وهبي سليمان الغاوجي

(زيارة عالم نحرير)

أكرمني الله تعالى في هذا اليوم الأغر بزيارة عالم نحرير، وعارف رباني جليل، إنه بقية السلف الشيخ المبجل المعمر وهبي سليمان غاوجي الألباني، صاحب الوجه المنور، والطلة البهية ، والهمة العالية.
 
قرأنا في كتب السير مقاصد عليا لزيارة العلماء ، فهذا جعفر بن سليمان يقول: (كنت إذا وجدت من قلبي قسوة، غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع العالم الرباني المبارك)، وكان من هدي السلف أنهم يزورون العلماء الصالحين لينظروا سمتهم، ويستفيدوا من أحوالهم، ويقتبسوا من أنوارهم، ويتأسوا بأخلاقهم، وينتشوا من عبق إيمانهم وورعهم.
 
وكأنني بهذه الغايات السامية تتحقق أيما تحقق في زيارة هذا العالم الجليل، ما أذكر مرة زرته فيها إلا وخرجت بطاقة إيمانية ، وفوائد علمية، وهمة على العلم ونشره، وعلى التأليف والبحث، وعرض الفقه الإسلامي وتبسيطه بأدلته الشرعية .
 
قررت زيارته متردداً لأنني أعلم أنه تحمل مشاق السفر وهو في هذا العمر المبارك الذي تجاوز التسعين، خرج من سورية براً إلى لبنان، ومنها إلى الإمارات، بالإضافة إلى ما يعانيه من آلام المرض ، وبعد وصوله الإمارت دخل المستشفى وبقي فيها بضعة أيام، وهو لتوِّه قد خرج منها، وقفت أمام البيت ولا أدري هل أحظى برؤيته وقد كانت أمنية، أم أُرد فأعود بحسرة وخسارة، طرقت واستأذنت بأدب، وقلت: إن كان الوضع غير مناسب للشيخ فسأعود امتثالاً لقوله سبحانه: (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم)، وإلا فأعدكم بعدم الإطالة، فأُذن ودخلت مجلسه، وإذا بالشيخ ماداً رجليه من شدة الألم، وسُبْحَتُه في يده ، وشفتاه تسبح وتهلل، ووجهه تغمره الابتسامة والأنوار.
 
خشيت أن يكون قد نسيني حيث مرات سنوات طوال لم ألتق به، ويا للمفاجأة وإذا به عن بُعد يُهلل ويُرحِّب ويذكرني باسمي، ألقيت عليه السلام ولثمت راحته المباركة، أدهشني أنه يسأل عن دقائق وتفاصيل تتعلق بي ما نسيها وكأنه يعيش معي ويتابع أخباري بإدراك ووعي تام.
 بدأ الشيخ ينهال بحكم ربانية، وإرشادات رائعة، تدل على متابعته لأحوال الأمة، وما يدور فيها من أحداث، ولشدة تأثري بهذه الزيارة أردت أن أنفع إخواني وألخص أهم الفوائد والحكم التي استفدتها خلال هذه الدقائق التي متعني الله بها في زيارة هذا الشيخ الجليل، وذلك حتى تكون عبرة لطلاب العلم، وتحفيزاً لهمهم :
 
1-             يبدأ الحديث بالسؤال عن آخر ما ألَّفتُه ، وما الدروس التي أقوم بها، وحلقات العلم التي أديرها، ثم يحثك على الاستمرار حتى لو كان الحضور قليلاً فقد يجعل الله فيه الخير الكثير، ويذكر لك أمثلة من كبار علماء الأمة كيف بدؤوا دروسهم بواحد أو اثنين ثم بارك الله بالطلاب بسر إخلاصهم، وكأنك تشعر كما أن السمكة لا تحيا إلا بالماء فكذلك حياة الشيخ مغموسة في العلم: تحيا بروحه وتنتعش بأنواره.
 
2-             ولأجل التحفيز بطريق القدوة يخبرك أنه بصدد تأليف رسالة عن أسباب عدول بعض الناس عن تحكيم الشريعة الإسلامية ويوجزها بأنها إما بسبب الهوى أو المصالح الشخصية، أو الجهل بقيمتها ، أو الخوف من جهات خارجية ، أو التعصب الأعمى، ثم يستحضر الآيات في خلافة المؤمنين وتمكينهم في الأرض وحتمية المنهج الرباني الذي ينظم حياتهم فيتلو قول الحق سبحانه بصوت خاشع (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض)، (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) ، (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)، آمال وبشارات يتيقنها الشيخ في نصرة هذا الدين، يحدثك حديث الرجل الموقن بوعد ربه وكأنه يراها ماثلة أمام عينينه.
 
3-              ثم يبن لك روعة وعظمة الشريعة الإسلامية في تأمين ضرورات الحياة لأفراد الأمة، وكيف أنها أوجبت على الدولة المسلمة علاج المرضى وتقديم ما يلزم من دواء ، ويستدل لذلك بقصة العرنيين الذين جاؤوا المدينة المنورة فأسلموا ، ثم أصيبوا بالحمى ، فأمر لهم النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏‏بلقاح من الإبل ‏وأن يشربوا من أبوالها وألبانها.
 
4-             وله منهج فريد يتبع فيه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نصح الإخوان حيث بلغه أن أحد إخوانه وقع في زلة ، فكتب إليه الآيات الآتية : (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير) ، قال الشيخ : وهكذا فعلت عندما رأيت أحد العلماء وقف موقفا بعيداً عن الحق في الثورة المباركة في سوريا، فحتى لا أكون عونا للشيطان عليه أرسلت له رسالة وكتب فيها هذه الآيات اقتداء بسيدنا عمر.
 
أيها الأحبة هذا طرف مما جرى في هذا اللقاء، خرجت وأنا أحدث أي رجال هؤلاء، وماذا قدمنا لأمتنا، وأين الهمم التي لا تعرف الكلل، وبرغم مرض الشيخ وآلامه، حتى كأنك عندما تسمه صوته كأنك روحه كادت أن تخرج، ومع ذلك يحثك على العلم، ويذكر لك دقائق مسائل العقيدة والفقه والحكم.
 
دعوت له دعوة مباركة فقلت: اللهم متعنا بصالحي زماننا هذا، وارزقنا الأدب معهم، ولا تحرمنا بركتهم، واجعلنا منهم، واجزهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
كتبه/ الفقير إليه تعالى خلدون عبد العزيز