عالمية الإسلام قانون النصر

 

بسم الله الرحمن الرحيم: [وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ] {آل عمران:126}.

 

من خلال نصوص القرآن الكريم والسنَّة المطهرة ومن تطبيقات المسلمين ومن خلال تاريخ الإسلام ومعاركه وفتوحه يستطيع الباحث المسلم أن يستكشف قانون النصر: وهو قانون يختلف في أبعاده عن قوانين النصر الأخرى:

فهو أولاً: لا يعتمد على التقديرات الماديَّة وحدَها وإنما يجعل للقوى المعنويَّة دخلاً كبيراً. 

وهو ثانياً: يقوم على أساس الاعتقاد بأنَّ الحق هو الذي يَنتصر على الباطل حتماً.

وهو ثالثاً: يقرر بأن لابدَّ للحق من قوة تحميه وتدافع عنه.

وهو رابعاً: يفرض عدم الاعتداء أصلاً، ورد العدوان إذا اعتدى مُعتدٍ.

وفي ضوء هذه الحقائق نجد أنَّ قانون النصر يقوم على أصول عامَّة أساسية هي:

-1-

إذا ديست أرض الإسلام وجبت النفرة العامَّة لحماية البيضة ودعي المسلمون إلى الدفاع عن أرضهم ووجب عليهم التماس كل أسباب القوة المادية وحياطتها بدعم الصلة بالله تعالى وتأكيد عوامل الإيمان والفزع إلى الله عزَّ وجل والتضرُّع في ساعة البأس فيصبح المجتمع الإسلامي كله في حالة تأهب ويشترك في الجهاد المحارب وغير المحارب، بالانضمام إلى صفوف المجاهدين، أو بتجهيز الغزاة أو برعاية أهل الغزاة: [انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {التوبة:41}.

-2-

حتى لا تُداس أرض الإسلام ولا تتعرَّض للغزو فقد افترض قانون النصر أن يظل المسلمون في حياتهم على تعبئة في أهبة للدفاع، يسدون الثغور، ويُرابطون في مَواقع الخطر، ولا يغفلون عن أمتعتهم وأسلحتهم لحظة واحدة، وأن يكونوا واضعي اليد على الزناد، مُتخذين أساليب العصر في الحرب وفي العتاد، لا يَعْتدون ولكن يحفظون أنفسهم من العدوان: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ] {الأنفال:60} 

- 3-

إذا واجه العدو المسلمين واجهوه في قوة، وثبتوا في مواقعهم، ثبات المؤمن الصادق، على عظم التضحية وكريم الاستشهاد وكانوا مثل المؤمن الذي يحارب بيده وبلسانه، فذكر الله تعالى في إبان الحرب قوة جديدة وسلاح جديد، أشد فتكاً في نفوس العدو، ولقد نصر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بالرعب في قلوب أعداء المسلمين وجعل هذا إضافة كبيرة على السلاح المحارب المادي، وقوة مخبوءة غالية القيمة يلتمسها بتلك الصيحة المدوية: (الله أكبر): [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {الأنفال:45}.

-4 –

على المسلمين لكي يحققوا قانون النصر أن يندفعوا تحت لواء: (احرص على الموت توهب لك الحياة) ولقد كان المسلمون يحاربون ويعودون مُنتصرين وفيهم من يَمْلأ نفسَه الحزنُ لأنه لم تكتب له الشهادة ويسأل الله أياماً في موقع آخر حتى ينالها، ولقد كان حزن المحارب المنتصر الذي لم يُهزم قط (خالد بن الوليد) كبيراً عندما جاءته الوفاة وهو على فراشه ونعى نفسه حين قال: أموت على فراشي كما يموت البعير، وليس في جسدي مكان إلا وفيه ضربة أو طعنة وقد شهدت مائة زحف أو زهاءها.

فالحرص على الموت في سبيل الله هو القوة التي تهب الحياة والنصر بإذن الله.

-5-

لم يكن المسلمون في أي زحف من زحوفهم أو أي اشتباك مع عدوهم في حجمه أبداً من صاحبة العدد أو العدة وإنما كانوا دائماً أقل في ذلك بنسبة كبيرة، ولكن هناك قوة أخرى كانت تعوضهم ذلك: هي قوة الإصرار والصمود والثبات والإيمان بأنهم على الحق وأنَّ عدوهم على الباطل، ومن هذا الإيمان العميق بنصر الله وتأييده كانت تكتب لهم الغلبة على العدو في مختلف المواطن: [الآَنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] {الأنفال:66}.

-6-

ومن قانون النصر: توقع غدر العدو، وتوسعه وجيشانه وتآمره، والثقة بأنَّ ذلك كله لا يغير شيئاً في نفوس المؤمن الواثق بنصر الله تعالى لأنَّه على الحق ولا يَرهبهم ولا يخيفهم لأنهم كانوا يتوقعوه أساساً: [وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا] {الأحزاب:22}، وقوله تعالى: [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] {آل عمران:173-174}.

كذلك من وعد الله تعالى للمسلمين أن يَأخذ من عدوهم الأسماع والأبصار فلا يراهم ولا يحس بهم إلا وهم في موقع السيطرة والظفر.

وقد تحقق قانون النصر في مختلف معارك المسلمين، وعلى مدى تاريخهم الطويل، لم يتحقق في معارك الصدر الأول وحدَها، بل في كل المعارك، وكانت في معارك الفرنجة والتتار والقوى المغيرة المختلفة على أرض المسلمين وفي إبَّان حملات الاستعمار الحديثة، كانت علامات النصر تتحقق بقدر ما كان المسلمون مستمسكون بهذا القانون واعين له.

وقد حفظ التاريخ في مختلف مراحله صوراً باهرة ونماذج غاية في الصدق والثبات من أولئك الذين أحسنوا: (صناعة الموت في سبيل الله) وقدَّموا أرواحهم رخيصة لا يلتمسون بها إلا ثواب الله تعالى ولا يَقْصدون إلا وجهه سبحانه.

هؤلاء الذين صدقوا ما عَاهدوا الله تعالى عليه فمنهم من قَضَى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، وهم بذلك لم يحققوا النصر لأنفسهم فحسب، ولأمتهم، ولكنهم كشفوا للعالم صورة الإسلام الحقيقية وعرفوا به. 

ولقد أفاضت كتب الفرنجة عن مواقف صلاح الدين مع جيوش الصليبيين وملوكهم، وعن تسامحه مع القوم بعد فتح بيت المقدس، وقد بهرهم هذا كله ولكنهم ردوه أصلاً إلى الإسلام ولما عادوا أذاعوا قولتهم هذه فهزت أوروبا واستتبعت محاولات كثيرة للحد منها ولكنها بقيت قائمة في بطون التاريخ شاهدة بالحق.

ولو التمس المحاربون المسلمين أسلوب المسلمين الأول واقتربوا كثيراً من قانون النصر، وصدقوا الله عهده فحقق لهم الظفر المبين على نفس شروط قانون النصر القرآني الرباني، ويمدهم الله تعالى بالمعجزات التي أدالت من خصمهم وحمت قوتهم، وكشف لهم عن نور البصيرة فيعرفوا ويجهل عدوهم، وينير لهم الطريق ويظلم أمام عدوهم لأنهم على الحق وقد جاءوا دفاعاً عن النفس والأرض متمسكين بقول الحق تبارك وتعالى: [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] {الحج:39}.

ولقد كانت صيحة الله أكبر تشق لهم الطريق كالشهاب الثاقب تلقي الضوء إلى آخر المدى، وكانت بسم الله الرحمن الرحيم عاصمة من الزلل، وكان ثباتهم في المواقع الحصينة من المعجزات التي تحققت والتي تتحقق دائماً للمؤمنين بالله تعالى متى التسموا طريقه ومنهجه ومتى أخذوا بأسباب القوة مع المحافظة على الاعتماد على الله تعالى والثقة به سبحانه.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة الواحدة والثلاثون، ذي القعدة 1393 - العدد 11). [بتصرف يسير]

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين