ومضات منيرة من سيرة فضيلة الشيخ محمود ميرة

فقدنا في مدينة الرياض، صبيحة يوم الجمعة 27 من شوال 1441 الموافق 19 من حزيران 2020 شيخنا العلَّامة الكبير المحقّق الجليل المحدّث النبيل الأصيل، محمود بن أحمد ميرة الحلبي المدني، وهوى بموته نجم من نجوم العلم، وانهدَّ ركن من أركانه.

ولادته ونشأته ودراسته:

وشيخنا الدكتور محمود -رحمه الله- من علماء حلب الشهباء الراسخين، عالم عامل، داعية، محدث، محقق.

ولد في حي الكلاسة، في رمضان 1347هـ- شُباط 1929م، ونشأ وترعرع في أحضان أسرة عرفت بالتقوى والصلاح.

تلقى تعليمه الأوَّلي في الكتّاب، ثم كان في شبابه يقطع يومه بين طلب العلم والتعليم والعمل، دون كلل أو ملل، ورغم عمله مع والده في مهنة البناء، وهي من أقسى المهن وأصعبها، إلا أنه لم ينقطع عن حضور مجالس العلماء وحلقاتهم.

انتسب الشيخ لمعهد العلوم الشرعيَّة (المدرسة الشعبانية) سنة 1949م، وكان قد بلغ العشرين من عمره تقريباً، حيث التقى فيها بكوكبة كبيرة من علماء حلب الكبار، فتتلمذ عليهم، وأخذ عنهم مختلف العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية، إلى أن تخرج فيها سنة 1954م.

بعد ذلك انتسب الشيخ إلى معهد الجمعية الغرَّاء بدمشق، وحصل على شهادتها التي خولته دخول كلية الشريعة في جامعة دمشق عام 1955م، حيث جمع في السنوات الأخيرة من دراسته فيها بين الدراسة والتدريس، إلى أن تخرج عام 1960م، وانتسب بعدها إلى كلية التربية في جامعة دمشق، وحصل منها على دبلوم التأهيل التربوي، عام 1961م.

وظائفه وأعماله:

تفرغ بعد ذلك للتدريس في عدد من المدارس في مدينة حلب، ثمّ عين مدرساً في وزارة التربية، فتولى إدارة بعض الثانويات في المدن والقرى التابعة لمحافظتي إدلب وحلب، وبقي فيها إلى عام 1965- 1966م، وفي ذلك العام، تعاقد مع الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة مدرساً فيها، وظلّ يدرس في هذه الجامعة حوالي إحدى وعشرين سنة، ثمّ انتقل إلى جامعة الإمام محمد بن سعود في مدينة الرياض، حيث عمل فيها في الفترة من عام 1406هـ- 1986م إلى 1416هـ -1996م .

وأثناء إقامته في المدينة المنورة، انتسب إلى جامعة الأزهر في القاهرة، ليتابع طلبه للعلم فيها، وحصل منها على درجتي (الماجستير) ثم (الدكتوراه) في الحديث النبوي الشريف عام 1972م.

تعرفي عليه وصلتي به: 

تعرفت عليه في أول حجَّة حججتها مع والديَّ رحمهما الله تعالى سنة 1398هـ- 1978م، وزرته في بيته بصحبة أخي العالم الشاب الشهيد موفق سيرجية، والأخ الحبيب العالم الداعية الشيخ حسن قاطرجي البيروتي. 

وفي بداية أحداث الثمانينيات، هاجر إلى المدينة المنورة عدد من علماء الشام، فحرص على استقبالهم واحتفى بهم، واجتهد في تحصيل إقامات لهم، وتعاقد عن طريقه عدد منهم في الجامعة الإسلامية. 

وقد فجع باعتقال ابنه أبي النصر الذي كان يدرس في كلية الطب بجامعة حلب واستشهد في السجن،رحمه الله تعالى، واحتسبه صابرًا راضيًّا. 

ولما أقمتُ في مكة المكرمة منذ رمضان سنة 1400 كنت أزوره في كل مرة أتشرَّف فيها بزيارة المدينة المنورة ، وقد حضرت كثيرًا من مجالسه العلميَّة ببيته مع كثير من العلماء الفضلاء منهم أستاذنا محمود محمد الطناحي، والشيخ محمد عوامة، و لما بلغ أستاذنا الطناحي إلغاء عقد الشيخ محمود ميرة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، تأسَّف وقال لي : الشيخ محمود أصبح معلمًا من معالم المدينة المنورة، وليس مجرَّد أستاذ في جامعة . 

وكان للشيخ صلة بعلماء المدينة ووجهائها، وله ذكريات نادرة مع العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وغيره من علماء المدينة المنورة وكبار المدرسين والقادمين إليها . 

وكان له فضل كبير في تأسيس مكتبة الجامعة الإسلامية، ورحل رحلات متعددة إلى اليمن والعراق و تركيا وأوروبا والهند مرتين لتصوير نوادر المخطوطات، كما اشترى لمكتبة الجامعة الإسلامية بعض المكتبات الشخصية الخاصة، ومنها: مكتبة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني. 

انتقاله إلى الرياض:

انتقل شيخنا إلى مدينة الرياض مدرسًا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية من عام 1406هـ/ 1986م إلى 1416هـ / 1996م بمساع من شيخه العلامة عبد الفتاح أبوغدة . وشيخنا الدكتور أبو أحمد ميرة، يعدُّ أقدم وأكبر تلاميذ شيخنا العلامة الكبير الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة، ومن أواخر تلاميذ العلامة محمد راغب الطباخ، 

وفُجع الشيخ بعد انتقاله إلى الرياض بوفاة زوجته الصالحة أم أولاده في حادث انقلاب سيارتهم في طريقه إلى الحج قادمًا من الرياض.

وكان الشيخ بارًّا بوالديه وهو وحيدهما ، وقد لقيتُ والده الصالح المبارك المعمَّر بقية السلف الصالح الشيخ أحمد بن صالح ميرة، وكان آية في الصلاح والاستقامة وملازمة الذكر والتقرب إلى الله، وتباركت بدعواته ونصائحه، وسمعت بعض أحاديثه عن شيوخه لا سيما شيخه المحدث الكبير الهبراوي . وهو من تلاميذ الشيخ محمد أبي النصر خلف، وقد أدرك شيخنا بعض شيوخ والده، ومنهم الشيخ الإمام محمد أبو النصر خلف، والعبد الصالح أحمد أبو الذوق. 

تلاميذه : 

وعُرف الشيخ بين تلاميذه بتواضعه وأبوَّته الحانية وشفقته عليهم، وأشرف في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وفي جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض على عشرات الرسائل العلمية، واستمرت علاقته بتلاميذه ، وكلهم يذكر فضله عليهم وفوائده التي كان ينثرها لهم ، ولا يضنّ بفائدة أو نصيحة.

ولا يحصى تلاميذه كثرة، في حلب والمدينة والرياض، فقد كان نفَّاعًا لهم باذلا وقته وجهده لتعليمهم ، يعلمهم بحاله ومقاله. 

زياراتي له: 

وكنت في كل زيارة للرياض أحرص على زيارته بصحبة أخينا الحبيب محمد بن عبد الله آل رشيد، وصهري الغالي المهندس عبد الله منلا، وعدد من الفضلاء.. 

وقد سجلت في بعض زياراتي له عددًا من الحوارات، نشرتها في موقع رابطة العلماء السوريين الذي أشرف عليه منذ تأسيسه، وكانت هذه الحوارات أول ما نشر لفضيلة الشيخ في التعريف ببعض جوانب من سيرته.

كتاب" المستدرك على الصحيحين" للحاكم النيسابوري:

كانت أكبر آمال الشيخ إخراج " مستدرك" أبي عبد الله الحاكم الذي خبره منذ شرع في تسجيل رسالته الدكتوراة في أول السبعينيات، ولا يُعرف مَنْ له صلة بالحاكم ومستدركه ومعرفة منهجه ومخطوطاته مثل الشيخ، وكان دائم المراجعة له، حريصًا على صدوره، وكنت دائم السؤال عنه، وعن مراحل خدمته له. وقد علمت أن الشيخ انتهى من مراجعته النهائية قبل أسبوع من وفاته، وسيطبع بعون الله في دار المنهاج بجدة، ومعه طلائع المستدرك في خمس مجلدات، يسر الله صدوره وانتفاع طلبة العلم به، وأن يكون من الآثار الباقية للشيخ رحمه الله تعالى. 

بعض مزايا شيخنا :

كان شيخنا جميل الصورة، بهي الطلعة، وفي وجهه نضرة الحديث النبوي ونور السنة المحمدية، وكانت لحيته الوافرة تزيده جمالًا وجلالًا.

يتميز باعتداله واحترامه للعلماء على اختلاف مشاربهم، وهم يحملون له كل محبة وتقدير.

وكان عصاميًّا عفيفاً ، متقنًا لصناعة البناء منذ طفولته، وتابع تمرسه بالتخصص والإتقان فيما يتصل بتخصصه العلمي، فأحضر البرنامج الحاسوبي الإلكتروني، في بداية ظهوره،سنة 1980 واشتراه بمبلغ يزيد على الثلاثين ألف ريال، وأحسن التعامل معه، وتابع تطوراته التقنية، وبرامجه العلمية، واستفاد منها في عمله في خدمة المستدرك.

وكان صاحب خط حسن، ولغة فصيحة،يأسر الحاضرين بحديثه، مع لهجة حلبية محببة. ويستحضر ذكرياته بدقة في طفولته ونشأته وأسرته وحارته العريقة (الكلاسة) التي يعد أكبر شيوخها، وقد ترك أثرا فيها لا ينسى.

إذا زرتَه تشعر بعبق العلم والتاريخ، وترى وجه حلب العلمي المُضيء، وتسمع له بلهجته الحلبيَّة الجميلة، وكأنه لم يغادر الكلَّاسة منذ خمسة وخمسين عاما, فهو يذكر شيوخه وأصدقاءه وجيرانه وتلاميذه. ويستحضر أخبار مدينته حلب وحاراتها ومحلاتها وعاداتها، ويتحسر على تدمير كثير من أوابدها التاريخية، ويصور تلك الأماكن بدقة، ويصفها كأنه يعيش فيها إلى يومنا هذا، وكأنك تراها معه .

لم يعد شيخنا إلى سوريا من يوم خروجه منها، وكم كان يتوق أن تتغير الأوضاع، وتستقر البلاد، وتنتهي حقب الظلم والاستبداد. وهو مثل مئات من علماء سوريا الأحرار قدِّر لهم أن يموتوا بعيدين عن أهلهم، يتجرعون غصص الغربة ومتاعبها الكثيرة، وهي أيسر عندهم من أن يُذلوا أنفسهم لطاغية مستكبر أو يعطوا الدنية في دينهم.

وصدق الله سبحانه: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100].

مرضه ووفاته:

بقي الشيخ مقيمًا في مدينة الرياض، بعد تقاعده، يتابع أعماله العلمية، ومجالسه التربوية، وألمَّت به عدة أمراض، تلقَّاها بصبر ورضا، وأجريت له عملية جراحيَّة بقلبه، وفُجِع بوفاة ولده البكر الدكتور أحمد في ربيع الآخر 1434 الموافق 8 آذار 2013، وكان بيته مَوْئلا للناهلين والطالبين والمستفيدين، مُمتَّعًا بذاكرته، كما كانت له مشاركاته الدعويَّة والاجتماعيَّة، وحضوره الكبير وصلى الفجر يوم الجمعة 27 من شوال 1441 ، وجلس يتابع أعماله العلمية ، وقام في تمام الساعة الثامنة يريد الوضوء، وشعر بضيق نفس أثناء مسيره، فرجع إلى فراشه واستلقى عليه، وأسلم روحه بكل يسر وهدوء لبارئها.

وحضر أهله وبعض أحبابه وودَّعوه، وكان وجهه يفيض نورًا وبهاء،وغسل وصلي عليه، ودفن بعد صلاة المغرب في مقبرة النسيم بالرياض.

رحم الله تعالى شيخنا، وتقبل الله منه جهده وجهاده وهجرته وثباته وصبره ووفاءه، وجزاه عن العلم وطلابه خير الجزاء، وأخلف على الأمة الإسلامية بفقد هذا العالم الجليل الكبير.

اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله، وعوّض المسلمين وأهل الشام خاصة في مصيبتهم خيرا.