الحلقة الثالثة من الحوار مع فضيلة الشيخ محمود فؤاد طباخ -
هذا الجزء الثالث من الحوار مع الأستاذ المربي الفاضل الدكتور محمود بن فؤاد الطباخ وفقه يتابع حديثه عن مسيرته العلمية والدعوية بعد تخرجه في الثانوية ، وسفره إلى مصر لمتابعة دراسته الجامعية ثم عودته إلى حلب وتعاقده مع بعض المدارس الخاصَّة ثم تعاقده مع السعودية للتدريس في بعض مناطق القصيم وتقدير إدارة التعليم له في تلك المنطقة .
س بعد تخرجكم من الثانوية ، كيف تابعتم مسيرتكم العلمية والدعوية ؟
بعد تخرجي في الستينات عرض علي في صيف ذلك العام أن أكون مدرساً ومسؤولاً عن تأمين جميع المدرسين لمدرسة ابتدائية صيفية أهلية ، وذلك طمعاً في قدراتي وحسن سمعتي وأدائي ، وعلى أن تترك لي حرية التصرف في كل ما أراه وتم ذلك بحمد الله ولم يقف المرتب الزهيد عائقاً في قبول هذا الطلب حيث كان المرتب 40 ل.س شهرياً ، لأن الهدف الدعوي هو الأهم في نظري . وهنا أحب أن أذكّر إخواني وأبنائي بأن هناك من يستغل الدين لمطامعهم الشخصية فلا بد من الحذر من هؤلاء ، وفعلاً كانت تلك التجربة مريرة بسبب أن أصحاب المدرسة حين حققوا أغراضهم في انتساب عدد كبير من الطلاب وأخذ أقساطهم كاملة طلبوا منا مغادرة مواقعنا جميعاً وجلب آخرين مكاننا .
وإن أنس لا أنسى ذلك اليوم الذي وقف فيه طلابي خاصة على جدار المدرسة في الشمس اللاهبة ، وكلهم يبكون على فراقي بعد أن عرفوا عزم الإدارة على ذلك ، فما كان من الإدارة إلا أن رجتني أن أتوجه إلى طلابي شفقة عليهم لإرضائهم بأسلوبي الخاص أن يكفوا عن هذا البكاء ويلتحقوا بفصلهم ، فلبيت تلك الرغبة خوفاً على أولئك الطلاب من أن ينزل بهم ما يسوءهم .
س هل تابعتم التعليم الجامعي بعد ذلك ؟
نعم لما كان حب الدعوة إلى الله يجري في عروقي فقد أحببت أن أخدم هذه الدعوة بلغة العصر الذي كان يقدر التخصصات العلمية وبخاصة الطب ، فلما حصلت على القبول في إسبانيا لدراسة الطب إذا بوالدتي أمد الله في عمرها ترفض هذا السفر البعيد ، فما كان مني إلا أن أستجيب لطلبها ، لكنها رضيت أن تكون دراستي في بلد عربي ، فسافرت إلى مصر والتحقت بإحدى جامعاتها لدراسة الرياضيات التي كانت إحدى أهدافي بعد الطب ، لما لمدرسي تلك المادة يومها من أثر بالغ على الطلاب ، إلا أنني لم أتمكن من متابعة دراستي في تلك الجامعة لظروف خاصة ، وهنا أحب أن ألفت انتباه الناشئة إلى ضرورة بر الوالدين وما له من أثر على حياة الفرد ومن ذاق عرف ، والتجربة أكبر برهان .
س هل عدتم إلى حلب بعد ذلك ؟
نعم ، عدت إلى حلب وتعاقدت مع بعض المدارس الخاصة لتدريس مادة الرياضيات والعلوم ، وكان لا بد للدعوة أن يكون لها أثر في ذلك التدريس ، وأذكر على سبيل المثال كيف تمكنت من إفهام الطلاب أن حاصل ضرب - × - = + ؛ تلك المسألة التي لم يكونوا يستوعبونها فلما ربطت ذلك بالواقع وقلت : هكذا تكون النتائج إيجابية دائماً إذا كان هناك اتفاق ؛ مهما تكن صورة ذلك الاتفاق سلبية أو إيجابية ، عندها حلت المشكلة .
وكذلك قضية فك القوس إذا كان مسبوقاً بإشارة (-) فإنها تغير كل إشارات ما بداخل القوس ، وحتى تكون تلك القضية واضحة ومفهومة فقد قلت : الشأن في ذلك كأي إنسان ناقص وسافل ، فإنه إذا سكن داراً فإنه يغير كل ما بداخلها ويقلبه رأساً على عقب ، وكذلك إشارة الناقص إذا دخلت على قوس فإنها تغير كل إشارات ما بداخله ، فكان لهذا أعظم الأثر في تفوقي في تدريس تلك المادة مما أثار غيرة بعض المدرسين ، وهذه ضريبة التفوق والنجاح دائماً عند الأقران ، كما نقل عن الإمام أبي حنيفة قوله :
وفي البساتين أشجـار منوعة وليس يـرجم إلا مــا له ثمر
وفي السماء نجوم لا عداد لها وليس يخسف إلا الشمس والقمر
ولله الحمد من قبل ومن بعد .
س هل أثّر تعاقدكم للتدريس مع بعض المدارس الخاصة على متابعة مسيرتكم العلمية ؟
لما نشأت على محبة العلم فقد قررت متابعة دراستي الجامعية إلى جانب انشغالي بالتدريس ، وذلك في تخصص اللغة العربية التي يمكن أن تخدم غرضي التعليمي والدعوي بما يتناسب مع ظرفي وانشغالي بالتدريس ، فحصلت على الإجازة ( البكالوريوس ) في اللغة العربية ولله الحمد في عام 1972 م .
وخلال تلك الدراسة الجامعية تعاقدت مع السعودية للتدريس في منطقة القصيم وكان ذلك عام 1969 م ، وكان نظام التعاقد يومها يسمع بالتعاقد على أساس نصف الجامعة براتب بين الثانوية والجامعة ، فلما قدمت المنطقة تم توجيهي إلى إحدى قرى المنطقة ، وكان لتدريسي في تلك الفترة أثر واضح ولله الحمد .
س حبذا لو تذكرون لنا بعض المواقف أثناء تدريسكم في السعودية في تلك الفترة .
أذكر أن أول زيارة للموجهين لمدرستنا كانت عجيبة وغريبة ، حيث حضر عندي أحد الموجهين حصة ثم أتبعها بثانية فخرجت معاتباً وراجعت المدير على هذا التصرف ، فما كان من المدير إلا أن تبسم وأخرج لي الدفتر الذي كتب فيه الموجه تقريره وقال : اقرأ يا شيخ ، فلما قرأت ما كتب لم أصدق أن أحداً يكتب ثناء كالذي قرأت ، عندها سألت المدير عن سبب الدخول ثانية علي فقال : لأن الموجه لم يصدق ما سمع ، فكان عليه أن يتأكد ثانية ليطمئن إلى قراره ، والأغرب من هذا أنه أبلغ إدارته وعلى رأسها مدير التعليم يومها وهو الأستاذ سليمان شلاش رحمه الله على ما أذكر ، فكان لذلك عظيم الأثر في رفعة شأني وتقديري لدى الإدارة وجميع من حولي من الأساتذة والطلاب مما جعلني أكثر قدرة على غرس الفضائل والقيم التي تنهض بالفرد والأمة ولله الحمد .
س حبذا لو تذكرون لنا بعض المواقف التي يبرز فيها هذا التقدير من قبل إدارة التعليم في تلك المنطقة .
نعم ، فلقد وعدني الموجه بناء على زيارته بأن مكاني في السنة القادمة سيكون حسب رغبتي حصراً ، ولكن عليّ أن أقابله قبل تسلم تعييني الجديد . وفعلاً فقد كنت في أحسن المدارس في بريدة معززاً مكرماً بشكل ما كنت أحلم أن يكون لمثلي .
وكمثال على ذلك فقد قام مدير المدرسة الذي تربطه صداقة مع مدير التعليم بدعوته مع معاونيه وأعضاء إدارته البارزين ، فلما حضر ولم يجدني بين الحاضرين سأل مديرَ المدرسة وهو صاحب الدعوة عني فقال : هذه الدعوة خاصة بكم ولم أدع إليها أحداً من المدرسين فأقسم أن لا يأكل أحد من الطعام حتى يحضر الأستاذ محمود ، ومع إصراره قام مدير المدرسة بالتوجه إلى بيتي فحضرت معه إلى بيته ووجدت الجميع ينتظرون قدومي ، فرحب بي مدير التعليم وأصر على جلوسي بجانبه ، وأكرمني غاية الإكرام رحمه الله رحمة واسعة .
وفي نهاية تلك السنة قررت العودة إلى بلدي لأسهم في بنائه نظراً لحاجة البلد إلى كل أبنائه .
وإلى الحلقة الرابعة من الحوار مع فضيلة الشيخ محمود طباخ التي يحدثنا فيها عن أهم النشاطات التي قام بها بعد عودته من السعودية إلى حلب ومسيرته التعليمية والدعوية .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين