وقائع وأخبار فهل من مدكر؟ (1)

عندما يحلّ الموت بساحة أحد الأحياء تتوقّف الحياةُ عن مسارها قليلاً.. وتتغيّرُ بعضُ الأوصاف في الناس والأشيَاء: فالأمّ ثكلى.. والزوجة أرملة.. والأطفال أيتام.. والمالُ ينتقل عن ملك الميّت إلى وارثه.. والمكَان الذي كان يملأه الإنسان فارغ بانتظار من يحلّ فيه.. وربّما ارتفع أناس، وانخفض آخرون، واغتنى أناس، وافتقر آخرون.. وتنفّس أناس الصعداء، ودالت دولة آخرين، وودّعوا ما كانوا فيه من العزّ، أو التسلّط على عباد الله..

ويودّع الأحياء ميّتَهم إلى قبره.. مهما كان عزيزاً عليهم، ويتركونه ولا أنيس له إلاّ عمله.. ثمّ تَستأنفُ الحيَاة دورتها.. ويمضي الناس في جدّهم ولهوهم، وتنافسهم وتكاثرهم.. ويُنسى من مات إلاّ قليلاً.. فهل من مدّكر.؟! وهل ينفع الإنسَان إلاّ نفْسه.؟! فعلام الافتتان بالناس، والاغترار بالدنيا، والجري وراء الناس، والحرص على مرضاتهم.؟!

فسبحان من يقتل الجمل ليَطعَم الكلبُ والغراب.! ويقتل الأسد لتَطعَم توافهُ الدوابّ.!

يقول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ المَوْتُ قَالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ، كَلاّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا، وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} المؤمنون.

وقَالَ تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)} ق.

ويقول سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الغَفُورُ (2)} المُلْكُ.

فسبحان من قهر عباده بالموت، وجعل الإنسان مهما بلغ من القوّة والبأس لا يملك أمام الموت إذا نزل به أو بأحد أحبّته دفعاً ولا نفعاً.. والمادّيّون من البشر، الذين يسخر منهم الشيطان، ويتلاعب بهم في كلّ آن، لا يزالون يطمحون بما أوتوا من العلم القليل، ويؤمّلون أن يقضوا على الموت من حياة الإنسان.. وهيهات لهم هيهات.!

أسمعتَ خبر ذلك الطاغية المُلحد، الذي عاث عشرات السنين فساداً في الأرض.. وما أكثر أمثاله في دنيا الناس ! ثمّ جاءه الموت، وبُذل له آخر ما توصّل إليه العلم في الطبّ من أسباب.. وبقيت بعض أجهزة جسمه تعمل بطريقة كهربيّة آليّة.. ولكن ما فائدة ذلك، والجسم كلّه غَائب الوعي، فاقد الإحساس والشعور.؟!

وأمّا المؤمنون الموقنون بربِّهم فهم يعلمون أنّ الموت لا مفرّ منه، وأنّه يدرك الإنسان لا محالة، يقول الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ.. (78)} النساء.

وروي عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال:

أيّ يوميّ من الموت أفرّ ** يوم  لا يقدر  أم  يوم  قدر

يوم  لا  يقدر  لا أرهبه ** ومن المقدور لا ينجو الحذر

لقد تعوّذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من موت الفجاءة لما أنّ الإنسان غالباً ما يكون غير مستعدّ للانتقال من هذه الدار، أو يكون على حال من الغفلة أو المعصية، فيختم له بسوء الخاتمة، والعياذ بالله تعالى.. ولكنّ العاقل ينبغي أن يكون مستعدّاً للموت قبل نزول الموت، وهذا يتطلّب منه الاستقامة على دين الله في كلّ شأن من شئون حياته..

وما أكثر الأحداث والوقائع التي يعرفها كلّ إنسان منّا من موت الفجاءة.. الذي دهم بعض الناس على اختلاف أعمارهم وأحوالهم، فكان موتهم عبرة لمن حولهم، ولكنّها عبرة موقوتة قاصرة، ثمّ عاد الناس إلى ما كانوا عليه من لهو وغفلة..

وهذه الوقائع التي أقدّمها لك أخي القارئ ليست من بنات أفكاري، ولا من نسج الخيال، وإنّما هي ممّا أعرف أشخاصه حقّ المعرفة، أو ممّا سمعته من ثقاة الناس، وفيه العبرة والموعظة.. والسعيد من وعظ بغيره..

إنّها قصص ومشاهد واقعيّة، من حياتنا المعاصرة، أرويها لك، ولعلّك قد سمعت ببعضها، ولعلّك تعرف أكثر منها.. ولا نقصد بها شماتة بأحد أو تشهيراً، وإنّما نريد بها العظة للأحياء والاعتبار..

1 * مخطوبة والموت يخطبها !

ألم تسمع بخبر تلك الفتاة الجميلة الحسناء.. التي ابتسمت لها الحياة يوماً من الدهر، وأخفت لها ما لم يكن لها على بال.. لقد خطبها شابّ ثريّ، قدّم لها ما لا تطمح فتاة إلى مثله.. ففرحت بما قدّم، وفرح بها أهلها، ومضوا في تجهيزها بكلّ ما يخطر لهم على بَال.. وعندما قاربت يوم زفافها.. دهمها مرض لم يعرف له الأطبّاءُ سبباً ولا دواء، ولم يمهلها سوى أيّام.. حتّى زفّت إلى قبرها، بدل أن تُزَفّ العروس إلى عروسها، وهاجت الأحزان بالناس أيّاماً عليها، ثمّ نسيها الناس، ونُسي خبرُها، وتزوّج مَن خَطبها.. ومضى ركبُ الحياة بأهلها.. ألم يقل الشاعر العَربيّ قَديماً:

كُلّ امرئٍ مُصبّحٌ في أهله ** والموتُ أدنى مِن شِراكِ نعلِه

2 * في طريقه إلى الجامعة..

نال الشهادة الثانويّة بتفوّق، فتَفتّح الأملُ بالمستقبل المشرق في نَفس والديه، وأصبحت الأماني قريبة المنال، قاب قوسيْن أو أدنى.. وحمل أورَاقه ذات يوم مبكّراً إلى الجامعة، واستأذن والدهُ أن يأخذ سيّارته، فالجامعةُ بعيدة، وبينَ مدخلها وعمادة القبول والتسجيل مسيرَة ربع ساعة على الأقدام.. ولكنّ والده أدركته الشفقة، وخاف عليه من حادث.! فلم يأذن له.. فركب سيّارة عامّة، ونزل أمام مدخل الجامعة في الشارع المقابل، لقد أصبح قريباً من الأمل المنشود، وما هو إلاّ أن يقطع الشارع.. وبينما يهمّ بقطع الشارع فجأته سيّارة، تطير كأنّها الريح المدبرة، فحملته على واجهة زجاجها، لتلقي به بعيداً خمسة عشر متراً، تنزف دماؤه من كلّ جسده.. ليموت بعد لحظات قليلة.! لقد خاف عليهِ والده منَ القدر.! وهَل ينجي حذرٌ من قدَر.؟! لقد تبخّر الحلم، وتوارى مع الشابّ الغضّ الإهاب تحت التراب.. ومضى الناس يصنعون لأنفسهم من الأوهام حُلماً ورديّاً جديداً..

3 * ودّع زوجته ولم يعد إليها إلاّ محمولاً..

في الثلاثين من العمر، من أطول من رأيت من الرجال، ممتلئٌ شباباً وقوّة، لا يشكو مرضاً ولا علّة، قد وسّع الله عليه في كلّ شيء، واكتملت له مباهج الحياةِ بالزوجةِ الحسنَاء، وعدد من الأولاد.. خرج من بيته في جدّة لمصلحة تجاريّة له في ينبع، وأكّدت له زوجته ألاّ يتأخّر عليها.. فأكّد لها أنّه لن يتأخّر، فلن يأتي عليه الظهر إلاّ وهو في جدّة.. ولم يسر في طريق المدينة خمسين كيلاً، بسيّارته الفارهة الجديدة، حتّى شعر بثقلٍ في رأسه، فوقف إلى جانب الطريق، وأسند رأسه إلى مقود سيّارته.. وكان هذا آخر عهده من الدنيا.. وبعد يومين أعيد إلى زوجته محمولاً.. وتغيّر وجه الحياة لمن ترك بعده.. والبقاء لله وحده.. 

4 * مات وهو مسترخٍ على مكتبه..

المراجعون له لا تنتهي أعدادهم، من أوّل ما يدخل مكتبَه إلى أن تحين ساعة انصرافه، وإنّ منهم من يلحّ عليه لينجز له معاملته، ولو تأخّر في مكتبه بعد الانصراف نصف ساعة أو أكثر.. لقد كان يجد في عمله، وخدمة الناس لها لذّة في نفسه لا تعدلها لذّة، ولم يفكّر يوماً أن يغلق عليه مكتبه، ويحتجب دون الناس، ولو لدقائق، كشأن بعض زملائه الموظّفين.. ولكنّه اليوم يشعر بالإرهاق قد بلغ به الغاية، فلم يجد مناصاً من الاعتذار لمن في مكتبه، وأن ينتظروه خارج المكتب عشر دقائق فقط.. وأغلق الباب وراءهم، وتوسّد يديْه على مكتَبه.. وطال انتظار الناس نصف ساعة أو أكثر.. وازْدحم المراجعون أمام باب المكْتب.. ومرّ المدير، فتَعجّب.! " هل يعقل أن يكون مكتب أبي سعيد مغلقاً.؟! وحسب أنّه خارج مكتبه.. وازداد عجبه عندما قيل له: إنّه داخل المكتب، وقد أغلق عليه الباب منذ أكثر من نصف ساعة.! فارتابت نفسه ودخله الشكّ، ودفعه الريب أن ينظر إلى الرجل من الشبّاك الخلفيّ.. فوجده قد وضع رأسه على مكتبه وكأنّه نائم.. فارتاب لمنظره وهيئته.. فطرق عليه الشبّاك بقوّة.. فلم يستجب لطرقه.. وزاد في الطرق أكثر، ولكنّ الرجل مصرّ على عدم الانتباه أو المبالاة.. وشعر المدير بالحنق عليهِ لهذه السابقة غير المألوفة منه.. إنّه يغطّ في نَوم عميق.. ومتى كان المكتب مكاناً للنوم.؟! واقتُحم المكتب بعد ساعتين.. ليرى الناس أبا سعيد قد ودّع الحياة في مكتبه، الذي ألفه وأحبّه، وقضى فيه عشرين عاماً شطراً من حياته..

5 * كان يلعب بين أترابه..

فوّاز في الصفّ الرابع الابتدائيّ.. تتوثّب نفسه نشاطاً وحركة، وحيويّة ومرحاً.. وكعادته كلّ يوم ألقى محفظة كتبه.. وعمد إلى غرفة الطعام.. فوقف أمام المائدة لحظات ينظر أنواع المأكولات التي فيها.. فقالت له والدته كعادتها: من دون طيش اجلس، وكل بهدوء، فاللعب مع رفاقك لن يضيع عليك، ولكنّ فكره كان خارج البيت كلّه.. فما هي إلاّ لحظات ولقيمات.. ثمّ كان بين رفاقه، وقد تجمّعوا قبله، واستعدّوا للعب والمرح.. وتراكض الأولاد وتدافعوا.. وتشاكسوا واختلفوا، وفضّ الكبير فيهم كما اعتادوا ذلك منازعاتهم، وعادوا إلى اللعب من جديد.. وما هي إلاّ لحظات حتّى اصطدم فوّاز ببعض رفاقه وجهاً لوجه.. فوقع على الأرض مغمىً عليه.. وعبثاً حاول رفاقه إنعاشه.. وظنّوه أوّل الأمر أنّه يتصنّع ويكذب عليهم.. ولكنّه كان فاقد الوعي تماماً.. فاضطرّوا إلى إخبار أهله.. وعندما حضر أخوه الكبير وجده قد فارق دارَ اللهو واللعب إلى غير رجعةٍ إليها..

6 * أمام خزانة أمواله..

كان كثير من أصحابه يذكّرونه بفعل الخير بماله، فكانت كلمته لهم دائماً: " أجّلوا هذا الأمر.! "، فسمّاه بعض أصحابه: " أجّلوا هذا الأمر.! "، وسبقه بعضهم بهذه الكلمة قبل أن يقولها.. حتّى استحيا من نفسه.. ولكنّها لم تطاوعه أن يستجيب يوماً ليقدّم شيئاً من ماله في وجه من وجوه الخير.. وربّما ندّت منه كلمات يشكّك فيها بمن يجمع التبرّعات لأعمال الخير، ليبرّر إحجامه وتقاعسه..

وكان من عادته منذ عشرين سنة.. أن يخلو بنفسه، ويغلق عليه باب غرفته، لا ليذكر ربّه، ويؤدّي بعض حقّ ربّه عليه، وإنّما ليفتح خزانة أمواله، ويتفقّد ثرواته، فيقلّب شيئاً، ويعدّ آخر، ويفكّر في بعض أنواع الأوراق الماليّة، التي يحتفظ بها منذ سنين: أتربح اليوم أو تخسر.؟.. وربّما بقي في خلوته تلك ساعات متواصلة.. لا يكلّ ولا يملّ.!

وفي يوم من الأيّام وهو كذلك.. وبين يديه تلك الأوراق الماليّة القديمة، والحاسبة في يده يضرب ويقسم.. توقّف ذاهلاً أمام رقمٍ ظنّ أنّه غير صحيح.. فأعاد الحساب مرّة بعد مرّة.. لقد كان الرقم صحيحاً.. فازداد ذهوله، وارتعشت يداه.. فخرّ على تلك الأوراق الماليّة ميتاً.. كان شهيد المال أو قتيله.. فماذا نفعته تلك الأموال.؟!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين