وَقْف تَفريح الأطفال

 

-1-

 

روى ابن بطوطة في "رحلته" قصة عجيبة عَدّها من مفاخر دمشق، قال: "مررت يوماً ببعض أزقّة دمشق فرأيت مملوكاً صغيراً سقطت من يده صَحْفة من الفخّار الصيني (وهم يسمونها الصَّحْن) فتكسرت. واجتمع عليه الناس فقال له بعضهم: اجمَعْ شُقَفَها واحملها لصاحب "أوقاف الأواني". فجمعها، وذهب الرجل معه إليه فأراه إياها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن! وهذا من أحسن الأعمال، فإن سيد الغلام قد يضربه على كسر الصحن أو ينهره، وهو أيضاً ينكسر قلبه لأجل ذلك، فكان هذا الوقف جبراً للقلوب، جزى الله خيراً مَن تَسامَتْ هِمّته في الخير إليه".

 

ثم تحدث عن أوقاف دمشق بإعجاب وانبهار، قال: "والأوقاف بدمشق لا تُحصَر أنواعها ومصارفها لكثرتها، فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن، وهن اللواتي لا قدرةَ لأهلهنّ على تجهيزهنّ. ومنها أوقاف لفكاك الأسارى، ومنها أوقاف لأبناء السبيل، يُعطَون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم. ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها، لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبَيه يمرّ عليهما المترجّلون ويمرّ الركبان بين ذلك، ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير".

 

وروى ابن جُبَير في "رحلته" أن في دمشق وقفاً للأيتام يُصرف ريعه لرعايتهم وتعليمهم وتزويجهم، قال: "وهذا من أغرب ما يحدَّث به من مفاخر هذه البلاد". وفي كتاب مصطفى السباعي "من روائع حضارتنا" أخبار عن أوقاف دمشقية بلغت درجة من الرفاهية لم تعرفها البلدان الغربية المتقدمة إلا في العصور الأخيرة، فقد كان فيها وقف للقطط تأكل فيه وتنام، وكان المرج الأخضر (الأرض التي صارت موقعاً لمعرض دمشق الدولي منذ سنة 1954) وقفاً للحيوانات والخيول المسنّة العاجزة التي تركها أصحابها لعدم الانتفاع بها، فكانت تُترَك لترعى في المرج حتى تموت. وقرأت في "ذكريات" جدي علي الطنطاوي أن الدمشقيين أنشؤوا وقفاً للكلاب الشاردة المريضة يداويها ويؤويها، كان في حيّ العمارة، ويسمّونه "محكمة الكلاب". وغير ذلك من أعاجيب الأوقاف التي استغرقت كل ما يخطر بالبال من رعاية للإنسان والحيوان.

 

-2-

 

كنت أسمع وأنا صغير أن في الجنة باباً يقال له "باب الفرح" لا يدخل منه إلا من فرّح الصبيان، ثم كبرت وتعلمت فعلمت أنه ليس بحديث، لكني علمت ما هو خير من ذلك، علمت أنّ مَن كفل يتيماً صاحَبَ النبيَّ في الجنة ولازمَه ملازمةَ الأصبعين المتجاورين من أصابع اليد الواحدة، وعلمت أن "من أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على قلب المؤمن" كما أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

 

إذا كان تفريح الأطفال من أعظم المكرمات وأجلبها للأجر وأرفعها للدرجات، وإذا كان من مفاخر السوريين في مواضي الأيام أن يقفوا الأوقافَ العجيبة على كل محتاج، حتى شمل عطفُهم البهائمَ والدواب، فهل يعجزون اليوم عن إنشاء أوقاف من شأنها تفريج كرب الأيّم وتفريح قلب اليتيم في هذا الزمن العصيب؟

 

لقد تسبب نظام الاحتلال الأسدي المجرم في كارثة هائلة يعجز عن وصفها الواصفون، ولعل أسوأ ما في هذه الكارثة وأكثره إثارة للشّجَن هو ما أصاب الأطفال والنساء من بلاء، فقد أمست مئات الآلاف من نساء سوريا أيامَى بلا أزواج، فلا مُعين ولا مُعيل، واليتامى ألفُ ألفٍ أو يزيدون، وها هو عيدٌ جديد يأتي، فيفرح كل طفل له أب ويبقى هؤلاء محرومين من الفرحة. ومما يزيد القلبَ وجعاً أن فرحة الصغار تُشترَى بالثمن اليسير، فإن دمية (عروسة) تُفرح اليتيمة الصغيرة وإن سيارة (لعبة) تُفرح اليتيم الصغير، وربما طار الواحد منهم والواحدة منهنّ فرحاً بكيس من الحلوى فيه بضع قطع ثمنها دُرَهيمات، فهل هذا الحملُ ثقيلٌ على من رُزق الكفاية من آحاد الناس؟!

 

-3-

 

لا يقتصر هذا النداء على أهل سوريا وحدهم، بل هو نداء عام للمسلمين جميعاً، فإن في العراق من الأطفال ما يفوق أطفالَ سوريا كرباً وحاجة، ولهم أمثال في اليمن وبورما وفلسطين. لقد ضربت هذه الأمة الحية الأمثالَ على الدوام بالتراحم والتكافل، ولكن يبدو أنها مقبلة على أعوامِ عسرةٍ جديدة أخشى أن تعمّ وأخشى أن تطول، والنقص الشديد في الضرورات وفي أساسيات الحياة يجعل الاهتمام بأفراح الطفولة في ذيل الاهتمامات.

 

ولا يُعاب من يصنع ذلك، فإن المأوى والغذاء والكساء والدواء ضروريات يُضحَّى من أجلها بالكماليات، ولكن اعلموا -يا أهل الخير- أن الطفولة فترة عابرة لا تتكرر في عمر الإنسان، فهو يكون طفلاً بضع سنين ثم يكون راشداً بقيةَ عمره، فلا تفوّتوا فرصة لا تتكرر لإسعاد هذه الكائنات الصغيرة. ثم إن ما يلقاه الطفل يبقى أثره لآخر حياته، وكل ما نستثمره في الطفولة نحصده أجيالاً متعافية قادرة على البناء والعطاء.

 

فهذا نداء أطلقه اليوم وقد أقبل على سوريا والمسلمين عيدٌ جديد مثقل بالأحزان والآلام: اتركوا للمنظمات الكبرى مهمة توفير ضرورات الحياة لملايين المكروبين في سوريا والعراق وغيرهما من بلدان المسلمين، ولتنفر طائفة من الأخيار في كل بلد لإنشاء وقف خاص يكون اسمه "وقف تفريح الأطفال"، يقتصر عمله على العناية بالأطفال الذين ابتُلوا باليتم والفاقة، فيقدم لهم ما يخفف بؤسهم ويرسم البسمة على شفاههم ويُفرح قلوبهم الصغيرة الحزينة. ويا له من عمل خفيف بميزان أهل الأرض، ثقيل في ميزان ربّ العالمين.

 

وكل عام وأنتم بخير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين