هل هي حرب صليبيّة؟

 

كلما تعرض المسلمون لعدوان جديد عاد إلى الصدارة ذلك السؤالُ الأزليّ الشهير: هل تتعرض أمتنا إلى حرب صليبية يشنّها عليها العالَم النصراني، أم أن هذه الحرب المزعومة خيالات وأوهام؟

 

-1-

 

لتسهيل الجواب سأقسم السؤال إلى قسمين: هل تتعرض أمتنا إلى حرب؟ هل هي حرب صليبية؟ فأما السؤال الأول فهو من باب "الحقائق" المشاهَدة، فلا يحتاج إلى برهان ولا حاجة للاسترسال في جوابه. بقي الثاني، وهو يحتاج إلى شيء من الاستقصاء.

 

إن أمتنا المسلمة تخوض مع أمم الغرب حرباً شرسة منذ قرون، بل الأصح أن نقول إنها تتعرض إلى عدوان فظيع منذ قرون، لأن الحرب إنما تكون بين طرفين متكافئين وإنما هي سجال، كَرٌّ وفَرٌّ، وأمّا نحن فالمَذبوحون أبداً وأمّا هم فالذابحون على الدوام.

 

إنها حرب شرسة قذرة لا يحكمها خُلُق ولا قانون إلا قانون الغابة الشهير: "القوي دائماً على حق". ولو قرأنا بعض أخبار الفرنسيين في الجزائر والطليان في ليبيا والإنكليز في الهند والهولنديين في أندونيسيا أثناء سنوات الاستعمار لهان في أعيننا كل ما رآه أهل سوريا في ثورتهم وما لقيه أهل فلسطين منذ سقوط فلسطين. ولماذا أذهب بعيداً وهذا المثال قريبٌ في المكان والزمان: إن إخواننا في العراق يلقَون من الروافض في اليوم الواحد أكثر مما لقيه أهل غزة من اليهود في بضع سنين.

 

-2-

 

بقي تصنيفُ وتفسير هذه الحرب: هل هي حرب صليبية كما يقول فريق، أم أنها حربُ مصالح كما يقول فريق آخر؟ ولكن لماذا تضييق الواسع واختزال الجواب؟ ألا نستطيع الجمع بين الدافعَين، فنقول إنها حرب مصالح وإنها حرب دينية في ذات الوقت؟

 

لقد استباحت أممُ الغرب النصرانية من الكرة الأرضية كلَّ قطعةٍ وصلت إليها جيوشُها وأساطيلها، فاحتلت العالَمَ وعاثت فيه الفساد طوال القرون الستة الأخيرة، وابتُليت بها أمم مسلمة وغير مسلمة على السواء، من الأمة المسلمة بطولها وعرضها إلى الصينيين البوذيين إلى الأفارقة الوثنيين إلى السكان البدائيين في العالم الجديد (في أوقيانوسيا والأمريكتين).

 

العالَم غير النصراني كله سقط ضحية للغزو النصراني المعاصر؛ لم تَنجُ من هذا الشر من بين أمم الدنيا كلها إلا بلدان معدودة، كاليابان وتركيا وأثيوبيا والسعودية واليمن الشمالي ومناطق أخرى قليلة. هل تتصورون؟ الدنيا كلها أو أكثرها احتلتها مجموعةٌ من الدول الأوروبية: إسبانيا والبرتغال أولاً، ثم بريطانيا وفرنسا وهولندا، ثم روسيا القيصرية وألمانيا وبلجيكا وإيطاليا، وأخيراً الولايات المتحدة الأمريكية.

 

هذه الدول الغربية النصرانية العشر احتلت الدنيا!

 

-3-

 

لا ريب أن الذي دفع تلك الدول إلى اجتياح العالم واستعمار أممه (أو استخرابها بتعبير أصحّ) كان الطمعَ في خيراتها وثرواتها الهائلة، فنشأت تلك الحروب -بدءاً من عصر "الكشوف الجغرافية" في القرن الميلادي الخامس عشر- بهدف التوسع خارج القارة الأوروبية الهَرِمة المزدحمة وفَتْحِ طرق التجارة والملاحة والسيطرة على الثروة والموارد.

 

من الصعب أن نميّز في المراحل المبكرة لتلك الحملة الاستعمارية العالمية استهدافاً "خاصاً" للإسلام، لكننا نستطيع أن نستبين بوضوح عاملاً دينياً عاماً كان من الدوافع المحرِّكة لتلك الحروب، فكانت النزعة التنصيرية (التبشيرية) ظاهرة فيها، وكانت كتائب المبشرين تمشي مع الجيوش المستعمِرة جنباً إلى جنب. وقد حفظت لنا سجلات التاريخ ما لا يكاد يُصدَّق من المآسي والأهوال التي نشأت عن ذلك التحالف الشرير بين التبشير والاستعمار (التنصير والاستخراب)، ولا سيما في العالم الجديد (في الأمريكتين) وفي وسط وجنوب القارة السوداء.

 

-4-

 

انجلت الحرب الاستعمارية عن سيطرة مطلقة أو شبه مطلقة للغرب النصراني على العالم كله، ولم يَبْدُ أن أحداً يستطيع الوقوف في وجه ذلك الاجتياح الطاغي، وصار الحلم الغربي النصراني أقربَ إلى التحقيق بصناعة كوكب تقتسمه طائفتان: غالب ومغلوب. الغالب أوروبي المنشأ أبيض البشرة نصراني الديانة رأسمالي الفكر، والمغلوب مسلوبُ الإرادة والهُويّة، تابعٌ لذلك المغلوب في شأنه كله.

 

وكاد الأمر ينتهي إلى ذلك لولا أنّ في الدنيا أمّةً دينُها الإسلام. انهارت أمم الدنيا كلها وتحطمت دفاعاتها وفقدت هُويّاتها الثقافية وذابت في المشروع الحضاري الغربي، وبقيت أمة واحدة في حالة مقاومة دائمة. أمة واحدة تمردت على النظام العالمي وأبَتْ أن تذوب في نموذجه الحضاري، أمة استطاع مخزونُها الثقافي الهائل أن ينافس المخزون الثقافي الطاغي للحضارة الغربية المهيمنة، فصمدت وتكسّرت على شطآنها أمواجُ المَدّ الحضاري الغربي الذي اجتاج سائر أمم الأرض.

 

وهنا جاء القرار: ما دام الإسلام هو الحاجز الدفاعي الذي يحول دون تغريب العالم فلا مَناصَ من الصدام.

 

-5-

 

الجملة الأخيرة ليست كلاماً إنشائياً حماسياً، بل هي عقيدة يعتقدها النظام الغربي الاستعماري اليوم، وقد تبلورت في العقدين الأخيرين في صورة نظرية سياسية مهيمِنة على دوائر صناعة وتوجيه القرار الأمريكي. وليست بعيدةً الضجّةُ الهائلة التي أثارتها مقالةُ اليهودي الأمريكي السيّئ الذكر صاموئيل هنتنغتون "صراع الحضارات" في مجلة "شؤون دولية"، ثم كتابُه الذي يحمل العنوانَ نفسه، وكتابُ "نهاية التاريخ" لسيّئ الذكر الآخر فرانسيس فوكوياما.

 

خلاصة الكتابين (للذين لم تسنح لهم الفرصة لقراءتهما) هي أن الحضارة الغربية هي الشكل الأمثل للعالم المعاصر، وهي نهاية التطور التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي للجنس البشري، ويجب أن يُحمَل عليها العالم كله، وقد بلغت أوجَ قوتها في هذا العصر، ولا يمكن أن يقف في وجهها على المستوى العالمي إلا حضارتان، حضارة الصين وحضارة الإسلام! الصين ليست خصماً للغرب بل هي "الشريك في الرخاء" (حسب تعبير هنتنغتون نفسه)، أما الحضارة الإسلامية فيعلم الغرب أنها هي الخصم الحقيقي الوحيد لحضارته على المدى الطويل.

 

هذا ليس كلاماً إنشائياً كما قلت، فعندما يُنشَر مقال في مجلة "شؤون دولية" يُفهَم ضمناً أنه سياسة أمريكية، لأن هذه المجلة -لمن لا يعرفها- ليست من مجلات العامة، بل هي دورية فصلية يقتصر توزيعها على صانعي القرار في الولايات المتحدة، من سياسيين وخبراء وأكاديميين، ودورها أقرب إلى "توجيه" السياسة الخارجية الأمريكية منه إلى عرضها وتفسيرها.

 

-6-

 

المعنى السابق لخّصه تلخيصاً حسناً الدكتور محمد عمارة في كتيّب له صغير قيّم اسمه "عالمنا: حضارة أم حضارات؟" ساق في مقدمته كلاماً نافعاً عن الفرق بين الحضارات المختلفة، فأكثر الحضارات المعروفة في التاريخ كانت حضارات محلية لم تمتلك عبر تاريخها إمكانات المنافسة العالمية (كالحضارتين الصينية والهندية مثلاً) ومن ثَمّ فإنها لم تكن، حتى في مراحل قوتها وعنفوانها، خصماً للحضارة الغربية التي تهيمن على مقدَّرات العالم منذ قرون. أما الحضارة الإسلامية فإنها استثناء من تلك القاعدة، فهي ذات تأثير كبير خارج حدودها ولها قبول عالمي، وهذا هو السبب الذي جعل هاتين الحضارتين خصمين كبيرين على مدى التاريخ.

 

وقد ساق في كتابه عدداً من النصوص المنقولة عن مصادر غربية ذات مرجعية، وهي كلها تدل على أن الحرب الغربية الاستعمارية على عالمنا هي حرب دينية بالأساس، أي أن كوننا مسلمين هو السبب الرئيسي في تعرضنا للهجمة الغربية المستمرة منذ عدة قرون.

 

لن أنسخ هنا كثيراً من تلك النصوص، يكفي أن أنقل فقرة صغيرة نُشِرت في مجلة "شؤون دولية" في بداية عام 1991، جاء فيها: "إن النظرية التي يعتنقها علماء الاجتماع (أي في الغرب) والتي تقول إن المجتمع الصناعي والعلمي الحديث أقوى من الإيمان الديني هي نظرية صالحة على العموم، لكنّ عالَم الإسلام استثناءٌ مدهش جداً من هذه النظرية. إن الإسلام مقاوِم للعَلْمنة مهما كانت النظم السياسية التي تحكمه، وسيطرة الإسلام اليوم على المؤمنين به أقوى مما كانت قبل مئة سنة. إن الإسلام هو الثقافة الوحيدة القادرة على تحدي الحضارة الغربية، لذلك فإنه من بين جميع الثقافات الموجودة في الجنوب (أي خارج "الشمال" الغربي الصناعي المتقدم) هو الهدف المباشر للحملة الغربية الجديدة"!

 

-7-

 

الخلاصة: لقد كانت رغبة الدول الأوروبية في الهيمنة والاستغلال الاقتصادي هي السبب الأصلي وراء حملة الحرب الاستعمارية في البداية، لكن تلك الحملة انحسرت اليوم عن أكثر دول الأرض، وبقيت الأمة المسلمة وحدَها هدفاً للحرب ونهباً للغرب.

 

في العالم اليوم "عُقَد إستراتيجية" كثيرة، من بحر اليابان شرقاً إلى قناة بنما غرباً، فلماذا لم تعصف الحروب بأي منطقة منها ولم تتعرّض للدمار والخراب المنهجي الشامل كما حصل في الدول الإسلامية، من أفغانستان إلى الصومال والبوسنة والشيشان وسوريا والعراق؟ لماذا يمتد قوس الأزمات المعاصر (القوس الأوراسي) تحديداً عبر مناطق المسلمين؟ في العالم دول كثيرة تسعى إلى السلاح النووي الذي يهدد السلام والأمن الدوليين، من كوريا الشيوعية إلى الهند الهندوسية إلى إيران الرافضية إلى الدولة اليهودية في فلسطين، فلماذا يكون مقبولاً حلالاً عليهم جميعاً ويكون حراماً على بلدان المسلمين فتُضرَب المفاعلات في باكستان والعراق؟ لماذا يجوز للمتشددين والمتعصبين من النصارى واليهود والهندوس أن يُنشؤوا الجماعات ويُؤسّسوا الدول، ويُحرَم المسلمون من حق إنشاء جمعية خيرية في أقصى الأرض، أو إدارة قطاع من الأرض طوله خمسون كيلاً في أدناها؟ لماذا توقفت الحرب العالمية الاستعمارية ضد دول الأرض جميعاً وبقي المسلمون وحدهم هدفاً لها؟ ولماذا ولماذا ولماذا؟

 

الجواب في خبر السماء، في النص المُعْجِز الخالد على مَرّ الزمان: "ولا يزالون يقاتلونكم". نعم، إنها حرب مصالح وأطماع وحرب نفوذ وثروات، ولكنها حرب صليبية أيضاً، والهدف هو الإسلام والضحية هم المسلمون.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين