حدث في الخامس عشر من رمضان

 

في الخامس عشر من رمضان من سنة 658 هزمت جيوش المسلمين بقيادة الملك المظفر قُطز والأمير بيبرس البندقداري جيوشَ المغول في موقعة عين جالوت بين بيسان ونابلس من أرض فلسطين، وكثير مؤرخو المسلمين يطلقون على المغول اسم التتار، وذلك في الأغلب لأن التتار انضووا تحت لواء المغول وحاربوا في صفوفهم، وحيث كانوا معروفين للمؤرخين المسلمين فأطلقوا على المغول اسم التتار، ونورد هنا مع بعض التصرف ما قاله مؤرخ مصر أحمد بن علي المقريزي، المتوفى سنة 845، عن هذه المعركة في كتابه السلوك في معرفة دول الملوك:

 

وفي شعبان وصلت رسل هولاكو إلى مصر بكتاب من إنشاء النصير الطوسي، محمد بن محمد بن الحسن المتوفى سنة 672 عن 75 عاماً، وجاء في الكتاب:

 

من ملك الملوك شرقاً وغرباً، القان الأعظم

باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء

 

يعلم الملك المظفر قطز، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمون بإنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه.

 

بعد ذلك يعلم الملك المظفر قطز، وسائر أمراء دولته وأهل مملكته، بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أنا نحن جند الله في أرضه، خَلَقَنا من سُخطه، وسَلَّطَنا على من حل به غضبُه، فلكم بجميع البلاد معتبَر، ومن عزمنا مزدجَر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم فتسْلَموا، قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكى، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب.

 

فأي أرض تأويكم؟ وأي طريق تنجيكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ فما من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يستجاب فينا ولا يُسمع، فكيف يسمع الله دعاءكم وقد أكلتم الحرام وأموال الأيتام، وقبلتم الرشوة من الحكام، ولا تعِفُّون عند الكلام، وخُنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان، ?فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ? ?وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ?.

 

فمن طَلَب حربنا نَدِمْ، ومن قصد أماننا سَلِمْ، فإن أنتم لشرطنا قبلتم، ولأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم. فقد حذر من أنذر، وقد ثبت عندكم أنّا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سلَّطَنا عليكم من له الأمور المقدرة والأحكام المدبرة، فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، وبغير الإهانة ما لملوككم عندنا سبيل.

 

فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمى نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً، ولا كافياً ولا حرزاً، وتُدْهَونَ منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية.

 

فقد أنصفنا إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم. والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى.

 

ألا قُلْ لمصرَ ها هلاونُ قد أتى... بحد سيوف تُنتضى وبواترِ

يَصيرُ أعزُّ القوم منا أذلة... ويلحق أطفالاً لهم بالأكابر

 

فجمع الملك المظفر قطز بعض الأمراء، واتفقوا على المسير إلى الصالحية بظاهر القاهرة حيث تجتمع الجيوش، وحلّفهم على الجهاد، فلما كان يوم الاثنين خامس عشر شعبان خرج الملك المظفر بجميع عسكر مصر، ومن انضم إليه من عساكر الشام ومن العرب والتركمان وغيرهم، والأمراءُ غير راضين بالخروج كراهة في لقاء المغول، ونودي في القاهرة ومصر، وسائر إقليم مصر، بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله، ونصرة لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وسار  الملك المظفر حتى نزل بالصالحية وتكامل عنده العسكر، فطلب الأمراء وتكلم معهم في الرحيل، فأبوا كلهم عليه وامتنعوا من الرحيل، فقال لهم: يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغَزاة كارهون، وأنا متوجه فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين. فتكلم الأمراء الذين تخيرهم وحلفهم في موافقته على المسير، فلم يسع البقية إلا الموافقة، فلما كان الليل ركب السلطان، وحرك كوساته، وقال: أنا ألقى المغول بنفسي، فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا على كره.

 

وأمر الملك قطز الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري أن يتقدم في عسكر ليعرف أخبار المغول، فسار بيبرس إلى غزة وبها جموع المغول، فرحلوا عند نزوله، ومِلِكِ هو غزة، ثم نزل السلطان بالعساكر إلى غزة وأقام بها يوماً، ثم رحل من طريق الساحل على مدينة عكا وبها يومئذ الفرنج، فخرجوا إليه بهدايا وأرادوا أن يسّيروا معه نجدة فشكرهم وخلع عليهم، واستحلفهم أن يكونوا لا له ولا عليه، وأقسم لهم أنه متى تبعه منهم فارس أو راجل يريد أذى عسكر المسلمين رجع وقاتلهم قبل أن يلقى المغول.

 

وأمر الملك المظفر بالأمراء فجُمِعوا وحضَّهم على قتال المغول، وذكرهم بما وقع بأهل الأقاليم من القتل والسبي، وخوَّفهم وقوع مثل ذلك، وحثَّهم على استنقاذ الشام من المغول ونصرة الإسلام والمسلمين، وحذَّرهم عقوبة الله، فضجوا بالبكاء، وتحالفوا على الاجتهاد في قتال المغول ودفعِهم عن البلاد، فأمر السلطان حينئذ أن يسير الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري بقطعة من العسكر، فسار حتى لقي طليعة المغول، فكتب إلى السلطان يعلمه بذلك، وأخذ في مناوشتهم، فتارة يقدم وتارة يحجم، إلى أن وافاه السلطان على عين جالوت، وكان كتبغا وبيدوا نائبا هولاكو، لما بلغهما مسير العساكر المصرية، جمعا من تفرق من المغول في بلاد الشام، وسارا يريدان محاربة المسلمين، فالتقت طليعة عسكر المسلمين بطليعة المغول وكسرتها.

 

فلما كان يوم الجمعة خامس عشر شهر رمضان التقى الجمعان، وفي قلوب المسلمين وَهْمٌ عظيم من المغول، وذلك بعد طلوع الشمس، وقد امتلأ الوادي وكثر صياح أهل القرى من الفلاحين، وتتابع ضرب كوسات السلطان والأمراء، فتحيز المغول إلى الجبل، فعندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر السلطان وانتفض طرف منه، فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته على رأسه إلى الأرض، وصرخ بأعلى صوته: وا إسلاماه! وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، فأيده الله بنصره وقتل كتبغا مقدم المغول، وقتل بعده الملك السعيد حسن بن العزيز، وكان مع المغول، وانهزم باقيهم، ومنح الله ظهورهم المسلمين يقتلون ويأسرون، وأبلى الأمير بيبرس أيضاً بلاء حسناً بين يدي السلطان.

 

ومر العسكر في أثر المغول إلى قرب بيسان، فرجع المغول وصافوا مصافاً ثانياً أعظم من الأول، فهزمهم الله وقتل أكابرهم وعدة منهم، وكان قد تزلزل المسلمون زلزالاً شديداً فصرخ السلطان صرخة عظيمة، سمعه معظم العسكر وهو يقول: وا إسلاماه، ثلاث مرات، يا الله! انصر عبدك قطز على المغول، فلما انكسر المغول الكسرة الثانية، نزل السلطان عن فرسه ومرغ وجهه على الأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى ثم ركب، فأقبل العسكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم.

 

وورد الخبر بانهزام المغول إلى دمشق ليلة الأحد، وحُمِلت رأس كتبغا مقدم المغول إلى القاهرة، ففر الزين الحافظي ونواب المغول من دمشق، وتبعهم أصحابهم، فامتدت أيدي أهل الضياع إليهم ونهبوهم، فكانت مدة استيلاء المغول على دمشق سبعة أشهر وعشرة أيام.

 

وفي يوم الأحد نزل السلطان على طبرية، وكتب إلى دمشق يبشر الناس بفتح الله له وخذلانه المغول، وهو أول كتاب ورد منه إلى دمشق، فلما ورد الكتاب سر الناس به سروراً كثيراً، وبادروا إلى دور النصارى فنهبوها وأخربوا ما قدروا على تخريبه، وهدموا كنيسة اليعاقبة وكنيسة مريم وأحرقوها حتى بقيتا كوماً، وقتلوا عدة من النصارى، واستتر باقيهم، وذلك أنهم في مدة استيلاء المغول همَّوا مرارا بالثورة على المسلمين، وخربوا مساجد ومآذن كانت بجوار كنائسهم، وأعلنوا بضرب الناقوس وركبوا بالصليب، وشربوا الخمر في الطرقات ورشوه على المسلمين.

 

وفي يوم الاثنين نهب المسلمون اليهود بدمشق حتى لم يتركوا لهم شيئاً، وأصبحت حوانيتهم بالأسواق دكاً، فقام طائفة من الأجناد، حتى كفوا الناس عن حريق كنائسهم وبيوتهم، وثار أهل دمشق بجماعة من المسلمين كانوا من أعوان المغول وقتلوهم.

 

وفي يوم الأربعاء آخر شهر رمضان وصل الملك المظفر إلى ظاهر دمشق، فخيم هناك وأقام إلى ثاني شوال، فدخل إلى دمشق ونزل بالقلعة وجرّد الأمير ركن الدين بيبرس إلى حمص، فقتل من المغول وأسر كثيراً، وعاد إلى دمشق.

 

وأما المغول فإنهم لما لحقهم الطلب إلى أرض حمص، ألقوا ما كان معهم من متاع وغيره وأطلقوا الأسرى، وعرجوا نحو طريق الساحل، فتخطف المسلمون منهم وقتلوا خلقاً كثيراً، وأسروا أكثر، فلما بلغ هولاكو كسرَ عسكره وقتلَ نائبه كتبغا عظم عليه، فإنه لم يكسر له عسكر قبل ذلك.

 

وكان صاحب الشام الملك الناصر صلاح الدين، يوسف بن الملك العزيز محمد بن الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي، قد استسلم لهولاكو وانضم إليه، فأكرمه هولاكو لما قدم عليه وأجرى له راتباً، واختص به وأجلسه على كرسي قريباً منه، وشرب معه، ثم كتب له فرماناً وقلده مملكتي الشام ومصر، وأخلع عليه وأعطاه خيولاً كثيرة وأموالاً، وسيره إلى جهة الشام، فطلبه هولاكو لما ورد عليه خبر أن أصحابه قد كسروا بعين  جالوت، وقال له: أنت أرسلت إلى الجيوش بمصر حتى جاؤوا فاقتتلوا مع المغول فكسروهم! ثم أمر بقتله، وقتل بجبال سلماس في ثامن عشر شوال، وقتل معه أخوه الملك الظاهر غازي، والملك الصالح ابن شيركوه، وعدة من أولاد الملوك، وشفعت طقز خاتون زوجة هولاكو في الملك العزيز بن الناصر، وزبالة بن الملك الظاهر فلم يسلم من القتل غيرهما، وكانا صغيرين وسيمين، ومات الملك العزيز هناك في أسر المغول، وأما زبالة فإنه سار إلى مصر، ورجع هولاكو إلى بلاده.

 

انتهى ما أورده المقريزي، وتذكر كتب التاريخ العسكري، أن عدد الجيشين كان متقارباً، نحو 20.000 جندي، وأن الملك المظفر قطز وكبير أمرائه بيبرس وضعا أغلب الجيش المسلم في كمين استدرجوا إليه المغول بعد أن أنهوكم بالكر والفر فاستثاروهم للحاق بهم من الغيظ، فوقعوا في الكمين وانقض عليهم المسلمون وهزموهم.

 

وعاد المغول فأعادوا تنظيم صفوفهم وهاجموا المسلمين ثانية كما قال المقريزي: فرجع التتار وصافوا مصافاً ثانياً أعظم من الأول. ولكن المسلمين استطاعوا هزيمتهم ثانية، وكانت تلك بداية النهاية للوجود المغولي في المشرق العربي، ومات هولاكو بعد المعركة بخمس سنين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين