العقائد التي دعا إليها محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم

 

أثبتُّ في مقالي السابق أنَّ دعوة محمد صلى الله عليه وسلم هي دعوة رسل الله تعالى أجمعين، وأنَّ الأديان السماوية كلها، والكتب الإلهية كلها، ورسل الله تعالى أجمعين، مُتَّحدة في أصولها التي بُنيت عليها، وفي مَقَاصدها التي قصدت إليها، واللاحق منها مصدِّق للسابق، ولا يباين بعضها بعضاً في أصول العقائد، أو أسس العبادات، أو أمهات الفضائل والرذائل.

وأفصِّل في مقالي هذا العقائد التي دعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم، لأبيِّن بمعونة الله تعالى أنَّها عقائد واضحة جليَّة لا غموض فيها ولا تعقيد، وأنَّها فطرية يكفي للإيمان بها النظر الصحيح من العقل السليم، ولهذا ما برهن القرآن عليها إلا بلفْت العقول إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله تعالى من شيء، ودعوتها إلى استلهام الحق من آياته في الآفاق وفي أنفسهم، فالإيمان بهذه العقائد لا يحتاج إلى تعمُّق فلسفي، ولا إلى جدل منطقي، وإنما يحتاج إلى فطرة سليمة ووجدان حيٍّ.

والعقائد التي دعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم بيَّنها القرآن إجمالاً وتفصيلاً، بيَّنها إجمالاً بقول الله سبحانه: [آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ] {البقرة:285}. فما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من ربِّه صدَّق به الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وأذعنوا له واطمأنُّوا إليه.

وفصَّل الله تعالى ما يجب الإيمان به بقوله: [كُلٌّ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ] {البقرة:285}.

وهذا الذي فصَّله القرآن قرَّره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان عن عمر بن الخطاب أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سُئل عن الإيمان قال: (الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره).

وأنا أبيِّن أولاً المراد بالإيمان، ثم أبيِّن المراد بالإيمان بكل واحد مما وجب الإيمان به:

ما المراد بالإيمان؟

الإيمان معناه في اللغة العربية: مطلق التصديق بأي شيء.

أما معناه في لسان الشرع وعُرف القرآن: فهو التصديق والاعتقاد الجازم بما دعا محمد صلى الله عليه وسلم إلى التصديق به مع إذعان المصدِّق وقبوله لما صدَّق به، فمن صدَّقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم لم يُذعنوا له ولم يَدينوا به فليسوا مُؤمنين، وذلك كبعض أهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإنَّ فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون، وبعضِ الذين يُصدقون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به لأنَّ العلم يؤيده والتاريخ يصدقه، ولكن لا يذعنون للعمل بما جاء به، فالإيمان المعتدُّ به شرعاً هو: التصديق والاعتقاد الجازم الذي لا ريبَ فيه مع إذعان المصدق وقبوله لما آمن به.

والإيمان معناه في اللغة غير معنى الإسلام في اللغة؛ لأنَّ الإيمان معناه في اللغة التصديق القلبي، والإسلام معناه في اللغة الاستسلام والانقياد الظاهري، فالإيمان من عمل القلب، والإسلام من عمل الجوارح الظاهرة.

وأما في لسان الشرع فالإيمان والإسلام متلازمان، ولا يُعتبر التصديق القلبي إذا لم يكن عن إذعان وقبول واستسلام لما صدَّق به، ولا يعتبر الانقياد الظاهري إذا لم يكن عن عقيدة وتصديق بما انقاد له، فمن صدَّق بقلبه بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من غير إذعان له ولا قبول للعمل به فهو غير مُؤمن وغير مسلم.

ومن انقاد بظاهره وعمل بجوارحه بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من غير تصديق بقلبه واعتقاد بصدقه فهو غير مؤمن وغير مسلم، ويؤيد هذا قوله تعالى: [وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ] {آل عمران:85}.

فالمراد بالإسلام: الاستسلام والتسليم عن عقيدة وتصديق، ويؤيده أيضاً حديث: (بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاء الزكاةِ، وصومِ رمضان، وحجِّ البيت من استطاع إليه سبيلاً)، فقد جعل قواعد الإسلام العقيدة والعمل.

وأما قوله تعالى: [قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] {الحجرات:14}، فالمراد بالإيمان والإسلام فيه معناهما اللغوي، لأنَّ هؤلاء ما آمنوا ولا صدَّقوا بقلوبهم، ولكن استسلموا وانقادوا بظواهرهم وجوارحهم.

ما المراد بالإيمان بالله تعالى؟

المراد بالإيمان بالله تعالى: الإيمان بوجوده، ووحدانيَّتِه في ألوهيته، أي: أنه لا إله سواه ولا معبود بحق غيره، ووحدانيته في ربوبيته، أي أنَّه لا يقصد سواه ولا يطاع إلا هو سبحانه، والإيمان باتصاف بكل صفات الكمال وتنزيهه تعالى عن أي نقص.

وهذا الإيمان بالله تعالى بالمعنى الذي بيَّناه؛ إيمان بما تقتضيه الفطرة، ويهدي إليه العقل السليم، فإنَّ الفطرة التي لم تفسدها الأوهام والعقول التي لم تغلبها الأهواء، تؤمن بأنَّ كل موجود لابدَّ له من مُوجد، وكل صنعة لابدَّ لها من صانع، وكل مُتحرِّك لابدَّ له من محرِّك.

وتؤمن بأنَّ موجد هذا العالم البديع نظمه، المحكمة سننه ونواميسه، المتسقة أجرامه وأجزاؤه وجزئياته، لابدَّ أن يكون محيطاً علمه، تامة قدرته، مُتصرفاً بإرادته، متصفاً بكل كمال، وكيف تسير سيارة وتجتاز الطرق وتقف في مواقف، وتتفادى الاصطدام من غير سائق؟ وكيف تسبح السفينة وتتجه في الاتجاهات المعيَّنة وترسو في الثغور المقصودة وتتجنب الأخطار من غير رُبَّان.

وتؤمن بأنَّ هذا التدبير العالمي المحكم والتنظيم الكوني الدائم المستقر لا يصدر إلا عن إله واحد، لأنَّه لو تعدَّد المدبِّرون لاختلفت طرق التدبير وما استقامت النظم وفسدت السماوات والأرض.

وإلى هذه الاستدلالات الفطريَّة على وجود الله تعالى وكمال قدرته ووحدانيَّته أشار القرآن الكريم في آياته الدالَّة على إيجاد العالم وتكوينه، وفي آياته الدالَّة على إبداع نظمه، وفي آياته الدالَّة على وحدانية الخالق. 

اقرأ قوله تعالى: [أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ] {الطُّور:36-37}. 

واقرأ قوله تعالى: [ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ] {إبراهيم:10}. 

واقرأ قوله تعالى: [لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] {يس:40}. 

واقرأ قوله تعالى: [مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ] {المؤمنون:91}.

ما المراد بالإيمان بملائكته؟

المراد بالإيمان بملائكته: الإيمانُ بوجود ملائكة لله تعالى هم من العالم الغيبي، وهم جنود الله تعالى في تنفيذ أحكامه وتدبيره، وهم سُفراء بين الله تعالى ورسله، وهو سبحانه ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده، وهم من عبيد الله تعالى مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأصل مادتهم التي خلقوا منها لا يعلمها إلا الله سبحانه، وعددهم وتفصيل وظائفهم ونظم حياتهم في عالمهم لا يعلمها إلا الله تعالى، والمطلوب: الإيمان والتصديق بوجودهم وسفارتهم بين الله تعالى ورسله، وليس على المؤمن أن يبحث في حقيقة تكوينهم، ولا في أنَّهم ذكور أو إناث، ولا في أنهم يتناسلون أو لا يتناسلون، فهذا لا يَقتضيه الإيمان بهم.

ما المراد بالإيمان بكتبه؟

المراد بالإيمان بكتبه: الإيمانُ بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، وبما أنزل من قبله على رسل الله تعالى كصحف إبراهيم، وتوراة موسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى صلى الله عليهم وسلم. 

قال الله تعالى في وصف المهتدين المتقين: [وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ] {البقرة:4}. فعلى المؤمن أن يؤمن بما أنزل الله تعالى على رسله من الكتب السماويَّة، وأن يؤمن بأنَّ كل كتاب منها من عند الله تعالى أنزله سبحانه على من أنزله إليه لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وكلُّ كتاب إلهي فيه هدى ونور.

ما المراد بالإيمان برسله؟

المراد بالإيمان برسل الله تعالى: الإيمانُ بأنَّ الله سبحانه أرسل رسلاً إلى الخلق لهدايتهم إلى الحق، وإرشادهم إلى ما يحقق لهم الخير والفوز في مَعَاشهم ومعادهم، وأنَّ رسل الله تعالى بلَّغوا رسالاتِ ربِّهم وصَدَقوا فيما بلغوا عنه، وما خافوا أمانة ولا كذبوا في بلاغ. 

ونؤمن تفصيلاً بما فصَّل الله أخبارهم في كتبه، ونؤمن إجمالاً بما لم يفصِّل الله تعالى أخبارهم، ونؤمن بأنَّ منهم من قصَّه الله تعالى علينا في القرآن، ومنهم من لم يقصصه، ونؤمن بأنَّهم من البشر وليسوا ملائكة ولا آلهة، فهم بشر مثل سائر الناس اختارهم الله تعالى ليوحي إليهم بما أراد أن يبلغوه لخلقه ويدعوهم إليه، ولا نفرِّق بين رسول ورسول من حيث إنَّه رسول، فكلهم من حيث إنَّ الله تعالى اصطفاهم للرسالة سواء، وهذا لا ينفي أنَّ الله تعالى فضَّل بعضهم على بعض من وجوه أخرى، كما قال تعالى: [تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ] {البقرة:253}.

ما المراد بالإيمان باليوم الآخر؟

المراد باليوم الآخر: الوقت الذي يَبتدئ من حين البعث من القبور إلى أن يسعد أهل النعيم بالجنَّة، ويشقَى أهل الجحيم بالنَّار، والمراد بالإيمان به: التصديق بما ورد في القرآن مما يكون فيه من بعث وحشر وحساب، وجزاء، وسائر ما دلَّت عليه النصوص الصريحة.

والإيمان بهذا يكون على الإجمال فيما لم يفصِّله القرآن، وأما البحث في كيفية البعث والحشر وكيف يجمع الناس للحساب، وكيف يحاسبون، والبحث في حقيقة نعيم أهل الجنة في الجنَّة، وعذاب أهل النَّار في النَّار، وغير هذا مما لا تفصيل له في القرآن، فهذا لا يتوقَّف عليه الإيمان باليوم الآخر.

ما المراد بالإيمان بالقدَرِ خيرِه وشَرِّه؟

القدر معناه: التقدير، والمراد بالإيمان بالقدر: الإيمانُ بأنَّ الله سبحانه قدَّر الخير والشر في القِدَم، وأنَّ ذلك سيقع في أوقات معلومة عنده على صفات مخصوصة عيَّنها، فكل ما يقع في الكون من خير أو شر أو طاعة أو معصية قد قدَّره الله سبحانه في الأزل، وسجَّله في كتاب مبين، وعلى المؤمن أن يُذعن ويعتقد أنَّه لا يقع في الكون من خير أو شر إلا ما قَدَّره في الأزل سبحانه، فما شاء الله تعالى كان، وما لم يشأْ لم يكن، وهي مما يقتضيه الإيمان بالألوهيَّة والربوبيَّة، فالإله لا يطاع إلا بإرادته، ولا يعصى قهراً عنه.

وقد خاض في الإيمان بالقدر كثير من الناس، وعجبوا كيف يُقدَّر على الإنسان كل ما يكون منه ثم يُسأل عن كل ما يكون منه؟ وعجبوا كيف يُقدَّر على الإنسان ما يفعله وما يتركه ثم يؤمر بفعل ما أو بكفٍّ عن فعل؟

وقد روى البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أيُعرف أهل الجنَّة من أهل النار؟ قال: نعم، قال: فلِمَ يعمل العاملون؟ قال: كلٌّ يعمل لما خلق له، أو كل مُيسَّر لما خلق له.

والتوفيق بين الإيمان بالقدر خيره وشره من مواضع الزَّلل، ومن الأسباب التي أوجدت في المسلمين شِيَعاً وفِرَقاً، وقد ورد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ذُكِر القدر فأمسكوا).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد التاسع، المجلد السابع، جمادى الأولى 1373 يناير 1954).

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين