الفاتح الذي اشتقنا لعودة أيامه (14)

 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ، ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. .. وبعد

فقد انتهى بنا الحديث في الحلقة السابقة عند زحف السلطان الفاتح إلى طرابزون بجيشه بين جبال "كموشخانة" الوعرة المغطاة بالثلوج، والمعاناة التي تحملها في سبيل الله عز وجل  ، حيث كان يضطر في بعض الأوقات لأن يترجل عن فرسه ، ويتسلق الجبال على يديه ورجليه كسائر الجند ، فقالت له " ساري خاتون " وقد دهشت من فعله : فيمَ تشقى كل هذا الشقاء يا بني ، وتتكبد كل هذا العناء ، هل تستحق طرابزون كل هذا؟ ..

ولذلك يقال : إن عبوره من هذا الطريق الموحش لا يقل عظمة عن تسيير السفن عبر البر عند فتح القسطنطينية ، وقد فوجئ إمبراطور "طرابزون" بالسلطان وجيشه يهبط عليه من فوق الجبال التي ما تخيل أن يخرج إليه عدو منها أبدا  فاستسلم له ، وفتحت المدينة دون أي مقاومة تذكر ، فأناب السلطان على البلاد رجلا من أتباعه ، وترك معه حامية ، وبعث إليه ببعض الدعاة لنشر الإسلام بين سكان البلاد ، ثم اصطحب الإمبراطور " داود كومنين " مع زوجته الملكة "ألني"، وأولاده الثمانية، وكل أفراد أسرته ، بعد أن أخذوا سائر أموالهم وأمتعتهم ، وأركبهم في سفينة ، وبعث بهم إلى "إسلام بول"  ليعيشوا في حي  "سرز" وقد منحهم به كثيرا من الإقطاعيات ..

غير أنه هذا الإمبراطور لم يلبث أن سعى للتآمر على السلطان لاسترجاع ملك طرابزون ، وعثرت مخابراته على كتاب جاء إليه من أخته زوجة "أوزول حسن " تخبره بأن زوجها سيمده بالقوات اللازمة عند خروجه ، فما كان من السلطان الفاتح إلا أن أمر بإعدامه وبعض أفراد أسرته الذين ثبت اشتراكهم في المؤامرة .  

وبعد أن فرغ السلطان من فتح  "طرابزون"  سمح  لـ " ساري خاتون " بالعودة إلى ابنها بعد أن قدم لها العديد من الغنائم التي غنمها عند الفتح ، وأرسل معها بعض جنوده ليكونوا مرافقين لها وحاشيتها حتى تصل بسلام .

وكانت إمبراطورية "طرابزون" هي المملكة النصرانية السادسة التي قضى عليها السلطان "محمد الفاتح" إذا استثنيت مستعمرة "آماسرا" التي اقتصرت على جالية جنوية، وكذلك إمارة "إسفنديار" التي كانت تابعة لآماسرا ..

ولم يبق بعد فتحر " طرابزون " أي بلاد في الأناضول خارج سيطرة الدولة العثمانية ، ولذلك اكتفى السلطان بما حققه فيها من انتصارات ، ورفض أن يتوسع تجاه الشرق على حساب الأمراء المسلمين الموجودين به ؛ لأن غايته كانت تتمثل في فتح البلاد غير المسلمة فقط لنشر الإسلام بها ، ويرى أن الانشغال بمحاربة المسلمين المخالفين له في الرأي مضيعة للوقت ، ولا يستفيد منها غير أعداء الإسلام ، ولما نصحه بعض رجاله بالسير إلى "أوزون " والقضاء عليه عقابا له على التآمر ضده ، ونكثه للعهد الذي تكفلت به أمه قال : كان عقاب أوزون حسن بالنار والحديد صحيحا وضروريا لتهوره في مصلحة الدولة ، ولكن إبادة سلالته يكون خطأ وعمل غير نبيل ؛ لأن تحطيم السلالات القديمة لسلاطين الإسلام العظام ليس عملا حسنا .

وبفتح طرابزون والقضاء على الخطر الذي كان يتهدد الدولة العثمانية من جانب حسن أوزون وجد السلطان أنه قد فرغ تماما من توحيد آسيا الصغرى تحت لواء دولته ، وبسْط سيادتها على جميع سواحل البحر الأسود الجنوبي ، فاتجه بفتوحاته إلى الساحل الشمالي للبحر الأسود ، وكان في هذا الساحل بعض المستعمرات الجنوية الهامة ، وكانت جنوا بواسطتها تسيطر على تجارة البحر الأسود منذ القرن الرابع ، بينما كان يحكم داخل شبه جزيرة القرم ملوك التتار المسلمون ، وكانوا في نزاع فيما بينهم في هذه الآونة ، فطلبوا العون من الفاتح لحل النزاع ، فأسرع لإعانتهم خشية أن يستغل الجنويون هذا النزاع ، ويتدخلون في شئون ممالك التتار ، ويسيطرون على مصادر الثروة بها ، وخاصة في مدينة " كفه caffaالبحرية ، والتي كان يطلق عليها القسطنطينية الصغرى لغناها ومناعتها ، فوجه وزيره الأكبر أحمد كدك باشا في حملة بحرية  سنة 1475 م ..

وبعد أربعة أيام من حصار المدينة استطاع هذا الوزير فتحها ، ثم استولى بعد قليل على جميع شبه جزيرة القرم ، وبذلك قضى على الوجود الجنوي في سواحل القريم ، ودخل خانات القريم في طاعة الدولة العثمانية ، وظلوا كذلك لمدة ثلاثة قرون ، وظل البحر الأسود بحيرة عثمانية  ، وقد حرص السلطان على أن يتخذ من بلاد القرم فرسانا يضمهم إلى جيشه نظرا لما عُرف عنهم من بسالة وقوة في القتال ..

وبعد ذلك توجهت السفن العثمانية إلى فتح ميناء " آق كرمان " ومنها أقلعت إلى مصاب نهر الدانوب لمساعدة السلطان الذي تحرك لفتح بلاد البغدان ، لأن ملكها أستيفان الأكبر كان يهدد بلاد القرم ، وأوقع بهم عدة هزائم ، فلما صارت جزءا من الدولة الإسلامية أصبح من الواجب على الدولة حمايتها ، واستطاع السلطان إنزال الهزيمة بأستيفان وجنوده ، ولكنه فر إلى بولندا ، ثم عاد إلى البغدان بعد أن تأكد له رحيل السلطان عنها ، ولم تزال البلاد في يده حتى افتتحتها جيوش بايزيد مرة أخرى سنة 1484 م ، وقيل : إن أستيفان هو الذي وصى ابنه عند موته بالخضوع للدولة العثمانية وأداء الجزية لها ليحافظ على ملكه .

وفي عام 1480م أرسل السلطان الفاتح كدك أحمد باشا لفتح مملكة " نابولي " ثالث أكبر مدن إيطاليا ، فاستولى على تورنتو في يسر ، ولم يعد هناك ما يفصلهم عن إيطاليا وروما والفاتيكان غير جانب ضيق من البحر، عبره قيصر ( كما يقول ول ديو رانت ) بقارب صغير ، ولو قدر الله وامتد بالفاتح العمر لملكها جميعا ، لأن الجيش كان على أهبة الاستعداد للتوغل داخل الأراضي الإيطالية تجاه روما ، ولذلك يقول المستشرق " لين بول " : إن موت محمد الفاتح أنقذ أوربا ؛ لأن الدور بعد أوترنتو كان على روما نفسها "  .

وفي الوقت الذي كان فيه كدك أحمد يتوغل في بلاد إيطاليا كان السلطان قد أرسل أسطولا بحريا آخر بقيادة " مسيح باشا " إلى جزيرة " ردوس " وكان رئيسها إذ ذاك " بيير دوبوسون " الفرنساوي الأصل مشتبك في حرب بينه وبين سلطان مصر وباي تونس ، فأسرع في إبرام الصلح معهما ليتفرغ لصد هجمات الجيوش العثمانية ، التي بدأت في حصارها في يوم 13 ربيع الأول سنة 885 هـ 23 مايو سنة 1480 م ، وظلت المدافع تقذف عليها القنابل الحجرية تهدم أسوارها ، فيجتهد أهلها في بناء ما تهدم بالليل حتى دام حصارها ثلاثة أشهر ، وقبل أن يتم فتحها جاء إلى " مسيح باشا " نبأ وفاة السلطان محمد الفاتح ففك الحصار عنها ، وبذلك نجت من الوقوع في أيدي العثمانيين لتفتح بعد ذلك في عهد السلطان سليم الأول   ..

ولم ينعم السلطان بفتح روما ، ورؤية الرايات الإسلامية ترفرف على سائر أنحاء أوربا كما كان يتمنى ، فبعد حياة ليست طويلة بمقياسنا نحن الآن ( 51 عاما ) ولكنها مليئة بالإنجازات والإعمال التي مكنت للإسلام والمسلمين في الغرب قضى محمد الفاتح نحبه ، وانتقل إلى جوار ربه ،  في منطقة اسكدار على ضفاف البسفور بين جنوده الذين شاركوه كفاحه وجهاده مدة 30 سنة قضاها في السلطنة ، وهو يعد نفسه لحملة لا يُعرف اتجاهها ، ودخل سرها معه في قبره ، لأنه كان شديد الحرص على عدم كشف مخططاته العسكرية ، وكان جيشه كما قلنا على وشك غزو إيطاليا وضمها إلى العالم الإسلامي .

لقد فاضت روحه في ليلة الجمعة الخامس من ربيع الأول سنة 886 هـ الموافق ( 3 مايو 1481 م ) .. وترك دولة تبلغ مساحتها 000ر214ر2 كيلو مترا، منها في الأناضول 000ر511 كليو مترا، والباقي يقع في أوربا.

وترك لمن  خلفه وصية لا تقل في قيمتها عن الدولة الشاسعة التي تركها له ، حيث جاء فيها "كن عادلاً صالحاً رحيماً وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز ، واعمل على نشر الدين الإسلامي فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض , قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء ، ولا تفتر في المواظبة عليه ، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين ولا يجتنبون الكبائر ، وينغمسون في الفحش ، وجانب البدع المفسدة ، وباعد الذين يحرضونك عليها , وسع رقعة البلاد بالجهاد , احرس أموال بيت المال من أن تتبدد ، وإياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام ، واضمن للمعوزين قوتهم ، وأبذل إكرامك للمستحقين , وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المثبوتة في جسم الدولة فعظم جانبهم وشجعهم ، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك ، وأكرمه بالمال ، حذار حذار ، لا يغرنك المال ولا الجند ، وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك ، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة ، فإن الدين غايتنا ، والهداية منهجنا ، وبذلك انتصرنا " .

ودفن في القبر الذي بناه بالقرب من مسجده بالقسطنطينية ليزوره ويتذكره كل من ذهب إلى هذا المسجد .

وعمت بموته الأحزان في سائر أرجاء العالم الإسلامي ، وسائر ممالك الدولة العثمانية من المسلمين وغير المسلمين على السواء ، وفي المقابل تنفس ملوك أوربا الصعداء ، وعلتهم الفرحة والبهجة ، وأشعروا شعوبهم بأنهم تخلصوا من خطر عظيم وكابوس شديد وهم لا يدرون أن الفاتح ما كان يسعى إلا لتحريرهم في الدنيا والآخرة ، تحريرهم في الدنيا من سطوة الملوك والبابوات الذين حجروا عليهم ومنعوهم حتى من مجرد الفكير السليم ، وتحريرهم في الآخرة باعتناقهم الإسلام الذي سيكون نجاة للمؤمنين به إن شاء الله من نار جهنم التي أعدت للكافرين والمشركين ..

وكان أشدهم فرحا مملكة " نابولي " وجزيرة " ردوس " حيث كانتا على وشك الوقوع تحت سيطرة الدولة العثمانية ..

فأقام أهلها الأفراح والحفلات التي دامت أياما ، ولم يكن فرح أهل روما والبابا بأقل من بهجة هؤلاء ، حيث أمر البابا بإقامة الصلوات في سائر كنائس روما ، واتخاذ يوم وفاته عيدا .

وانتهت بذلك حلقات " الفاتح الذي اشتقنا لعودة أيامه" سائلا الله سبحانه وتعالى أن يعيدها على أمته الإسلامية ، وأن يجعل ما سطرته فيها في ميزان حسناتي يوم القيامة ، وفي ميزان حسنات كل من يساعد عل نشرها . 

المصدر: موقع التاريخ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين