هل يكفر من يحكم بغير الشريعة الإسلامية؟

نص الاستشارة :

ما حكم قائد الدولة أو الحاكم الذي لا يحكم بالشرع هل هو كافر أم لا، وأنا أعرف أنها مسألة خلاف بين الكفر الأكبر والأصغر ولكن الصواب والله اعلم أنه كافر، فما رأيكم؟.

وأيضا بغضِّ النظر عن الحكم بالشرع هل هناك حاكم عربي غير موالي للغرب وللكفار ويحبهم ويحبونه ويتلاطفون مع بعضهم ويتناولون الطعام سويا ويظهرون المحبة لبعضهم، و.... الخ أليست هذه موالاة تستوجب الكفر، هذا السؤال مني وأجيبوني بما يرضي الله.

الاجابة

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه وبعد:

بداية أتمنى على الأخ السائل أن يطرح سؤاله دون الإجابة والترجيح، لتشعر لجنة الإفتاء أنه يريد معرفة الجواب لا المناكفة.

أما بخصوص موضوع الحكم بغير ما أنزل الله، فنقول: الأصل فيمن ينتمي للإسلام أن يجعل منه دُستوراً ومنهجاً لحياته، فيَخضع لأحكامه، وينهل من معينه، وينتهج مِناهجَه، ويسلك سبله، ويعمل من أجله، ويدعو إليه.

ولعلَّ من أبرز القضايا التي يستند إليه المُتَشدِّدُون في الحكم على النَّاس بالتَّكفير، هي قضية عدم الحكم بما أنزل الله تعالى، ويستدلُّون بظواهر الآيات الثلاث التي وردت في سورة المائدة، وهي قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، فيحكمون بكفر كلِّ من لم يحكم بما أنزل الله تعالى، دون تفصيل أو بيان.

ولا بدَّ من القول: بأنَّ تقرير هذه المسألة ليس دِفَاعاً وتقليلاً من جَرِيرة وجَريمة هؤلاء المستهترين بشرع الله وأحكامه، بل هو بيان للحقِّ، ووضع للأمور في نِصَابها الصحيح، واتِّبَاع لمنهج أهل السُّنَّة والجماعة في ذلك، وحمايةٌ للمسلم من التَّسرع والمُجَازفة بأمر حَذَّرَنا الشارعُ من الوقوع فيه، ما لم نكن على يقين تامٍّ ينفي أيَّ شُبهة أو شَكٍّ في ذلك.

أمَّا هذه الآيات الثلاث السابقة: فقد ذهب بعضُ السَّلف وجماعة من أهل العلم إلى تخصيصها بأهل الكتاب، وذهب آخرون إلى أنَّها عامَّة في كلِّ من لم يحكم بما أنزل الله تعالى، استناداً إلى أنَّ العِبْرَة بِعُموم اللَّفظ لا بخصوص السبب. [انظر: تفسير الطبري 10: 353؛ تفسير القرطبي 6: 190]

قال ابن عطيَّة: ولا أعلم بهذا التَّخصيص وجهًا إلاَّ إن صحَّ فيه حديث عن النَّبيِّ، إلاَّ أنَّه راعى من ذُكر مع كلِّ خبر من هذه الثلاثة، فلا يترتب له ما ذكر في المسلمين إلاَّ على أنَّهم خُوطبوا بقوله: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]، وقال إبراهيم النَّخَعِي: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ثم رضي لهذه الأمة بها. [المحرر الوجيز 2: 196].

ونقل القرطبي عن ابن مسعود والحسن أنَّها عامَّة في كلِّ من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي: مُعْتَقِدًا ذلك ومُسْتَحِلَّاً له؛ فأمَّا من فعل ذلك وهو مُعْتَقِد أنَّه راكب مُحرَّم فهو من فُسَّاق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء عَذَّبه، وإن شاء غفر له.[الجامع لأحكام القرآن 6: 190].

أمَّا الحُكم بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله تعالى، فَنُورد فيه أقوالَ السَّلف وعلماء الأمَّة لِنَتَبيَّن وجهَ الحقِّ فيه:

1) قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]: « هي به كُفر، وليس كُفْرًا بالله وملائكته وكتبه ورسله». [انظر: تفسير الطبري10: 356؛ وتفسير البغوي 3: 61].

2) وعنه أيضاً أنَّه قال: «إنَّه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنَّه ليس كفرًا ينقُل عن الملِّة، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، كفرٌ دُونَ كفرٍ». [أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 342 برقم 3219 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي].

3) وقال طاوس: «كفرٌ لا ينقل عن المِلَّة، وقال عطاء: كفرٌ دونَ كفرٍ، وظُلْم دونَ ظُلْم، وفِسْقٌ دونَ فِسق». [جامع البيان للطبري 10: 356، وانظر: أحكام القرآن للجصاص 4: 93].

4) وقال عِكرمة البربري: «معناه: ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به فقد كفر، ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق». [انظر: تفسير البغوي 3: 61].

5) وقال علي بن حسين رضي الله عنهما: «ليس بكُفرِ شِركٍ، ولا ظُلمِ شرك، ولا فِسْقِ شِرك». [أحكام القرآن للجصاص 4: 93].

6) وقال عطاء:« كُفْرٌ دونَ كُفْر، وظُلمٌ دونَ ظُلمٍ، وفِسقٌ دونَ فِسقٍ». [انظر: تفسير الطبري 10: 356].

 

أمَّا أقوالُ العُلماء في ذلك:

1) قال ابن عَطيَّة (ت542هـ): «قالت جماعة عظيمة من أهل العلم: الآية مُتَنَاوِلة كلَّ من لم يحكم بما أنزل الله، ولكنَّه في أُمراء هذه الأمة كُفْرُ معصية لا يخرجهم عن الإيمان». [انظر: المحرر الوجيز 2: 196].

2) وقال ابن العَرَبي (ت543هـ): «إن حَكَمَ بما عندَه على أنَّه من عند الله فهو تبديل له يُوجِبُ الكُفرَ، وإن حَكَمَ به هوىً ومَعْصِية فهو ذنبٌ تُدْرِكُه المغفرةُ على أصل أهل السُّنَّة في الغُفْرَان للمُذنبين». [أحكام القرآن 2: 621].

3) وقال الفخر الرَّازي (ت606هـ): قالت الخَوارج كلُّ من عصى الله فهو كافر، وقال جمهور الأئمة: ليس الأمر كذلك، أمَّا الخوارج فقد احتجُّوا بهذه الآية، وقالوا: إنَّها نَصٌّ في أنَّ كلَّ من حَكَمَ بغير ما أنزل اللهُ فهو كافر، وكلّ من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله، فوجَبَ أن يكون كافراً.

وبعد أن استعرض أقوالَ العلماء وردودَهم على القائلين بالتَّكفير مُطْلَقاً، صَحَّحَ قولَ عِكرمة البربري في ذلك، وهو قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، إنَّما يتناول من أنكر بقلبه وجَحَدَ بلسانه، أمَّا من عَرَف بقلبه كونَهُ حُكْمَ الله، وأقرَّ بلسانه كونَهُ حُكمَ الله، إلاَّ أنَّه أتى بما يُضَادُّه، فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنَّهُ تاركٌ له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية، وهذا هو الجواب الصحيح، والله أعلم. [انظر: مفاتيح الغيب 12: 6].

 

والخلاصة ممَّا سبق: أنَّه لا بُدَّ من التَّفريق بين من يحكم بغير ما أنزل الله جُحُوداً له، أو استِخفافاً به، أو استِحلالاً لمخالفته، أو اعتِقَاداً بأنَّ حُكمَه هو الحَقُّ المُوَافقُ لـِمَا عندَ الله، وبين من يحكم بغير شَرعِ الله تعالى اتِّبَاعاً للهوى، ومعصيةً لله. فالأوَّل: كافرٌ مُرْتدٌّ لا خلافَ في ذلك، وأمَّا الثاني: فآثمٌ عاصٍ فاسقٌ، مُرْتَكِبٌ لكبيرة منَ الكبائر، لا تخرجه عن مِلَّة الإسلام.

إلاَّ أنَّ الخوارج ومن نهج نهجهم تأوَّلوا هذه الآية على تكفير كلِّ من ترك الحُكم بما أنزل اللهُ من غير جحود لها، وأَكْفَروا بذلك كلَّ من عصى الله بكبيرة أو صغيرة. [انظر: أحكام القرآن للجصاص 4: 94].

وأما موالاة الكفار التي تُخْرج صاحبها عن وصف الإيمان في اصطلاح أهل العلم: فهي نصرة أهلِ الكُفر، والرِّضا بدينهم ومعتقدهم، واتخاذهم أولياء من دون الله ورسوله والمؤمنين.

أمَّا موالاتهم بمعنى التَّعَاون معهم ومعاضدتهم ونحو ذلك، دونَ الرِّضا بمعتقداتهم، أو الإخلال بأصول الإيمان، فهو كبيرة من الكبائر، تُوقِع صاحبَها في غضب الله تعالى ومَقْتِه، ولكنَّها لا تُوصله إلى الكُفْرِ والردَّة عن دين الإسلام.

ولذلك لم يثبت عن أحد من علماء المسلمين أنَّه حَكَم بكفر الجَاسوس المسلم لأهل الكفر، لعدم اعتبار فعله مُوَالاة مُكَفِّرةً، وإن كان كبيرة من الكبائر، وخيانة لجماعة المسلمين، فقد قال القاضي أبو يوسف مُجيباً على أسئلة هارون الرشيد: «وسألتَ يا أميرَ المؤمنين عن الجواسيس يوجَدُون وهم من أهل الذِّمَّة أو أهل الحرب أو من المسلمين، فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذِّمَّة ممن يؤدي الجِزية من اليهود والنصارى والمجوس فاضرب أعناقهم، وإن كانوا من أهل الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبة، وأطِلْ حبسَهم حتى يُحْدِثوا توبة». [كتاب الخراج ص189 ـ190]

وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني: «وإذا وَجَدَ المسلمون رجلاً - ممَّن يدَّعي الإسلامَ - عيناً للمشركين على المسلمين، يكتب إليهم بعوراتهم، فأقرَّ بذلك طَوعًا، فإنَّه لا يُقتَل، ولكنَّ الإمام يُوْجِعُه عقوبةً»، ثمَّ قال: «إنَّ مثله لا يكون مسلمًا حقيقة، ولكن لا يُقتل لأنَّه لم يترك ما به حكمنا بإسلامه، فلا نُخْرِجُه من الإسلام في الظاهر، ما لم يترك ما به دخل في الإسلام، ولأنَّه إنَّما حمله على ما صنع الطمعُ، لا خُبْثُ الاعتقاد، وهذا أحسن الوجهين، وبه أُمِرنا». [انظر: شرح كتاب السير الكبير 5: 2040].

وقال القاضي عياض: «التَّجَسُّس لا يُخرج عن الإيمان». [إكمال المعلم بفوائد مسلم 7: 539].

وقال الإمام النووي: «الجاسوس وغيره من أصحاب الذُّنوب الكبائر لا يَكفُرون بذلك». [شرح صحيح مسلم 8: 54].

وقال ابن حجر: «نقل الطَّحاوي الإجماعَ على أنَّ الجاسوس المسلم لا يُبَاح دمُه، وقال الشافعية والأكثر: يُعَزَّر، وإن كان من أهل الهيئات يُعْفَى عنه، وكذا قال الأوزاعي وأبو حنيفة: يُوجَعُ عقوبةً ويُطَال حَبْسُه». [انظر: فتح الباري 12: 310].

وأمَّا مُجَرَّد المعاملة مع أهل الكفر دونَ مُخَالطةٍ أو مُلابسةٍ فلا تدخل في دلالة لفظ الولاية المَنهِي عنها، فقد جاءتِ النُّصوص الدَّالة على جواز ذلك، وثبتَ من فعل النَّبيِّ أنَّه عامل اليهود، وعَادَ مَرضاهم، وأجاب دعوتهم، وعاهدهم، وماتَ ودِرعُه مَرهُونة عند يهودي، وأجاز الإسلام نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم.

ولمن يريد التوسع ينظر أقوال المفسرين في الآيات التي وردت في الولاية:

وفيما يأتي أقوالُ علماء التفسير التي تؤكِّد ما سبق تقريره: تفسير الطبري 10: 398. وينظر: مفردات الراغب 2: 535. تفسير الرازي 12: 15. وينظر: تفسير البغوي 3: 68؛ وتفسير القرطبي 6: 217.

ونقتصر على كلام ابنُ عَطيَّة فقد قال: «نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتِّخَاذ اليهود والنَّصارى أولياءَ في النُّصرة والخُلطة المُؤدِّية إلى الامتزاج والمُعَاضدة، وحُكمُ هذه الآية باق، وكلُّ من أكثر مخالطةَ هذين الصنفين فله حَظُّه من هذا المَقْت الذي تضمَّنه قولُه تعالى: (فإنه منهم)، وأمَّا معاملةُ اليهوديِّ والنَّصرانيِّ من غير مُخَالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النَّهي، وقد عامل رسول الله يهوديًا وَرَهَنه دِرْعَه».

ثم قال: «قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، إنحاء على عبد الله بن أبيّ وكلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفة من موالاتهم، ومن تولَّاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النُّقمة والخلود في النَّار، ومن تولَّاهم بأفعاله من العَضد ونحوه دون معتقد ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المَقْت والمَذَمَّة الواقعة عليهم وعليه». [المحرر الوجيز 2: 203 ــ 204].

وبيَّن الإمام ابن تيمية بأنَّ المُوَالاة والمُوَادة المُخْرجة عن المِلَّة محلُهَا القلب، وإن طُلِبَ من المؤمنين مخالفةُ أهلِ الكُفر في الظاهر أيضاً، فقال: والموالاة والمُوَادَّة وإن كانت متعلقةً بالقلب، لكنَّ المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم ومشاركتهم في الظاهر.[انظر: اقتضاء الصراط المستقيم ص 160 ـ 161].

وأمَّا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23]

فقال ابن عَطيَّة: «حَكمَ اللهُ عزَّ وجلَّ بأنَّ من والاهم واتَّبَعهم في أغراضهم فإنَّه ظالم، أي: واضع للشيء غير موضعه، وهذا ظلمُ المعصية لا ظُلمُ الكُفر». [المحرر الوجيز 3: 18].

قلتُ: وأمَّا إن وَصَل التَّعاونُ مع الكَفرة ومتابعتهم في أغراضهم إلى حَدِّ الرِّضَا بكفرهم، فلا شكَّ أنَّه يُحْكم على صاحبه بالكفر؛ لأنَّ الرِّضا بالكفر كفر.

وأما قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] التي نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، فقد قال الإمام الطِّيبي: «ما فعله حاطبُ كان كبيرةً قطعاً؛ لأنَّه تضمَّن إيذاءَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57]، ولا يجوز قتله؛ لأنَّه لا يكفُر به». [الكاشف عن حقائق السنن 12: 3940].

وقال الإمام القُرطبي عند تفسير هذه الآية: «من كَثُر تطلُّعُه على عورات المسلمين، ويُنَــــبِّهُ عليهم، ويُعَرِّفُ عَدوَهَم بأخبارهم، لم يكن بذلك كَافرًا، إذا كان فِعْلُه لِغَرض دنيويٍّ، واعتقادُه على ذلك سليم؛ كما فعل حاطبُ حين قصد بذلك اتخاذَ اليد، ولم ينوِ الرِّدَّة عن الدِّين». الجامع لأحكام القرآن 18: 52.

ثمَّ قال: «إذا قلنا لا يكون بذلك كافرًا، فهل يُقتل بذلك حَدًا أم لا؟ اختلف النَّاس فيه؛ فقال مالك وابن القاسم وأشهب: يجتهد في ذلك الإمام، وقال عبد الملك: إذا كانت عادته تلك قُتِلَ؛ لأنَّه جَاسُوس، وقد قال مالك بقتل الجاسوس، وهو صحيح لإضراره بالمسلمين، وسعيه بالفساد في الأرض، ولعلَّ ابنَ الماجشون إنَّما اتَّخذ التَّكرار في هذا؛ لأنَّ حَاطبًا أُخِذَ في أوَّل فِعلِه». الجامع لأحكام القرآن 18: 53.

وعلى فرض أنَّه حصلت نوعُ مودة لكافر لأمر ما، دون الرِّضا والميل لمعتقده، فإنَّ ذلك لا يقتضي الحكم بكفره، وإن كان فعله هذا يُنقص من كمال إيمانه، قال ابن تيمية: «وقد تحصُل للرَّجل مُوَادَتُهم لِرَحم أو حَاجة، فتكون ذنبًا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرًا، كما حصل من حاطب بن أبي بَلْتَعَة، لمَّا كاتَبَ المشركين ببعض أخبار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم، وكما حصل لسعد بن عُبَادة لمَّا انتصر لابن أُبَيّ في قِصَّة الإفك..». انظر: مجموع الفتاوى 7: 522 ـ 523.

وخلاصة ما سبق: هو أنَّ مجرد التَّعامل مع الكفار لا يتعارض مع مبدأ البَرَاء من مُعتقداتهم وملَّتهم، كما أنَّ حُسْنَ التَّعامل مع من لا يناصِبُ المسلمين منهم العِدَاء هو ديننا وأخلاقنا. والله أعلم.


التعليقات