 574 وتوفي بالإسكندرية في سنة 576، فنقلته شقيقته ست الشام إلى دمشق ودفنته في مدرستها.
 
وقد عدَّد سِبط ابن الجوزي محارمها من الملوك فقال: وهم الآن نحو خمسة وثلاثين ملكاً، منهم إخوتها الأربعة: المعظّم، وصلاح الدين، والعادل، وسيف الإسلام، وأولاد صلاح الدين: العزيز ثُمَّ ابنه المنصور، والأفضل، والزاهر، والظاهر وابنه العزيز وابن ابنه الناصر يوسف، وأولاد العادل: الكامل وأولاده الثلاثة المسعود والصالح والعادل، وأبناء الصالح المعظّم المقتول بمصر: الموحّد صاحب الحصن، وابن العادل ابن الكامل المغيث صاحب الكرك، والمعظّم ابن العادل الأكبر وابنه الناصر داود، والأشرف ابن العادل، والصالح ابن العادل، والأوحد، والحافظ، والعزيز وابنه السعيد، وشهاب الدين غازي وابنه الكامل محمّد، وابن سيف الإسلام إسماعيل الذي ادّعى الخلافة باليمن، وفروخشاه ابن شاهنشاه ابن أيّوب، وابنه الأمجد صاحب بعلبك، وتقي الدين وابنه المنصور، ثُمَّ ذرّيّته ملوك حماة.
 
وتزوجت ست الشام في مقتبل عمرها من الأمير عمر بن لاجين، ولم أجد له ذكراً غير ذلك فيما تحت يدي من المصادر، وجاءها منه ولدٌ هو حسام الدين محمد بن عمر، وأنشأ حسام الدين في حلب في أيام نور الدين زنكي - أي قبل سنة 569 - المدرسة الحدّادية على أنقاض كنيسة من كنائس أربع هدمها المسلمون في سنة 517 إثر هجوم للصليبين على حلب، فهدمها وبناها بناءً وثيقاً، وأول من درّس بها الفقيه الإمام الحسين بن محمّد بن أسعد ابن الحليم، وكان فقيهاً عالماً متأدباً ولم يزل بها إلى أن استدعاه نور الدين إلى دمشق.
 
وكان حسام الدين بطلا شجاعا، ومن الأعوان الكبار لخاله السلطان المجاهد صلاح الدين، عهد إليه بحصار الفرنج بنابلس في سنة 583 فحاصرهم حصاراً شديداً وضايقهم حتى سلموها بالأمان بعد أن بقيت في أيديهم 91 عاماً، وتوفي في سنة 579 رحمه الله تعالى فدفنته أمه في تربتها في المدرسة الشامية البرانية جانب أخيها توران شاه.
 
وتصادفت وفاة حسام الدين في ليلة واحدة مع وفاة ابن أخي صلاح الدين، الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وكان عزيزاً على عمه صلاح الدين، استنابه بمصر وغيرها من البلاد، ثم أقطعه حماة، وله مدرسة هناك هائلة كبيرة، وكذلك له بدمشق مدرسة مشهورة، وعليها أوقاف كثيرة، ففُجِعَ صلاح الدين بابن أخيه وابن أخته في ليلة واحدة، وقد كانا من أكبر أعوانه.
 
وتفيدنا ما أوردته كتب التاريخ عن هذا حسام الدين ابن ست الشام في تحديد السن التقريبي لست الشام، فلو افترضنا أن سن ابنها عندما بنى المدرسة كانت 30 عاماً، وحيث بقي أول مدرس فيها مدة معقولة لم تكن من القصر بحيث يلحظها المؤرخون، فإننا نقدر سنة ميلاده بحدود 535، وإذا قدرنا أنها تزوجت الأمير عمر بن لاجين وهي في الخامسة عشرة من العمر، فهذا يعني أنها ولدت نحو سنة 520 فهي إذاً أكبر من صلاح الدين ولعلها أكبر إخوتها، ويبدو كذلك أن زواجها بعمر بن لاجين لم يطل وأنه توفي عتها، ذلك إن كتب التاريخ التي تحت يدي لا تذكر شيئاً عن زواجها بعده من ابن عمها الامير ناصر الدين محمد بن شيركوه.
 
تزوجت ست الشام من ابن عمها ناصر الدين محمد بن شيركوه بن شادي الملقب الملك القاهر، وهو الابن الوحيد لأسد الدين شيركوه، القائد المجاهد العظيم الذي كان أخوها صلاح الدين من أمرائه، والذي توفي سنة 564 في القاهرة، وكان شيركوه أميراً على حمص في أيام نور الدين زنكي فلما مات نزعها منهم نور الدين، فلما ملك صلاح الدين الشام أعطى حمص لابنه ناصر الدين، وكان ذا شهامة وشجاعة، وكان صلاح الدين يعتمد عليه في المهام الكبيرة حتى إنه في سنة 571 جعله نائباً له بمصر عندما كان في الشام يواجه الفرنج، وكان دائماً حول صلاح الدين ولحضور ذهنه وسرعة تصرفه كان لناصر الدين دور في إنقاذ صلاح الدين من محاولتي اغتيال قام بها الحشاشون، وكان ناصر الدين ذا طموح شديد، وحدث في سنة 581 أن مرض صلاح الدين وهو في حرَّان مرضاً أشفى فيه على الموت وأوصى، وكان عنده ناصر الدين، فسار من عنده وبدأ يخطط لكي يتولى الأمر بعد صلاح الدين، ثم عوفي السلطان ولم يلبث ناصر الدين أن مات عقب مرض حاد، في آخر سنة 581، فنقلته زوجته ست الشام إلى تربتها في مدرستها بدمشق، فدفنته عند أخيها الملك شمس الدولة توران شاه، ويبدو أنها انتقلت إلى دمشق إثر ذلك لتعيش في كنف أخيها صلاح الدين.
 
وبلغ صلاح الدين موت زوج أخته وهو بحرَّان فكتب منشوراً بتعيين ولده أسد الدين شيركوه بن محمد في إمارة والده على حمص وتدمر والرحبة وسلمية، وخلع عليه ولقبه بالملك المجاهد، وكان في الثانية عشر من عمره، ولما عاد السلطان صلاح الدين إلى الشام في سنة 582 جاءه أولاد أخته ست الشام: شيركوه بن محمد بن شيركوه وأخته سفري خاتون، فقال السلطان لأخيه العادل أبي بكر بن أيوب: اقسم التركة بينهم على فرائض الله تعالى. وكان محمد قد خلف أموالاً عظيمة، وقدرت تركته بألف ألف دينار.
 
وسبق وفاة ناصر الدين بشهر وفاة زوجة صلاح الدين الخاتون عصمة الدين بنت معين الدين أنر، وكانت زوجة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله، فلما توفي سنة 569 وخلفه صلاح الدين السلطان، تزوج بها في سنة 572، وكانت من أعف النساء وأعصمهن وأجلهن في الصيانة وأحزمهن متمسكة من الدين العروة الوثقى، ولها أمر نافذ ومعروف وصدقات وأوقاف، قال العماد الأصبهاني: وكان السلطان حينئذٍ بحرَّان في بحر المرض وبحرانه وعنف الألم وعنفوانه، فما أخبرناه بوفاتها خوفاً من تزايد علته وتوقد غلته، وهو يستدعي في كل يوم دَرجاً ويكتب إليها كتاباً طويلاً ويلقي على ضعفه من تعب الكتابة والفكر حملاً ثقيلاً، حتى سمع نعي ناصر الدين محمد بن شيركوه ابن عمه، فنعيتُ إليه الخاتون وقد تعدت عنه إليهما المنون.
 
وكان ابنها أسد الدين شيركوه مثل أبيه شجاعاً مقداماً ذا شهامة ونجدة، ففي سنة 614 انتهت الهدنة التي كانت بين الملك العادل بدمشق والفرنج، وحشدوا جيوشهم لمهاجمته، فأرسل يستنجد بمن حوله من ملوك المسلمين لصد الفرنج، فكان أول من ورد أسد الدين شيركوه من حمص فتلقاه الناس، فدخل دمشق من باب الفرج، وجاء فسلم على والدته ست الشام بدارها عند البيمارستان، ثم عاد إلى داره، ولما قدم أسد الدين المذكور سري عن الناس وأمنوا، ولما أصبح توجه إلى السلطان بمرج الصُفر.
 
وبقيت لست الشام مكانتها واحترامها، وفي سنة 590 قام الملك العادل وابن أخيه الملك العزيز في مصر بخلع ملك دمشق الملك الأفضل بن صلاح الدين لسوء تصرفاته، ووقوعه تحت تأثير وزيره ابن الجزري، ودخل العادل والعزيز البلد من غير قتال، وكان نزول الملك العزيز في دار عمته ست الشام، وهذا يدل على أنها كانت داراً كبيرة كثيرة المنافع والملحقات تليق بالملوك.
 
وكانت ست الشام تتولى المشاركة في كثير من المناسبات، وفي يوم عاشوراء من سنة 592 نقل الملكُ الأفضل والدَه صلاحَ الدين إلى مدفنه اليوم قرب الجامع الأموي، وكانت داراً لرجل صالح، ثم جلس الملك الأفضل في الجامع ثلاثة أيام للعزاء، فقامت ست الشام بترتيب ما يصاحب هذه التقاليد من ضيافات وصدقات، وأنفقت في ذلك أموالاً عظيمة.
 
ولسيدات البيت الأيوبي مآثر كثيرة في أعمال البر، ومن أجلها بناء المدارس وتوفير الأوقاف لها، وكان لست الشام مأثرة كبيرة فقد بنت مدرستين كبيرتين في دمشق، إحداها في خارجها وتعرف بالمدرسة الشامية البرانية وكانت من أكبر المدارس وأعظمها وأكثرها فقهاء وأكثرها أوقافاً، وأوصت - كما سيمر بعد قليل - بجعل دارها بعد وفاتها مدرسة للفقهاء الشافعية، وأوقفت عليها أوقافا كثيرة، وتعرف بالمدرسة الشامية الجوانية، وتقع داخل دمشق قبلي المارستان النوري، قال الأستاذ المحقق شعيب الأرناؤط في تعليقة له في سير أعلام النبلاء: ولم يبق الآن من رسمها سوى بابها.
 
وأول من تولى التدريس في المدرسة الشامية الجوانية الإمام أبو عمر تقي الدين ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن ابن أبي نصر النصري الكردي الشهرزوري، الفقيه الشافعي الذي كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث وفقه اللغة، وتوفي ابن الصلاح بدمشق في سنة 643 عن 66 عاماً.
 
واعتمدت ست الشام في عمارة المدرسة الشامية البرانية على الطواشي الكبير كافور بن عبد الله شبل الدولة الحسامي، نسبة إلى ابنها الأمير حسام الدين، وكان ديناً صالحاً عاقلاً مهيباً، له مشاركة في طلب العلم، وكان حنفياً فبنى للأحناف مدرسة تسمى بالشبلية على نهر تورا بدمشق، وبنى خانقاه بقربها وتربة دفن بها، وأوقف لها أوقافاً كثيرة، وإلى جانب ذلك قام بفتح طريق للناس في من عند المقبرة غربي الشامية البرانية إلى طريق عين الكرش، ولم يكن الناس لهم طريق إلى الجبل من هناك، وتوفي سنة 623.
 
ولما توفيت ست الشام خرجت دمشق كلها في جنازتها، ودفنت في تربتها بمدرستها الشامية البرانية، إلى جانب أخيها الملك المعظم توران شاه بن أيوب، وزوجها وابن عمها ناصر الدين محمد بن شيركوه، ودفنت هي على ابنها حسام الدين، ولذا كان يقال للتربة: المدرسة الحسامية نسبة إلى ابنها حسام الدين.
 
وسارت على درب ست النساء ابنتاها، إذا يذكر ابن شداد في كتابه الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام و الجزيرة أنهما بنتا خانقاه - وهي كلمة فارسية تعني مكان العبادة، وهي في الواقع سكن لطلبة العلم والزهاد - بدرب البنات في حلب.
 
ولم يقتصر إنشاء المدارس على ست الشام، بل قام بذلك عتيقها وخادم صلاح الدين جمالُ الدولة إقبال، المتوفى بالقدس سنة 603، فحول دارين إلى مدرستين ووقف عليهما وقفاً الكبيرة للشافعية والصغيرة للحنفية وعليها ثلث الوقف. قال النعيمي في الدارس في تاريخ المدارس: والذي رأيت مرسوماً بعتبة بابها بعد البسملة: وقف هذه المدرسة المباركة الأمير الأجل جمال الدين إقبال عتيق الخاتون الأجلة ست الشام ابنة أيوب رحمه الله على الفقهاء من أصحاب الإمام سراج الأمة الشريفة النعمان أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وأوقف عليها الثُمن من الضيعة المعروفة بالمسوقة، والثُلث من مزرعة الأفتريس، والثُلث من مزرعة في الحديثة، وقيراط من مليحة زرع ما حاط بطريق سالكة من زرع إلى بصرى، وذلك في الرابع عشرين من ذي القعدة سنة ثلاث وستمئة، عظم الله أجره.
 
وكان من عتقائها من أقبل على طلب العلم واتسم بالصلاح ورقة القلب، فقد حدثتنا كتب الرجال عن أبي الخير نَظَر بن عبد الله الحسامي، أحد خدم المسجد النبوي، والذي سمع الحديث من جماعة من شيوخ دمشق وحلب، وكان ملازماً لذلك حريصاً عليه، ثم رحل إلى بغداد لسماع الحديث بها، وكانت عليه سكينة ووقار، غزير الدمعة عند سماع الحديث. والحسامي: نسبة إلى ولاء أم حسام الدين ست الشام رحمها الله تعالى.
 
كانت ست الشام رحمها الله كثيرة الصدقة والبر، واهتمت بعلاج المرضى وتوفير الدواء لهم، فكانت تنفق في كل سنة آلاف الدنانير على صنع الأشربة والأدوية والمعاجين والعقاقير، وتفرقها على الناس، وكان بابها ملجأ كل قاصد.
 
وقد عرض لست الشام مرض أشفت فيه على الخطر، فعالجها الطبيب اليهودي مهذب الدين يوسف بن أبي سعيد بن خلف السامري، المتوفى سنة 624، وذلك أنها أصيبت في كبدها وصارت ترمي كل يوم دماً كثيراً، والأطباء يعالجونها بالأدوية المشهورة لهذا المرض من الأشربة وغيرها دون نجاح يذكر، فجاء مهذب الدين وجسَّ نبضها، ورأى فيها من القوة ما أتاح له تغيير العلاج، فتقاصر عنها الدم وحرارة الكبد التي كانت، وسقاها أيضاً منه ثاني يوم فقل أكثر، ولاطفها بعد ذلك إلى أن تكامل برؤها وصلحت.
 
ولاهتمامها بعلاج المرضى كانت ست الشام على صلة بالاطباء في بلدها ومنهم رشيد الدين علي بن خليفة ابن أبي أصيبعة، المولود بحلب سنة 579، والدارس بالقاهرة، وهو عم مؤلف كتاب طبقات الأطباء، فقد استدعاه الملك العادل أبو بكر بن أيوب في سنة 615 إلى دمشق، وولاه طب البيمارستانين بدمشق اللذين وقفهما الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، فكان يتردد إليهما وإلى القلعة، وقرر له جامكية وجراية، وأطلقت له أيضاً ست الشام أخت الملك العادل جامكية في الطب، وكان يتردد إلى دارها.
 
وكان ابن أخيها الملك المعظم بن الملك العادل يظن أن عندها من الجواهر ما لا يحصى قيمته، وأن ذلك جاءها مما كان بقصور الفاطميين في القاهرة. وكان ابن أخيها كثير الإحسان إليها والبر بها، ولكنه كان يمنعها من الخروج من دمشق، ويظهر أن ذلك برأيها. ويرجو وفاتها عنده، ليستولي على أموالها وأملاكها، ولكن ذلك لم يقدر له.
 
فقد مرضت عمته وكان المعظم خارج دمشق في الصيد، فأرسلت وكيلها إلى قاضي القضاة زكي الدين الطاهر بن محمد، ليأتي إليها بدارها. فأخذ القاضي معه أربعين عَدلاً من أعيان دمشق، فشهدوا عليها أنها أوقفت أملاكها على مدرستها، ووجوه البر وأنواع القُربات، وجعلت دارها مدرسة ووقفت عليها وقوفاً، وأبرأت ذمم جواريها وخدمها ووكلاءها، وأسندت وصيتها إلى القاضي، وماتت بعد ذلك.
 
وجاء في كتاب الوقف أن يكون المدرسون بالمدرسة: من أهل الخير والعفاف والسنة غير منسوبين إلى شر وبدعة، ومن شرط الفقهاء والمتفقهه والمدرس والمؤذن والقيِّم أن يكونوا من أهل الخير والدين والصلاح والعفاف وحسن الطريقة وسلامة الاعتقاد والسنة والجماعة، وأن لا يزيد عدد الفقهاء والمتفقهة المشتغلين بهذه المدرسة عن عشرين رجلاً من جملتهم المعيد بها والإمام، وذلك خارج عن المدرس والمؤذن والقيم، إلا أن يوجد في إرتفاع الوقف نماء وزيادة وسعة فللناظر أن يقيم بقدر ما زاد ونما.
 
ولما عاد السلطان من الصيد، فوجد الأمر قد مضى على غير ما كان يأمل، فتألم لوقوعه، واستهجن من القاضي، وقال: يحضر إلى دار عمتي من غير إذني، ويسمع كلامها، هو والشهود! وكان في نفسه من القاضي حزازات يمنعه من إظهارها حياؤه من والده العادل، لا سيما والقاضي محترم المكانة نزيه الذمة، من أسرة عريقة تمتد لأجداد خمسة في القضاء.
 
ثم اتفق بعد ذلك أن القاضي طلب جابي أوقاف المدرسة العزيزية، وهو سالم بن عبد الرازق، خطيب عقربا، وطلب منه حسابها، فأغلظ له الجابي في القول، فأمر القاضي بضربه، فضُرِبَ بين يديه كما تفعل الولاة، فانتهز ذلك الملك المعظم سبباً إلى إظهار ما في نفسه؛ فأرسل رسولاً إلى القاضي بقجة، وهو في مجلس حكمه، وفي مجلسه أعيان الناس وجماعة كثيرة من العدول والمتحاكمين، فجاءه الرسول، وقال للقاضي: السلطان يسلم عليك ويقول لك: إن أمير المؤمنين الخليفة إذا أراد أن يُشرِّف أحداً من أصحابه خلع عليه من ملابسه، ونحن نسلك طريقه! وقد أرسل إليك من ملابسه، وأمر أن تلبسها في مجلسك هذا، وأنت تحكم بين الناس. وكان الملك المعظم أكثر ما يلبس قباءً أبيض، وكلوتة صفراء. وفتح الرسول البقجة. فلما نظر القاضي إلى ما فيها وجم! فأشار عليه الرسول بلبسها، وأعاد عليه الرسالة، فأخذ القاضي القباء ووضعه على كتفه، ووضع عمامته بالأرض ولبس الكلوتة الصفراء على رأسه، وحكم بين اثنين، ثم قام ودخل بيته إثر هذه الحادثة، ومرض ورمى كبده قطعاً ومات.
 
وجاء انزعاج القاضي من ذلك لأن الملابس التي أرسلها إليه هي زي أهل السلطنة، ولم تجر عادة القضاة بلبسها، وفي ذلك إهانة للقاضي لأنه جعله من أهل الحكم لا العدل، ويجدر بالذكر أنه كانت للأزياء التي يرتديها أهل الدولة والحكم أهمية كبيرة وفروق واضحة تميز بعضهم عن بعض، ونرى أن بعض القضاة أو الوزراء الصلحاء لم يغيروا من زيهم أو اشترطوا ألا يغيروه تواضعاً وبعداً عن التكبر على عباد الله.
 
وقد وجد الملك المعظم من يعاتبه على هذا التصرف الشائن، قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: وكانت حركةً قبيحة وواقعة شنيعة، لم يجر في الإسلام أقبح منها، وكانت من غلطات الملك المعظم، ولقد قلت له: ما فعلت إلا بصاحب الشرع، ولقد وجبت عليك دية القاضي. فقال: هو أحوجني إلى هذا. ولقد ندمت.
 
ومن المفيد أن نتحدث كذلك عن أختها الصغيرة وأصغر أولاد أيوب: ربيعة خاتون بنت أيوب، فقد زوجها أخوها صلاح الدين بأخي زوجته الأمير سعد الدين مسعود بن الأمير معين الدين أنر، وكان صلاح الدين معجباً به، ثم مات عنها مسعود سنة 581 من جرح أصابه في إحدى المعارك، فزوجها أخوها صلاح الدين من مجاهد مقدام كان له البلاء الحسن في موقعة حطين وهو الملك مظفر الدين بن زين الدين كوكبوري، ملك إربل، فأقامت معه زهاء أربعين سنة بإربل ثم توفي سنة 630 فقدمت دمشق فأقامت بها، وخدمتها العالمة أمة اللطيف بنت الناصح بن الحنبلي وحصل لها من جهتها الأموال الكثيرة، وأشارت عليها ببناء المدرسة الصاحبية بسفح قاسيون، فبنتها ووقفتها على الحنابلة، وتوفيت ربيعة خاتون بدمشق سنة 643 وقد قاربت ثمانين سنة، في دار العقيقي التي صيرت المدرسة الظاهرية، ودفنت بمدرستها تحت القبو.
 
رحم الله الجميع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين