صحيحٌ أن المعنى الأصلي للجهاد هو القتال بالسلاح، ولكن ربنا تبارك وتعالى وسّع معناه حتى لا يتوهم أحد أنه قتال فحسب، فذكر الجهادَ بالمال والجهادَ بالنفس، بل قَدّم الأولَ على الثاني حيثما ذُكرا في القرآن الكريم. لماذا يا ترى؟ لسبب بسيط، لأن القتال يحتاج إلى مال، فإذا انقطع المال انقطع الجهاد كله، ولو أن الناس اطّلعوا على ما يُنفَق في المعارك في سوريا فإنهم قد يُصابون بالذهول، لأنهم سيكتشفون أن معركة صغيرة لا يتجاوز طولها عدة ساعات قد تحرق مئة ألف دولار من الذخائر، أما الحملات الكبرى لتحرير القواعد والمعسكرات فإنها تكلف ملايين.
لذلك كان الجهاد بالمال هو رأس الهرم وهو المقدَّم بالذكر والعمل، فإن المجاهدين يحصلون على المال أولاً، ثم يشترون السلاح والذخيرة ويبدؤون بالجهاد. فمَن شكا مِن بُعده عن الميدان وعجزَ عن الجهاد بالنفس فأيّ عذر يَعذره إذا تخلف عن الجهاد بالمال؟ "مَن جهّز غازياً فقد غزا"، وكلفة تجهيز الغازي لا تتجاوز ثلاثة آلاف دولار. هل يعدل هذا المبلغ الهزيل شرفَ المشاركة في الجهاد وأجرَه العظيم؟
على أن الجهاد أوسع من ذلك بكثير، فهو ليس بالنفس والمال فحسب. إن الحرب تحتاج إلى مقاتلين في الصفوف الأمامية وإلى داعمين في الصفوف الخلفية (أو ما يسمّى الدعم اللوجستي)، بما في ذلك شراء وتصنيع السلاح والذخيرة، وتوفير المأوى والغذاء والكساء للمقاتلين، وتغطية الخدمات الإعلامية للمعركة، ورعاية وكفالة أسر المجاهدين والشهداء، وتقديم الخدمات الإعاشية والإغاثية والطبية والتعليمية للحاضنة الشعبية التي تحتاج المعركةُ إليها حاجتَها إلى المقاتلين.
كل من ساهم بشيء من ضرورات واحتياجات المعركة فهو شريك في الجهاد، لأن كل مقاتل بالسلاح يحتاج وراءه إلى عشرين داعماً أو ثلاثين، ولولا الدعم الشعبي والحاضنة الشعبية لما استمر الجهاد شهراً من الزمن. ولا يستطيع أن يقرر نوعَ الجهاد المناسب لكل واحد من الناس أفضلَ مما يصنعه المرء لنفسه، المهم أن توجد النية الصادقة وسوف يجد كل واحد له مكاناً ودوراً فاعلاً في الثورة.
إن الصلاة من أكبر الفرائض والقيام ركن فيها، لكن ماذا لو عجز المصلي عن القيام؟ يصلي قاعداً، وإذا عجز عن القعود يصلي مستلقياً. المهم أن يصلي ولا يترك الصلاة ولو برموش عينيه. فإذا عجز المجاهد عن الجهاد بالنفس فليجاهد بغير النفس، فإن الجهاد ينتقل إلى أي نوع من الأنواع الأخرى التي مثّلتُ لبعضها في الفقرة السابقة، لذلك قال القرطبي في الجامع (8/151): "يتعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه كل على قدر طاقته".
إن التنوع والتكامل في العمل الثوري ضروري حتى لا تبقى ثغرةٌ مكشوفةً، وعبارة "كل على قدر طاقته" في النص السابق تشمل كل عمل يطيقه الإنسان، القتال بالسلاح وغيره، بل يبدو لي أنه يرتّب الأولويات الأَولى فالأَولى، فمَن كان قادراً على تقديم العلاج فتقديمُه أولى من القتال، لأنه يمكن أن ينقذ من الموت -بأمر الله- طائفة من المجاهدين. ومثله في الأهمية مَن كان على ثغرة التموين والنقل والاتصالات والاستخبارات وغيرها من الخدمات، فإن الجهاد المسلح يحتاج إليها كلها ولا بد منها لنجاحه.
وإننا لنجد تطبيق ذلك في الجيوش المعاصرة، فإن الجيش ليس مجموعة من "الأسلحة القتالية" فحسب (تُطلق كلة "سلاح" في التعبير العسكري على المنظومة العسكرية المختصة، بما فيها من أفراد وتجهيزات) كسلاح الدروع والمشاة والطيران والمدفعية، بل إنها تضم أيضاً مجموعة مهمة من "الأسلحة المساندة"، كسلاح التموين والنقل والهندسة والإشارة (الاتصالات) والتوجيه المعنوي (الدعوة) والاستخبارات. ألا يُعتبر كل من خدم في أي سلاح من تلك الأسلحة مشاركاً في المجهود الحربي؟ إن سائق ناقلة الدبابات لا يحمل السلاح، ولا يحمله طبّاخ الفرقة وعنصر الإشارة والمهندس الذي يزرع الألغام ويبني الجسور، ولكنهم جميعاً ضروريون للمعركة كضرورة المقاتلين، ولو توقفت كل تلك الأسلحة المساندة عن العمل فسوف يتحول الجيش إلى أفراد عاجزين وأكوام من حديد!
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول