الفتح الإسلامي لفلسطين(1)

 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين ، وبعد ...

فقد اتجهت أنظار المسلمين إلى فلسطين منذ وقت مبكر ، امتد إلى الأيام الأولى لبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث كان المسجد الأقصى بها موضع قبل المسلمين في الصلاة التي وجبت على المسلمين منذ الأيام الأُوَل ، ثم زاد هذا الاهتمام بعد أن أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إليها ، إذ نزلت في تلك الحادثة آيات تتلى على مسامع المسلمين كل حين ، ثم ازداد هذا الاهتمام بعد أن عرض القرآن الكريم بالتفصيل كثيرا من الأحداث التي وقعت للأنبياء الذين عاشوا أو مروا بها ، واستقر في وجدان المسلمين أنها جزء من العالم الإسلامي بعد مكة مباشرة حتى قبل أن تعرف المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية الأولى.

ولذلك ما أن فرغ النبي صلى الله عليه وسلم أو كاد من فرض سيطرة الإسلام على الجزيرة العربية حتى صرف انتباهه نحوها لتكون المسرح الثاني لنشر الإسلام بعد استقراره بجزيرة العرب  ، وخاصة بعد أن انسال الإسلام شرق الأرض ، فأسلم أهل تبالة وجرش وبطون من قضاعة، يقول ابن إسحاق :" ثُمّ قَفَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ( أي قادما من حجة الوداع ) فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيّةَ ذِي الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمَ وَصَفَرَ ، وَضَرَبَ عَلَى النّاسِ بَعْثًا إلَى الشّامِ ، وَأَمّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُوطِئَ الْخَيْلَ تُخُومَ الْبَلْقَاءِ وَالدّارُومِ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ ، فَتَجَهّزَ النّاسُ وَأَوْعَبَ مَعَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوّلُونَ " وعقد له اللواء آخر يوم من صفر 11هـ - 28 أيار/ مايو 632م ..

 ولكن مرض رسول الله ووفاته في 12 ربيع الأول أخّر خروج هذا الجيش حتى أمره الخليفة أبو بكر الصديق بذلك، فخرج في أول ربيع الثاني 11 هـ - 27 حزيران/ يونيو 632م.بعد أن زوده بنصحه قائلا : اغز حيث أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية فلسطين، وعلى أهل مؤتة، فإن الله سيكفي ما تركت.

ولكنه لم يتقدم كثيرًا, بل بلغ الموضع الذي قُتِلَ أبوه زيد بن حارثة فيه، وهو من أرض الشام فرجع؛ لأن الرسول أمره في حياته بالمسير إليه

ثم اشتعلت نيران الفتنة من المرتدين فأرجأ الصديق فتح فلسطين حتى أخمدها تماما في خلال عام واحد ، ثم أسرع الجيش الإسلامي بعد انتهائه ليباشر فتح فلسطين ، فقد ذكر أبو جعفر الطبري عن محمد بن إسحاق أن تجهيز أبي بكر الجيوش إلى الشام كان بعد قفوله من الحج سنة اثنتي عشرة ، وأنه حينئذ بعث عمرو بن العاص قبل فلسطين.

وحتى لا يترك للروم فرصة للدفاع عن وجودهم بها فإنه أرسل مجوعة جيوش متفرقة في باقي أنحاء الشام لتشتت على الروم شمل جيوشهم ..

وكان عمرو قبل ذلك أميرا على البحرين من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أتم فتحها ، فكتب إليه الصديق يخيره بين البقاء في عمله الذي أسنده إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبين أن يختار له ما هو خير له في الدنيا والآخرة إلا أن يكون الذي هو فيه أحب إليه، فكتب إليه عمرو بن العاص رسالة تنم عن كمال طاعته لأميره وعن حبه واستعداده للتضحية بكل شيء في سبيل نصرة دينه ، وليس كما صوره البائسون بانه يوظف دهاءه للوصول للمناصب ، فقال : " إني سهم من سهام الإسلام وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به " .

ثم أسرع عائدا إلى المدينة فلما قدمها أمره أبو بكر - رضي الله عنه - أن يعسكر خارجها حتى يندب معه الناس، وقد خرج معه عدد من أشراف قريش، منهم: الحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل.

فلما أراد المسير خرج معه أبو بكر يشيعه وقال له : يا عمرو إنك ذو رأي وتجربة بالأمور وبصر بالحرب، وقد خرجت مع أشراف قومك ورجال من صلحاء المسلمين، وأنت قادم على إخوانك فلا تألهم نصيحة، ولا تدخر عنهم صالح مشورة، فرب رأي لك محمود في الحرب مبارك في عواقب الأمور. فقال عمرو بن العاص: ما أخلقني أن أصدِّق ظنك، وأن لا أفَيِّل رأيك. (ورد عليه هذا الرأي المحمود مع إنه كان يكبره بسنوات ) .

وفي رواية أخرى أنه نصحه قائلا : له: اتق الله في سرك وعلانيتك، واستحيه في خلوتك؛ فإنه يراك في عملك. قد رأيت تقدمي لك على من هو أقدم منك سابقة وأقدم حرمة، فكن من عمال الآخرة، وأرد بعملك وجه الله، وكن والدًا لمن معك. والصلاة ثم الصلاة، أذن بها إذا دخل وقتها، ولا تصلِّ صلاة إلا بأذان يسمعه أهل العسكر. واتق الله إذا لقيت العدو، وألزم أصحابك قراءة القرآن، وانههم عن ذكر الجاهلية وما كان منها، فإن ذلك يورث العداوة بينهم، وأعرض عن زهرة الدنيا حتى تلتقي بمن مضى من سلفك، وكن من الأئمة الممدوحين في القرآن، إذ يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} .

خرج عمرو ـ بعد ذلك ـ بقواته ، وكان تعدادها يتراوح ما بين ستة إلى سبعة آلاف مجاهد ، فبدأ كما ذكر البلاذري بفتح غزة ـ ربما ليفصل فلسطين عن مصر حيث كان يحكمهما جميعا الروم.

وقبل خروجه كان الروم قد جمعوا لهم جمعا بمنطقة تسمى " العربة " بفلسطين فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَبَا أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ فَهَزَمَهُمْ، فَكَانَ أَوَّلَ قِتَالٍ بِالشَّامِ بَعْدَ سَرِيَّةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. ثُمَّ أَتَوُا الدَّائِنَ فَهَزَمَهُمْ أَبُو أُمَامَةَ أَيْضًا.

وأما باقي الأمراء الذين أرسلهم الصديق لفتوحات الشام فهم : أبو عبيدة بن الجراح ، وقد سار حتى نزل الْجَابِيَةَ، وَيَزِيدُ بن أبي سفيان ، وقد نزل الْبَلْقَاءَ، وَشُرَحْبِيلُ بن عامر وقد نزل الْأُرْدُنَّ.

وقد َبَلَغَ الرُّومُ أمرهم فَكَتَبُوا إِلَى هِرَقْلَ، وَكَانَ بِالْقُدْسِ يعرضون عليه الأمر ، فَقَالَ: أَرَى أَنْ تُصَالِحُوا الْمُسْلِمِينَ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ تُصَالِحُوهُمْ عَلَى نِصْفِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الشَّامِ وَيَبْقَى لَكُمْ نَصِفُهُ مَعَ بِلَادِ الرُّومِ - أَحَبُّ إِلَيْكُمْ مِنْ أَنْ يَغْلِبُوكُمْ عَلَى الشَّامِ وَنِصْفِ بِلَادِ الرُّومِ. فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَعَصَوْهُ، فَجَمَعَهُمْ وَسَارَ بِهِمْ إِلَى حِمْصَ، فَنَزَلَهَا وَأَعَدَّ الْجُنُودَ وَالْعَسَاكِرَ، وَأَرَادَ إِشْغَالَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِطَائِفَةٍ مِنْ عَسْكَرِهِ؛ لِكَثْرَةِ جُنْدِهِ؛ لِتَضْعُفَ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَمَّنْ بِإِزَائِهِ، فَأَرْسَلَ تَذَارِقَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ فِي تِسْعِينَ أَلْفًا إِلَى عَمْرٍو، وَأَرْسَلَ جَرَجَةَ بْنَ تُوذَرَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَبَعَثَ الْقَيْقَارَ بْنَ نَسْطُوسَ فِي سِتِّينَ أَلْفًا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَبَعَثَ الدُّرَاقِصَ نَحْوَ شُرَحْبِيلَ، فَهَابَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَكَاتَبُوا عَمْرًا مَا الرَّأْيُ، فَأَجَابَهُمْ: إِنَّ الرَّأْيَ لِمِثْلِنَا الِاجْتِمَاعُ، فَإِنَّ مِثْلَنَا إِذَا اجْتَمَعْنَا لَا نُغْلَبُ مِنْ قِلَّةٍ، فَإِنَّ تَفَرُّقَنَا لَا يَقُومُ كُلُّ فِرْقَةٍ لَهُ بِمَنِ اسْتَقْبَلَهَا لِكَثْرَةِ عَدُوِّنَا.

وَكَتَبُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَأَجَابَهُمْ مِثْلَ جَوَابِ عَمْرٍو وَقَالَ: إِنَّ مِثْلَكُمْ لَا يُؤْتَى مِنْ قِلَّةٍ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى الْعَشْرَةُ آلَافٍ مِنَ الذُّنُوبِ، فَاحْتَرِسُوا مِنْهَا، فَاجْتَمَعُوا بِالْيَرْمُوكِ مُتَسَانِدِينَ، وَلْيَصِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِأَصْحَابِهِ.

فَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْيَرْمُوكِ، وَالرُّومُ أَيْضًا وَعَلَيْهِمْ التَّذَارِقُ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ جَرَجَةُ، وَعَلَى الْمُجَنِّبَةِ بَاهَانُ، وَلَمْ يَكُنْ وَصَلَ بَعْدُ إِلَيْهِمْ، وَالدُّرَاقِصُ عَلَى الْأُخْرَى، وَعَلَى الْحَرْبِ الْقَيْقَارُ.

فَنَزَلَ الرُّومُ وَصَارَ الْوَادِي خَنْدَقًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَتَأَنَّسَ الرُّومُ بِالْمُسْلِمِينَ لِتَرْجِعَ إِلَيْهِمْ قُلُوبُهُمْ، وَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى طَرِيقِهِمْ، لَيْسَ لِلرُّومِ طَرِيقٌ إِلَّا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عَمْرٌو: أَبْشِرُوا! حُصِرَتِ الرُّومُ، وَقَلَّ مَا جَاءَ مَحْصُورٌ بِخَيْرٍ.

وَأَقَامُوا صَفَرًا عَلَيْهِمْ وَشَهْرَيْ رَبِيعٍ لَا يَقْدِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْوَادِي وَالْخَنْدَقِ، وَلَا يَخْرُجُ الرُّومُ خَرْجَةً إِلَّا أُدِيلَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ.

وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله إن كان في العمر بقية وفي الصحة متسعة ..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين