وقائع وأخبار فهل من مدكر  (4)


ما أكثر الأحداث والوقائع التي يعرفها كلّ إنسان منّا من موت الفجاءة.. الذي دهم بعض الناس على اختلاف أعمارهم وأحوالهم، فكان موتهم عبرة لمن حولهم، ولكنّها عبرة موقوتة قاصرة، ثمّ عاد الناس إلى ما كانوا عليه من لهو وغفلة..

وهذه الوقائع التي أقدّمها لك أخي القارئ ليست من بنات أفكاري، ولا من نسج الخيال، وإنّما هي ممّا أعرف أشخاصه حقّ المعرفة، أو ممّا سمعته من ثقاة الناس، وفيه العبرة والموعظة.. والسعيد من وعظ بغيره..

إنّها قصص ومشاهد واقعيّة، من حياتنا المعاصرة، أرويها لك، ولعلّك قد سمعت ببعضها، ولعلّك تعرف أكثر منها.. ولا نقصد بها شماتة بأحد أو تشهيراً، وإنّما نريد بها العظة للأحياء والاعتبار..

19 * باعت شرفها بكلمات أو دريهمات..

في غفلة من أهلهَا أو وإهمال، أنشأت علاقات صداقةٍ كما تدّعي مع شابّ، ثمّ تبعتها مع آخر، وتمادت تلك العلاقات منْ حديث على الهاتف إلى لقاءٍ في السوق والحديقة، إلى لقاءٍ على شاطئ البحر، كانَ قصيراً ثمّ طال وطال، حتّى امتدّ إلى ساعات.. وكان الرقيبُ السائق المراقب، ثمّ حاول هؤلاء الأصدقاء أن يكون اللقاء بغير رقيب، فعرضوا عليها أن تركب سيّارة أحدهم، فلا حاجة لها إلى السائق ! ولكن ما يكون العذر عند الأهل إن علموا.؟ إنّك يمكنك إرسال السائق لشراء بعض اللوازم من مركز التسوّق، ثمّ يعود إليك بعد ساعة، لتعودي معه إلى البيت.! ونجحت الحيلة أيّاماً.. كانت تعيش خلالها مع الأحلام الورديّة، والكلمات المعسولة، وينفق عليها هؤلاء الرفاق الأصدقاء ! الأوفياء بسَخاء.. لقد وجدت ذاتها معهم، كما كانت تقول لهم، وأحسّت بكيانها مخلوقةً ذات حرّيّة وكرامةٍ.! وكانت تعود مع السائق إلى البيت كلّ يوم، فهي مع المُدرِّسة يوماً، وعند رفيقاتها يوماً آخر، وفي مكتبة الجامعة أحياناً، ولكن ما بالها تتفنّن بالملابس والزينات وأنواع العطورات.! لا أحد يسأل، ولا أحد يستشكل، ولا أحد يدري.! إلاّ السائق.. ولكنّ هذا السائق المرافق أشبه بالدابّة العجماء، أينما توجّهها تتوجّه معك.! لا يهمّها إلاّ أن تَنال قسطها من العلف، وقسْطها من الراحة، وحظّها من الاسْتجمام أحياناً.. وفي ليلة لم تشبه مثيلاتها، ألقى بها السائق على شاطئ البحر، وأرسلته إلى مركز بعيد للتسوّق، ليشتري لها بعض المأكولات، ويعود بعد ساعتين إلى المكان نفسه.. فعاد ولم يجدها، وانتظر وانتظر.! حتّى عيل صبره، فعاد إلى أهلها، ليخبرهم بما حدث.! فجنّ جنونهم ! وطار صوابهم إن كان لهم صواب.! وبلّغوا الأمن بما جرى، واستنفرت قوى الأمن للبحث في كلّ مكان، وعثر عليها جثّة ممزّقة بعد أيّام، قد ولغ الذئاب في عرضها، ثمّ نهشوا لحمها، وتركوها في العراء للكلاب.! لقد باعت شرفها بكلمات ودريهمات، فماذا كسبت.؟! وماذا جنت.؟

20 * ملأ الأرض إثماً وظلماً، وبغياً وفساداً..

يا ابن آدم ! ما ينفعك التصنّع للناس إذا كان القلب خراباً، وزرعُ حقلِك يباباً، أتظنّ زينة الظاهر تغنيك عن عمران الباطن.؟! أو أنّ خداع الناس ينجيك عند ربّ الناس.؟! إنّ في حفرة القبر التي تدخلها وحدَك، ولا يرضى أن يدخلها معك أقربُ الناس إليك، وأحبّك عنده.. إنّ فيها لعبرةً لك وموعظة، إنّها تقول لكَ لوْ عقلت: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) } مريم.

عرف الحياةَ أبو حطّاب لَهواً ولعباً، وضحكاً وهزلاً، وامتدّ به افتتانُ الناس وإعجابهم، وتزلّفهم ونفاقهم، ليتجرّأ أكثر على الظلم والإثم، فوجد في الناس من يقول له في كلّ موقف: " أحسنت وأصبت.! ونعْمَ ما فعلْتَ ! " فتمادى في الطغْيان والشرّ، وحسب أنّ الزيف يغني عن النصح، وأنّ الباطل يضارع الحقّ.. واستمرّت به الحياة على هذه الصورة، حتّى لم يعد في نفسه ما يستنكر منها، فرأى المعروفَ منكراً، والمنكرَ معروفاً، وظنّ الناس كلّهم على صورة ما هو عليه، فساء ظنّه بكلّ الناس كما ساءت أفعاله، وأضمر الشرّ لهم وأراده، لأنّهم لا يستحقّون في نظره سواه.. وتقلّبت به الأيّام وهو يستَمرئ الإثم والبغي، ويرى أنّه عملةٌ صعبة، وبضاعةٌ رائجة، لا يحسن التعامل بهما كلّ إنسان.. وبنى لنفسه من وراء ذلك عزّاً من الأوهام، وجبالاً من السراب كالسحاب.. وجمع حوله من رعاع الناس المنتفعين ما زاده عتوّاً وغروراً.. فهو الآمر لهم الناهي، السيّد المطاع.. والآخرون يأتون رغباً ورهباً، وعلى أسوأ احتمال بالدرهم والدينار.. ولكنّ القدرَ كان له بالمرصاد.. لقد تمادى به البغي حتّى قرّر التجارة بأنواع المخدّرات.. وأيّ خطرٍ فيما يفعل.؟! فالمال في نظره يذلّل له الصِّعاب، ويليّن الصلاب.. ودخلَ المتاهةَ، وزيّنتها له الشرَاهة، وزاد عزمَه على الإصرار، ما جنى من سراب الأموال، وفيما هو في سكرةٍ لا يصحو، وفرحٍ بالأموال بين يديه، يعدّها ولا يحصيها.. إذ جاءه عدد لا يقدّر من رجال الأمن، فأحاطوا به من كلّ جانب، وهو بين عصابة من أتباعه المجْرِمين.. فلم يضطرب أوّل الأمر بل قَالَ لهم: أينَ كبِيركم.؟ فأشاروا إليهِ، فاقترب منه، وهمس في إحدى أذنيه: " دونك ما شئت من المال.. بل خذ هذا المال الذي بين يدي كلّه، وامضِ مع جماعتك، كأنّك لم تر، ولم تسمع.! " فصرخ في وجهه ذلك الرجل الشهم، القويّ الأمين: أتساومني على أمانتي.؟! أتشتري ديني وضميري أيّها الوغد.؟! والله إنّ أموالك الحرام لا تساوي عندي صفعة على وجهك واحدة.. وصفعه على وجهه، وهو يزمجر كالأسد الغاضب.. فأمسك به الجند من كلّ جانب، يعلو وجهه الذلّ والهوان، واقتيد إلى حيث يأوي المجرمون.. وحجر القضاء على التصرّف بأمواله أوّل ما فعل.. ثمّ حجزت أمواله إلى أن يقضى في أمره ما يقضى.. واعترف الرجل بجرائمه بإرادته، كما أغراه محاميه رجاء التخفيف عنه، وما هي إلاّ أيّامٌ معدودة حتّى كان القضاء الحازم الإعدام له مع مصادرة جميع أمواله، فكان مثله كمثل قارون: { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ، فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ (81) } القصص.

21 * بينما كان يمكر بأهل الحقّ، ويخطّط ويدبّر..

خرج من مكتبه، وهو يرعد ويزبد، ويهدّد ويتوعّد: من سمح لكم بإطلاق هؤلاء المجرمين.؟! من سمح لكم بإطلاق هؤلاء المجرمين.؟! سأعلّمهم وأعلّمكم درساً لن تنسوه جميعاً: لو سمح لكم السيّد الوزير فلن تفعلوا شيئاً حتّى تسمعوا توجيهاتي.! ستكونون مكانهم يا... لا أحد يعطّل إرادتي.. لو جاء... لوضعته معكم.! سترون منّي ما لا يسرّكم ! وما لا تعرفون.!

وارتعدت فرائص الضبّاط الثلاثة إلاّ واحداً قال لهم بعد أن اطمأنّ إلى بعده عن المكتب: قبله فرعون قال: أنا ربّكم الأعلى.! الله أكبر منه وأجلّ.! ليلة سكر تعميه، وتنسيه كلّ ما قال.. لو ترونه في بيته.. إنّه أقلّ من دجاجة جرباء.! وضحك وأضحك من معه، ولكنّ ضحكة زملائه كانت فاترة يعبث بها الخوف من جميع أطرافها..

ومضى الطاغية الصغير، وامتطى صهوة سيّارته، وساق بسرعة هوجاء، تدلّ على مبلغ غضبه وتوتّره.. وكان يخطّط، والأفكار تنثال عليه من كلّ جانب: كيف يؤدّب هؤلاء الضبّاط الذين تجاوزوا حدّهم، ولم يستجيبوا لتعليماته الصريحة.؟ هل يستطيع أحدهم أن يستنصر بالوزير، فيمنعه من الانتقام منهم.؟! ومن الوزير إنّه يخاف منه ويحسب له ألف حساب.!

كان الطريق من مبنى إدارته إلى الشارع العامّ يزيد عن ثلاثة أميال، وهو طريق ضيّق، ذو اتّجاه واحد.. وكانت سرعته فيه تزداد كلّما ازداد توتّره، وبينما هو مستَغرَق في أفكاره وسورة غضبه، كان قد قارب الشارع العامّ، وهو بتلك السرعة المجنونة، وإذ بشاحنة تسحب وراءها مقطورة، قد امتلأتا بحمولة ثقيلة، ولكنّها مسرعة سرعة لا تتناسب مع حملها.. وتأتي بين يديها سيّارة العميد الطاغية، فتعجن لحمه بحديدها، وتسحق حديدها تحت قدميها.. وتنتهي قصّة طويلة، لخرافة طاغية صغير.. في لحظة من لحظات القدر.! وزاد في عبرة الدهر أنّ اللعنات تشيّعه كلّما ذكر.!

إنّه مغرور أحمق، تحدّى ربّه بزعمه فكيف كانت عاقبته.؟ لقد كتب الله عليه الموت شرّ ميتة، فهل من مدّكر.؟!

22 * مات والمصحف بين يديه:

هل سمعتم بمن يطلب الموت، والموت يفرّ منه.؟! إنّه المؤمن يطلب الموت في مظانّ مرضاة الله ومحابّه.. وهو في فسحة من الأجل، فيفرّ الموت منه، كما يفرّ الناس من الموت وهيهات لهم.! منذ سبعين سنة والشيخ محمود يطلب الموت في مظانّه.! ويأبى عليه الموت، ولا يستجيب له.. فنعم الحارس الأجل.. ولا نامت أعين الجبناء.! وها هو اليوم، وقد تجاوز التسعين من العمر هو أزهد ما يكون في الحياة، وهي تبدو أرغب ما تكون فيه.! فإلى متى يا ربّ.؟ ولم يعد له من أنيس في الحياة سوى كتاب الله.. كان يقضي كلّ يوم ساعات أمام كتاب الله، لا يملّ من تلاوته وتدبّره.. وساعات أخرى كانت مع كتب العلم.. إنّه يريد أن يذاكر العلم ولا ينقطع عنه.. ولعلّه أن يحشر مع أهل العلم يوم القيامة.! وصلّى الفجر بعض الأيّام، وتلا ما اعتاد عليه من الأذكار والأوراد، ثمّ بدأ بتلاوة القرآن من المصحف، فتلا سورة يس، ووقف عند آخرها.. وصعدت الروح إلى بارئها..

23 * هكذا مات جدّي.!

حدّثني والدي رحمه الله عن جدّي الشيخ حمّادة رحمه الله كيف كانت وفاته فقال: إنّ والدته حدّثته وكانت ملازمة لوالده في مرضه، أنّه قام إلى المرآة صبيحة اليوم الذي توفّي فيه، فشذّب لحيته، وأخذ من شاربه، وقال لزوجته ضعي ثياب صلاتك على رأسك ألا تعلمون أنّ الضيوف سيأتون بعد قليل، ثمّ جلس في سريره، وكانت زوجته تتلو عليه ختمة القرآن، فعندما تلت سورة " الناس " سمعته يقول: الله.. وفارق الحياة..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين