وقفات في رثاء والدي الشّيخ إبراهيم محمد جلال رحمه الله

أبي ابراهيم محمد جلال اسم له من عظمة وصبر نبينا ابراهيم عليه السلام وقنوته وتضحيته نصيب، ومن صفات الجلال هيبة حتى وهو على فراش الموت..

ليس كلاما يقال، ولكنها شهادة عند الله.. ولد أبي في سرمين عام1937 لأسرة معروفة وأم فاضلة ونبغ في نهمه للعلم وتقواه وورعه..

دراسته الاعلى كانت في ثقافته وملازمته مجالس العلم والمساجد ...

رزق من زوجته الأولى: وجيهة لاذقاني رحمها الله أربعة أولاد: جلال وعبد الحكيم وأسماء ومحمد إقبال.

ومن زوجته الثانية الأستاذة أمينه شيخة حفظها الله: ظلال ونسيبه.

تعهدنا بالرعاية الحقة.. كيف لا وقد كان همه رحمه الله كل أبناء المسلمين .

كان دؤوبا في الدعوة لا كلل ولا ملل.. ينتقل في سورية من بلد لبلد، ومن قرية لقرية حاملاً همّ نشر رسالة الإسلام وترسيخ مبادئه.

بيته في حلب كان منارة للشباب يتعهدهم الحلقة تلو الأخرى.

كان خطيباً مفوهاً. ودرج إخوتي على خطاه وتوجهم على منبر جامع عمر سالم .. شباب في سن ١٨-٢٠ يهزون المنبر بحماسهم وصدقهم.

أبى إلا أن يعطينا من حق الأبوة الصادقة النافعة ما يكون زاداً ووقوداً ونبراساً لنا ولأبنائنا.

كان يقول: يا بنتي في أول شبابي كنت أذهب للمسجد في سرمين حيث كان الوعي والنضج الإيماني شيء نادر.

ولكن الله أنار قلبه وثلة من أصدقائه بفكر نيِّر صادق.

وبعد صلاة المغرب كان يقول لنفسه: لماذا أذهب للبيت، سأغتنم الوقت للعشاء اعتكافاً على القرآن.

وأجراها سُنّة علينا حتى في أوقات الامتحانات الصعبة يقول لي: القرآن أهم... لا تفرطي بجلسة القرآن ما بين المغرب والعشاء، إذا لم تقرأي في اليوم أقل شي خمسين صفحة فيومك لا قيمة له وسيكون وجهك مكفهراً.

لله دره على هذه الايحاءات.. ويقول: إذا لم تدع إلى اللَّه ويستقيم على يديك كل يوم أصدقاء لم تنفع أحد بشيء.

الكتاب لا يفارقه وشغف لا نظير له في المطالعة.. كان همه رحمه الله تعالى أن يكون شغفنا كذلك..

يقول لي: اخوتك كل واحد له مكتبته .. ويهديني الاهداءات الجميلة من الكتب المذيلة بعبارته الجميلة الودودة المؤرخة.. ويقول: يجب أن يكون لك مكتبتك الخاصة.

حثَّني على حفظ سورة البقرة ومن ثَمَّ آل عمران، وأنا في الثالث إعدادي. شجعني بحفلة جميلة وهدية ثمينة..

لازم بعد صلاة الفجر قراءة كل واحد منا ما تيسر من القرآن. وكم كنا نهاب مفاجأته عندما يسألنا من آية محددة.. نهابه ونحبه ونطيعه وننتفع به.. تجانس عجيب بين اللطف والحزم والحرص وعدم التفريط.

كان ألمه شديد لفراق إخوتي..

استقبلني في مكة بعد عدة سنوات من محنة الثمانينات ببكاء يسمعه كل الحاضرين نحيب ليس له مثيل..

يقول: ودعتهم ولم أعلم أنني سوف لا ألقاهم وأنه الوداع الأخير.

كان فخوراً برسالتهم من السجن وكيف يحققون آية: وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يستخرجا كنزهما . يتمثلون ذلك بأنفسهم ووالدهم.

فرح بي لما رآني على العهد كما تركني وإخوتي. كان يحتضنني ويقول: أسست وما أكملت البنيان.

وهكذا ربنا سلم وبارك. عندما زرته بعد حرمان تسع سنين وأكرمنا أيما إكرام،

لم ينقطع عنا بمراسلاته المكوكية وكانت سجلات لو تدون لكانت أجمل رواية ولكن المحنة الثانية لم تدع مجالا ًلنقلها مع أنني محتفظة بأكثر الرسائل في حلب

ويوم يتأخر ردي يعاتبني بعبارة: (وهل جف القلم)؟!!.

يا له من مفوه صادق

حاول جاهداً أن يفرغ إخوتي للدراسة والمطالعة ولو أرهق نفسه بباقي المهام.

وفي مكة كتب الله له ولخالتي الفاضلة التقية رفيقة المحنة والدرب الصعب والمعين له في تحقيق أهدافهما أن يكونوا في استقبال أهل المحنة من بلده وكان جاهداً في خدمتهم والحج معهم واستضافتهم إخوة الدرب والعقيدة والمبدأ.

وفي مرضه الأخير جعله الله تكفير سيئات ورفع درجات إلى مرتبة الشهداء إن شاء الله في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ كان صابراً محتسباً لا أنين ولا هلع متصبراً يطالبنا أن نعطيه القرآن.. و كنت امتحن وعيه طالبة منه أن يقرأ سبحان الله فقرا وكأنه مطبوع على صفحة قلبه..

نردد معه: رب اغفر لي ولوالدي وندعه يكمل.

هيبته ونور وجهه لم تفارقه ودعناه بلون وجهه الوضاء وريح المسك وصلي عليه في الجمعة بالحرم المكي ودفن في مقبرة المعلاة حيث هناك دفنت أمنا خديجة رضي الله عنها.

ومن أقدار الله ولطفه الخفية ونيته الصادقة وحبه ولنا وحبنا له أن تعطل سفري لتركيا.. يوم كامل محجوزة بدبي ورجعت أدراجي لأكحل عيني برؤية أنوار وجهه ووداعه.

إنا لله وإنا اليه راجعون وكأني بجلال وعبد الحكيم يستقبلونه وهو فرح بهم بعد طول انتظار وفراق.

جمعنا الله معهم في عليين.. وحسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون.