وسطية الإسلام نبراس الصحوة ومنطلقها الحقيقي

 

لا تزال الأمَّة الإسلاميَّة منذ شكَّلها القرآن وأقامها محمد صلى الله عليه وسلم ومنذ يومها الأول تواجه التحديَّات وتواجه الأحداث بيقين لا يتزعزع، وبإيمان صادق لا يلين بأنها على الحق ولها النصر في خاتمة المطاف.

حيث لا تلجئها الأزمات إلى اليأس ولا تملؤها الانتصارات استعلاء أو فرحاً وهي سنة الله تبارك وتعالى القائمة فينا الماضية إلى يوم القيامة أن بنيت على تعبئة، وأن نكون في رباط إلى يوم القيامة، فإذا ادلهم وجه الأحداث رجعنا إلى أنفسنا لنسأل: هل نحن حقاً على الصراط المستقيم الذي رسمه لنا القرآن؟ أم اتبعنا السبل التي تفرق عن سبيله؟.

فإذا ما عدنا إلى الله تعالى قبلنا وكتب لنا النصر ومكَّن لنا في الأرض: [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ] {الحج:41}.

ونحن منذ فجر هذه الصحوة نبحث عن المنطلق الحقيقي الذي يمكن هذه الأمة من امتلاك إرادتها وإقامة مجتمعها الرباني، وتذهب بنا الرياح شمالاً ويميناً، وقد آن لنا أن نثبت على الجادَّة.

آن لنا أن نثق ثقة أكيدة بأنَّ منطلقنا الحقيقي هو (الوسطية: وسطية الإسلام) المتمثِّلة في مُغالبة نواميس الكون، لا نتعجَّل النتائج، ولا نميل نحو التطرُّف، أو نحو الجمود، بل نلتمس طريقنا صامدين لا يتزعزع إيماننا بالنصر مهما طال أمر الباطل، أو تمكَّن ما دمنا قد أخذنا بقوانينه سبحانه التي قدَّمها لنا القرآن الكريم حين دعانا أن نثبت في مواقعنا: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {الأنفال:45}.

هذا الصمود مع الصبر والمجاهدة والتماس مرضاة الله تبارك وتعالى هو وحده المنطلق الحقيقي للأمة الإسلامية في هذه المرحلة من حياتها.

نحن نؤمن إيماناً صادقاً وأكيداً ولا يتزعزع بأنَّ الإسلام إلى نصر وتمكين وأنه هو الحق المبين الذي سوف تستسلم له كل القلوب والعقول وصدق برناردشو حين قال: (إنَّ أوربا سوف تعتنق الإسلام في أقل من مائة عام ولو تحت اسم آخر).

ونحن نرى عشرات من المفكرين والفلاسفة الغربيين اليوم قد تأكدوا تماماً من أن الإسلام والإسلام وحدَه هو أمل البشرية ومنطلقها وإن كان لا يزال دون تحقيق ذلك عقبات وأهوال.

فإذا كنا على الحق، ونحن فعلاً على الحق، فلا نخاف إذا ادلهمت الأحداث وأحسَّ المسلمون في عديد من الأقطار بالمحنة تحاصرهم وقد انقطع عنهم عون إخوانهم في أقطار أخرى لأنهم يقاسون مثلهم.

ولا يزيدنا هذا إلا إيماناً: قال تعالى: [وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا] {الأحزاب:22}.

فنحن مطالبون اليوم بتأكيد مفهوم (وسطية الإسلام) بعيداً عن التشدد والتعقيد والتأويل، وبعيداً عن أساليب العنف والتعجل في اقتطاف الثمرة، وبعيداً عن مفاهيم الفكر المتطرِّف الذي لم يقبل به المسلمون يوم أن حمل لواءه الباطنية والمتعصبون وقساة القلوب والخارجون، وردوا عليه ودحضوه وغلَّبوا عليه مفاهيم أهل السنة والجماعة القائمة على سلامة القصد وصدق النية ونقاء السريرة والسماحة في التعامل مع العناصر المختلفة التي تعيش داخل المجتمع.

قضية أساسية:

وليس يَعني هذا: الرضا بالهوان أو التسليم بالأقل، فنحن المسلمين نؤمن أساساً بأنَّ العِزَّة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأنَّ الإسلام يدعونا إلى صدق الإيمان والتضحية بالنفس في سبيل الحق ويجعل من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قضية أساسية، ويدعونا إلى الجهاد بمفهومه الفقهي الصحيح في السلم والحرب وفي كل قضية و مجال، وليكن شبابنا صادق الإيمان بالإسلام، عاملاً على تطبيقه في مجتمعه وبين أهله، حتى يصبح المجتمع كله ربانياً وفق مفهوم الإسلام الصحيح بوصفه منهاج حياة، ونظام مجتمع، حيث يقدم الإسلام تصوراً كاملاً في مختلف جوانب الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتربية، يقوم على تطبيق الشريعة الإسلامية، وتأكيد اتجاه المرأة المسلمة إلى الحق، والتحرُّر من الاقتصاد الربوي.

وفي تقرير أخير تعلن هيئة الإحصاء العالمية: أنَّ تعداد المسلمين وصل إلى مليار و500 مليون نسمة، هكذا صرح الخبير عبد الرحيم عمران بالأمم المتحدة، موزعين على 52 دولة إسلامية في جميع القارات، من بينهم 929 مليوناً يعيشون في صورة أقليات، وكانوا في أول القرن الخامس عشر ألف مليون.

وقد أعطى المسلمون الطاقة والثروات المدفونة والتفوق البشري فضلاً عن البواغيز (البوغاز هو المضيق البحري بين بَرَّين) والخلجان التي تسيطر على اقتصاد العالم كله.

منهج الإسلام:

ولابد أن يكون للمسلمين والعرب مشروعهم الحضاري المستقل الصحيح والسليم والمستمد من منهجهم الرباني ومنابعهم الأصيلة، وهو منهج يقوم على التوحيد والغيب والنبوة إلى جوار العلم والعقل، ولقد جاء هذا العطاء المادي والمعنوي إنما يَرمي أساساً إلى حماية الوجود الإسلامي بالقوة والردع واستعادة الحق الضائع وتحرير الأرض السليبة.

وسيعطي منهج الإسلام الإنسانية كلها قاعدة التعامل مع البشر بالأمن والعدل على أساس العمل لا على أساس التفرقة العنصرية التي تحاول اليوم أن تجتاح الأمم بعد أن سقطت الأيدلوجيات، وما كان الإسلام يوماً ظالماً أو مانعاً، ولكنه أعطى البشرية المنهج العلمي التجريبي المستمد من القرآن الكريم، وأعطاها الإخاء والمساواة والرحمة، وقدَّم تلك النماذج الكريمة من السماحة والخلق الرفيع في مقاومة العدوان من أمثال: صلاح الدين، ومحمد الفاتح، وبيبرس، وقلاوون، وغيرهم.

كما قدَّم الحرية المنضبطة وقدَّم الأخلاق كجزء من العقيدة ثابتة لا تتغير، وربط الحرية بالالتزام، وأقام العدالة الاجتماعية، والشورى، ودعا المسلمين إلى قبول العلم والبحث عنه، وهو يقصد العلم التجريبي، وليس العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تملك كل أمة منها مفاهيمها وقيمها.

انتصارات الفكر الحديث:

وقد أدركت الأمَّة الإسلامية على مدى العصور مُتغيرات العصر وأحسنت التعامل معها عندما أقامت منهج الثوابت والمتغيرات، وفي الفقه باب واسع لتغير الفتوى بتغير الظروف، ودون أن يغير ذلك من الثوابت التي أقامها الإسلام، ودعا الإسلام إلى التوازن بين ملكات الجسم والعقل والروح، ولعله ليس من المبالغة في شيء أن نقول إن كل الانتصارات التي حققها الفكر الحديث قدَّمها الإسلام قبل أربعة عشر قرناً، واستطاع أن يحققها في مجتمعه حتى قطعها النفوذ الأجنبي عندما سيطر على العالم الإسلامي وحجب مبادئه وإبداعات أهله:

1 – نظرية حقوق الإنسان.

2 – إلغاء الرق أو تجارة العبيد.

3 – تفوق جنس على جنس.

4 – حرمان المرأة من حقوقها.

5 – الإكراه في الدين.

6 – حقوق الأقليات.

كذلك فقد أعلن الإسلام حق العقل في النظر فضلاً عن أنه منطلق التكليف ولكن بمفهوم مختلف عن مفهوم الغرب، فهو أولاً ليس مُقدَّساً، وثانياً إنه ليس مفرداً، فالإسلام يجمع بين العقل والوحي ويجمع بين العقلانية والوجدانيَّة، ويقدم الوحي على العقل، ويرى أنَّه نوره وضياءه.

وقد دعا الإسلامُ إلى التغيير والتطور، ولكن من منطلق أصيل، فهو لا يقرُّ التغيير الدائم ولا التطور المطلق دون تقدير للثوابت، ويعتبر الإسلام الثوابت أسساً دائماً مستمرَّة غير قابلة للتطوُّر أو التغيير، ولكن يمكن تطوير أساليبها ووسائلها. 

والمعرفة الإسلامية تقوم على قاعدتين ثابتتين هما الغيب والعقل فإذا حذفنا الغيب تصبح معرفة ناقصة منشطرة بعيدة عن الاستجابة الحقيقة للإنسان المشَكَّل أساساً من قبضة الطين ونفخة الروح.

ولذلك فنحن لا نقرُّ الدعوة إلى التعميم بين القيم دون مراعاة القيم الثوابت، والقيم القابلة للتغير، والإسلام لا يفرض الجمود ولا الثبات الدائم، ولا يقف أمام التطور والتغيير في القيم الجزئية.

والإسلام لا يقدس الماضي ولا التاريخ ولا التراث، ولكنه يراه طاقة ضوء وتجربة نستفيد منها ونبني على الصحيح منها، وهو لا يُغالي في نفس الوقت في الخضوع لقيمة الحضارة الغربية لمخالفتها لمنهاج الإسلام في بعض المواضيع، وهو لا يفصل التراث عن العصر ذلك أنَّ تراثنا غير تراث الغرب.

ومن هنا كان منهج الوسطيَّة الإسلاميَّة هو منطلق الصحوة الإسلاميَّة ونبراسها الذي يحقق قيام المشروع الحضاري الإسلامي الجامع بين المادَّة والروح والعقل والقلب والدنيا والآخرة.

ولا ريب أنَّ مفهوم الإسلام قائم على قاعدة أخلاقيَّة أساسيَّة تحميه من الوثنيَّة والإباحيَّة والكشف والعُري والجنس وكل المحرَّمات التي تحاول أقلام كثيرة ضالَّة اليوم أن يفتح فيها الثغرات لهدم الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم، ولقد عاش المجتمع الإسلامي خلال أربعة عشر قرناً على القيم الخلقية كالعفاف والشرف، والبكارة والنقاء، وهي ظاهرة قلَّما تستطيع الأقلام اليائسة أن تحقق لها وجوداً حقيقياً في قلب يملؤه عطاء القرآن والسنة وكرامة الإنسان وارتفاعه عن الدنيا.

نحن المسلمين لا نؤمن بالعبثيَّة ولا بالوجوديَّة وبالفكر المادي مهما نشرت صفحاته، ولن تخرج الأمة الإسلاميَّة من إهابها الذي شكلها منذ أربعة عشر قرناً، وسوف تعجز كل القوى أن تحتويها أو أن تقهرها في بوتقتها، وستكون قادرة دوماً وفي كل أزمة على الخروج منها فالإسلام دائماً يرفض الجسم الغريب ويدفع أهله إلى العودة إلى المنابع.. 

ومعنى هذا كله أن نؤمن إيماناً صادقاً بالمنهج الإسلامي، وأن نعرف وجوده الخطر والمؤامرات التي تحاول أن تجتاح الوجود الإسلامي، وأن نكون قادرين على امتلاك الإرادة والصبر والمصابرة والمرابطة في صمود حاسم، وفي أداء حقيقي لشريعة الله تعالى ليس في العبادات فحسب، بل في المعاملات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة ونحن لا نبني في فراغ فإنَّ لدينا الأصول الثابتة للشريعة الإسلامية واللغة العربيَّة في دستور الأمَّة أساساً مكيناً لكل تحول نحو استكمال وجودنا الحضاري الأصيل.

وبالجملة فإنَّه إزاء كل التحديات القاسية والأوضاع المظلمة والمؤامرات التي تتجمَّع حولها قوى الطغيان والإلحاد والعلمانية لا أمل للمسلمين ولا مخرج من الأزمة إلا بشيء واحد وهو: (العودة إلى التماس منهج الله سبحانه وتعالى).

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة الحادية والخمسون، جمادى الأول 1413 - العدد 5).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين